إشراقات

دين العدالة والنزاهــة

19 سبتمبر 2019
19 سبتمبر 2019

د. صالح بن سعيد الحوسني -

«قيم الإسلام واضحة في تأكيد الأسس القويمة التي ينبغي أن يتعامل بها الناس فالعدالة والنزاهة سمة المسلم في تعامله مع كل البشر، فالمخالفة في العقيدة والفكر لا تبيح الخديعة وبخس الحقوق والتعدي على الملكية الخاصة وأكل أموال الناس».

اُختتم وحي السماء بدين الإسلام العظيم الذي هو دين الرحمة والتسامح والإخاء، بل لا نعدو مبالغين إن قلنا بأن السلام والتسامح هو منطلق هذه الرسالة العظيمة الخاتمة وغايتها، كما نجد ذلك واضحا في قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، فهو أي الإسلام دين رحمة وسلام لجميع العالمين وليس للبشر فقط.

وإذا كان العالم قد وضع يوما للسلام وهو ما يقع به التأكيد والتذكير بيوم السلام العالمي فإن الإسلام بتعاليمه وإرشاداته القويمة يرسخ قيم السماحة والخلق القويم بين البشر جميعا في كل الأوقات والأحوال، كما يدل على ذلك قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، فوحدة المنشأ التي أكد عليها القرآن تدل دلالة واضحة على ضرورة التعامل بمبدأ السماحة والسلام مع جميع البشر لا فرق في ذلك بين أبيض وأسود أو أصفر وأحمر فجميع البشر انحدروا من أب واحد وهو ما يدفع تلك النعرات والأصوات المجحفة بحق الآخرين أو تلك التي ترفع من شأن عرق أو جنس أو قبيلة على أخرى بمجرد أن به بعض الصفات الخَلقية تخالف الآخرين فهي في نظر الإسلام عنصرية بغيضة مقيتة لا تمت إلى الإسلام بصلة بل جاء الإسلام لمحاربتها والقضاء عليها، وثمة ملمح آخر نجده في تضاعيف هذه الآية الكريمة وهي أن هذا الاختلاف والتنوع بين البشر إنما هو لأجل التعرف والتعارف والإتلاف والتعاون فتعدد الألسنة، وتنوع المهارات والميول الفكرية والمواهب يؤذن بالتكامل والوفاء بالحاجات المختلفة، وهذا أيضا ما أوضحته الآية الكريمة في صدر سورة النساء وزادته بياناً عندما قال تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا)، فهنا التأكيد على أصل الخلق الذي ينبغي أن يلتف حوله جميع البشر بطريقة ملؤها السماحة والإخاء والتسامح.

ونجد في هدي النبي صلى الله عليه وسلم تأكيدا واضحا لبيان أن لون البشرة لا دخل له في أي مزية على الآخرين بل نجد التشنيع والتقريع واضحا لمن يخالف هذا المبدأ الرصين فتروي لنا كتب السنة أن رجلا من الصحابة اختلف مع أخيه وكان ذا بشرة سوداء فقال له: يا ابن السوداء، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فغضب عليه فقال له: «أعيرته بأمه؛ إنك امرؤ فيك جاهلية»، وهكذا ظهر لذلك الصحابي عظيم الجرم الذي وقع فيه فما كان منه إلا أن وضع خده على الأرض، وأمر صاحبه الذي أخطأ في حقه أن يطأ بقدمه عليه؛ تعبيرا عن خطئه في حق أخيه، وتأكيدا للأمر المستقر في النفوس بأن الناس سواسية لا يتفاضلون بأشكالهم أو ألوانهم وإنما بمقدار قربهم إلى الله تعالى وهو أمر يعلمه علام الغيوب، ولذا جاء في بعض الروايات: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وألوانكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم».

ونجد بأن التأكيد على جانب الأخلاق واضحا جليا في تضاعيف هذه الرسالة العظيمة، وهو أمر تحدث عنه رسول الإنسانية عندما قال: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، وكان الرسول الخاتم هو القدوة في هذا الجانب وقد وصفه عالم السر وأخفى بوصف لم يصل إليه غيره عندما قال في شأنه: (وإنك لعلى خلق عظيم)، ومظلة الأخلاق هذه تشمل جميع البشر على اختلاف أشكالهم وأديانهم وأحوالهم، فعندما أمرنا الله تعالى بالكلام الحسن في قوله تعالى: (وقولوا للناس حسنا) فإن المعنى المتبادر الذي يفهمه أدنى مطلع أن ذلك أمر عام لجميع البشر وذلك بتغليب الإحسان والكلام الطيب الرائق المقبول الذي يخلو من التجريح والإيذاء والهمز واللمز ليشمل الجميع المؤمن والكافر والأبيض والأسود والقريب والبعيد والرجل والمرأة والصغير والكبير.. وكذا الحال عندما نهانا المولى الكريم عن السخرية بالآخرين فقال سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم، ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن..) فهنا جاء الخطاب عاما ليشمل مفهومه جميع البشر تأكيدا لمبدأ السماحة والاحترام المتبادل بين البشر جميعا وهكذا الكثير من الأوامر القرآنية التي نجدها تنهج هذا المنهج لتأسيس قواعد السماحة والاحترام بين البشر جميعا.

ودائرة التسامح في الإسلام تبدأ بتأكيد صلات القرابة بين الإنسان وذويه أولا بداية من الوالدين الذين هم على قمة هرم الاحترام والتقدير من التوقير والرعاية والعناية وقضاء الحوائج ونحوها حتى وإن كان الأبوان كافرين فهذا لا يعفى الأبناء من برهما والإحسان إليهما، وتمتد صلة التسامح لتشمل ذوي القربى من الأهل والأرحام جميعا وذلك بوصلهم والإحسان إليهم حتى وإن كانت معاملة أولئك القربى سيئة فالواجب مبادلتهم بالإحسان والمعروف والسماحة.

وقد كانت قيم الإسلام واضحة في تأكيد الأسس القويمة التي ينبغي أن يتعامل بها الناس فالعدالة والنزاهة سمة المسلم في تعامله مع كل البشر، فالمخالفة في العقيدة والفكر لا تبيح الخديعة وبخس الحقوق والتعدي على الملكية الخاصة وأكل أموال الناس كما قال تعالى: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى)، وقال ربنا موجها عباده: (ويل للمطففين الذين إذ اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم)، وهو أمر عام بعدم التطفيف في الكيل لجميع الخلق، وها هو نبي الإنسانية العظيم يوجه المسلمين لذلك عندما يقول: «رحم الله رجلا سمحا إذا باع، سمحا إذا اشترى، سمحا إذا اقتضى»، فمن كان دأبه وشعاره السماحة فهو في بيعه وشرائه وقضائه موفيا سخيا كريما لا يماطل في حق، ولا يهرب من دين، ويقدر للمواقف حقها فتسخو نفسه إحسانا وكرما لرغبته في أن يناله دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة والغفران.

ونجد دعوة القرآن واضحة جلية بالمسارعة إلى الخلق الحسن الذي يقرب الآخرين من هذا الدين عندما دعانا إلى جنة عرضها السماوات والأرض لتشتاق النفوس إليها، وعندما فصل في شأن أولئك المتقين الذين ينالهم هذا الإحسان الأبدي قال في صفتهم (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين)، فابتدأ صفاتهم بحرصهم على مساعدة الآخرين بإنفاقهم من مالهم في وجوه الخير في حالات الشدة والرخاء والعسر واليسر، وبعد ذلك تعرض لصفاتهم الخُلقية الراقية التي يتعاملون بها مع غيرهم من البشر بكظم الغيظ والصبر على ما ينالهم من الإيذاء مما يثير النفس ويدفعها لمقابلة الإساءة بمثلها، ولكنهم يحملون أنفسهم حملا على ذلك، ولا يكتفون بهذا بل إن تمكنوا على غيرهم بتنفيذ حق لهم نظروا بعين البصيرة إلى ما عند الله تعالى فآثروا ما عند الله وعفوا وتنازلوا عن حقوقهم المقررة، فلذا استحقوا الأجر العظيم والإحسان والتكريم يوم العرض الأكبر لأنهم كانوا قبل ذلك محسنين، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.

فالتسامح والإنصاف وحسن المعاملة شعار المسلم في تعامله مع جميع البشر وفي كل الأحوال حتى في حال الحرب وهي حالة وجه الإسلام أتباعه بالحرص على العهود والمواثيق وعدم الغدر أو الخيانة ليبقى الإسلام دين السماحة والإخاء في كل حال وكل زمان ومكان.