أفكار وآراء

موجة جديدة من حمى الذهب

04 سبتمبر 2019
04 سبتمبر 2019

مصباح قطب -

[email protected] -

الاستثمار الملاذي تعبير جديد أصبحنا نسمعه هذه الأيام مع انه لا يعني شيئا جديدا في الحقيقة، إنها شطارة الآلة الإعلامية أو آلة الاستثمار المالي في نحت واشتقاق الكلمات والجمل وإعادة تغليف المعاني كل فترة. منذ زمن طويل والبشرية تعرف انه في أي أزمة سواء كانت مالية أو اقتصادية او اجتماعية او سياسية هناك دائما نوع من الملاذ لإيجاد حل او نوع من الحل او التهدئة. منذ عدة عقود بدأ الحديث يدور اكثر واكثر حول معنى حصري لما هو ملاذي أي حول الادوات التي يلجأ اليها المستثمرون الماليون او من يستثمرون عموما بالنيابة عن الغير - وأسميناهم مديري ثروات - حين يحدث هبوط او يوشك ان يحدث في أسواق الأسهم والسندات او الاصول التقليدية . واصبح الكل يعرف ان الملاذات الاهم او ذات الاولوية في تلك الحالات هي الذهب والدولار والمعادن الثمينة و( العقارات) . لكن حدث مؤخرا وربما في منطقتنا اكثر من غيرها ان تحولت الآلة الإعلامية التابعة الخادمة للمستثمرين الى التركيز الشديد على الذهب وكيف انه واعد وصاعد وان على الكل ان يلحق بقطار المكسب القوي قبل ان يفوته مع إثارة متعمدة لشهية التهافت على شرائه لكي يقوم كل مواطن باغتنام الفرصة للاستثمار فيه مباشرة بشراء المصوغات او السبائك او حمل اسهم شركاته او على الاقل الاحتفاظ بما لديه دون عرضه للبيع او طرحه وذلك عامل يساعد هو نفسه على استمرار الاسعار في الارتفاع لأنه يقلل المعروض ، ومن الصحيح يقينا ان الذهب في صعود وبدأت بشائر ذلك واضحة منذ اشهر قليلة وبلغ مستوى قويا في الأسابيع الأخيرة مع ازدياد الحديث عن ركود عالمي مقبل وعن طفشان رؤوس الاموال من الاسواق الناشئة الخ وانه ،أي الذهب ما زال يقدم واعدية أعلى ، لكن الامانة تقتضي او توجب ان يتم عرض الصورة كاملة على المجتمع وعلى صغار المستثمرين والمدخرين قبل كبارهم. الا نتذكر انه مع كل حدوث لأفعال هسيترية من مواطنين عاديين لأنهم خسروا كل رؤوس أموالهم بالبورصة وقت هبوطها الشديد كان المستشارون الماليون يقولون انه لا يجب ان يدخل السوق إلا من لديه حد أدنى من الوعي الاستثماري. فما بالنا ونحن نحث الناس على دخول سوق الذهب لا نشترط هذا الشرط ؟ . توضيح الصورة الكاملة يعني هنا ان يتم نشر اوسع معلومات عن تطور اسعار الذهب خلال عقدين مثلا والمحطات الكبرى التي صعد فيها الى ذروة او هبط الى منحدر والدوافع الاساسية التي حركت وتحرك السوق والمدى الزمني الذي يمكن ان يواصل السوق فيه الارتفاع هذه المرة ومتى يجب ان ينسحب المواطن المستثمر من هذا السوق .لابد ايضا من تعيين المتغيرات التي طرأت على سوق إنتاج الذهب وعمليات البحث والاستكشاف والتداول والمناجم التي قيد التوقف او تلك التي بدأت بالكاد او ستبدأ الإنتاج واحتياطياتها. بالنسبة لي أرى ان ثقة الجمهور العام في العموم اصبحت اقل فيما يصدر عن مراكز البحوث المالية او الاستثمارية بل وفي الميديا التي تنقل وجهات نظر هؤلاء وبالتالي لا اعتقد بإمكان حدوث انجراف كبير وراء ما تعد به الموجة الجديدة من حمى الذهب التي أتحدث عنها. بعبارة أخرى فإن من يراد لهم ان يكونوا ضحايا ويدخلوا السوق ويخسروا لصالح آخرين او يتحملوا المخاطر والانهيارات عنهم اصبحوا اكثر وعيا لأنهم تعلموا الدرس من رأس الذئب الطائر كما يقول المثل العامي. ويعتقد جمهور ليس بالقليل من الناس العاديين بقوة في المثل الذي يقول « لو كان فيه خير مكنش رماه الطير» أي انه لو وجدت او ستوجد مكاسب ضخمة بالصورة التي يتم ترويجها عن الاستثمار في الذهب فلماذا يتركها أصحاب الثروات لغيرهم ؟ .

إن الأمر الآن الأكثر تعقيدا وغير معهود في الوقت ذاته هو دخول دول كبرى خاصة الصين وروسيا سوق الذهب منذ سنوات كمشترين طوال الوقت تقريبا لأهداف لا تتعلق بتعزيز الاحتياطيات او إعادة هيكلة توليفتها للبلدين بقدر ما ترتبط بأعمال ذات أبعاد سياسية على رأسها إحباط خطط الولايات المتحدة للتأثير على العوائد - في حالة روسيا - لأن امريكا لعبت دورا كبيرا في خفض اسعار النفط والغاز لأهداف من بينها إضعاف روسيا التي تعتمد على صادراتها منهما ومن هنا لجأت روسيا الى مضاعفة شراء الذهب او لأهداف التخوف من التقلبات في السياسات الامريكية - في حالة الصين - والأخطر هو الهدف المشترك للبلدين من التعامل في اسواق الذهب وهو استخدام هذا التعامل ضمن آليات أخرى للحد من هيمنة الدولار على المدفوعات الدولية، وفي الحالة الأخيرة فإنه لا احد يعرف بالضبط ما حجم هذا العامل - الذهب - في خطتهما هذه وهل سيزيد أم يقل ومتى يتوقفان عن شراء الذهب أو متى يتخلصان من بعضه ولهذا فإنه توجد مخاطر لا يمكن الاستهانة بها في هذا النوع الملاذي من الاستثمارات مهما كان الإغراء .

قد يكون من الجديد ايضا ان حمى الذهب هذه تأتي في وقت تجتاحه المخاوف من انقلاب أمريكي على العولمة ومؤسساتها وليس أزمة في العولمة تسعى أمريكا الى حلها وبالتالي متوقع حدوث انهيارات غير معهودة في أسواق وقطاعات مختلفة وتأتي في وقت أيضا بلغت فيه الديون العالمية مستوى بالغ الخطورة وبات كثيرون يرفضون السبيل التقليدي لمعالجة تلك الأزمة إلا وهو طريق صندوق النقد الدولي المتمثل في الضبط المالي وتقليل الإنفاق الحكومي على الأجور والخدمات الاجتماعية ومن ثم فإن تخفيف حدة أزمة الديون العالمية لن يكون سهلا وعليه ستتأثر كل الاسواق بذلك بما فيها اسواق الملاذات نفسها. وبحسب استاذة الاقتصاد الهندية البارزة « جياتي جوش» هناك حتميتان واضحتان للغاية امام الدول ذات الديون الكبيرة - مثل الارجنتين - حيث يجب إعادة هيكلة الدين الخارجي بمعنى مد أجله وتقديم تيسيرات في السداد ، ويجب تمكين سداد الديون من خلال النمو الاقتصادي ، بدلاً من قمع الأجور والضبط المالي. وتقول انه بالنسبة لإعادة الهيكلة ولها تكلفتها على الدائنين فانه لا يوجد شيء غير عادل حول ذلك حيث يجب عدم حماية المقرضين المتهورين من عواقب حماقتهم. صحيح ان من المفترض أن يأخذ الطلب على أسعار الفائدة في الأسواق المالية مخاطر التخلف عن السداد لكن لا يجوز بعد استفادة المقرضين من مدفوعات الفائدة الأعلى الالتفاف على ما تم قبوله فى البداية ( مخاطر أعلى وفوائد أعلى ) والدعوة إلى قيام الأم (صندوق النقد الدولي) بواجبها عندما تتحقق المخاطر أي تحميل نتيجة المخاطر للمدين وحده . وتضرب مثلا مفحما ليوضح فكرتها وهو ان التجربة أظهرت مرارًا وتكرارًا أن الديون يتم تسديدها بشكل أكثر فعالية في سياق نمو اقتصادي وليس ضبطا ماليا وتكميشا. بالنسبة للاقتصادات المتعثرة ، يتطلب ذلك حافزًا ماليًا وليس توحيدًا ماليًا. وتشير الكاتبة إلى أنه في أوائل الخمسينات من القرن الماضي ، تم شطب الديون الألمانية التي تراكمت بسبب الحرب العالمية الثانية وتم ربط معدل سداد القروض بنسبة من عائدات التصدير وهو نهج مكن من صنع «معجزة اقتصادية» لاحقة. ومن المفارقات كما تقول أن اليونان كانت واحدة من البلدان التي عرضت على ألمانيا الإعفاء من القروض في ذلك الوقت. الاقتصادية الهندية ذاتها تقول ان السياسة الاقتصادية على مستوى العالم اصبحت مشوهة بشدة لصالح الأثرياء ، مع عمل الحكومات بشكل متزايد لصالح الشركات ، وبالتالي تحدث مقاومة شديدة للسياسات التقدمية. ومع تزايد ضعف الاقتصاديات ، تزداد احتمالية ارتفاع نبرة القوى الاجتماعية في مواجهة النظام الحالي. وفي النهاية ، سوف تفرض الحاجة إلى الشرعية السياسية التغيير ، حتى لو لم يكن ذلك مرجحًا في المستقبل القريب وتتمثل الخطوة الأولى في زيادة التعاون الدولي في مجال الضرائب ، والانتقال بشكل مثالي نحو نظام الضريبة الموحدة للشركات متعددة الجنسيات وسد الثغرات للتهرب من الضرائب وتجنبها من قبل الأفراد ذوي الأملاك العالية، في الحالة القديمة فإن الحكومات والمواطنين على حد سواء سيفوزون، أما الخاسرون الوحيدون فهم الأثرياء للغاية.

انتهى كلامها لنقول انه إذا كانت الكفة الحالية تميل بشدة الى أثرى الأثرياء فهل من العدالة ان ندفع الفقراء الى حماية ثروات الأثرياء من ان تتأثر بالمخاطر العالمية الراهنة بأن يقبلوا على شراء الذهب وأسهم شركاته؟ . أليس من العدل أن نتريث لنتأكد على الأقل ان العوائد سيتم تقسيمها بشكل عادل وكذا المخاطر على الجميع ؟. كما قال المفكر المصري الراحل جمال حمدان فإن قليلا من الشك - في مثل تلك الحالات - يصلح المعدة .