إشراقات

الدين الملائم للفــطــــرة

29 أغسطس 2019
29 أغسطس 2019

د. ناصر بن علي الندابي -

«حينما تشربت قلوب العمانيين وعقولهم بهذا الدين الجديد وآمنت به أنفسهم وتغلغل نوره في حناياهم، وعرفوا أنه الحق وأن الخير كل الخير في سلوكه ظهرت سجاياهم في حب الخير للكل، هذه السمات التي عرفوا بها وسارت بها الركبان عنهم، إنهم شعب يحب الخير ويحب أن يصل هذا الخير إلى سائر البشر، ولقد جاء الدين الجديد يدعو إلى أخلاق كان العمانيون يتمذهبون بها ويؤمنون بها بل ويتفاخرون بها، إنه دين ملائم لهم، لفطرتهم، لأخلاقهم، لسجاياهم، لذلك أمنوا به ولم يتنكروا له، عندما علموا أنه الحق وأنه هو الدين الذي بشّر به الأنبياء من قبل».

حينما بزغ نور الإسلام من مكة المكرمة كان ذلك إيذانا بعهد جديد للبشرية، وعصر ذهبي لهذه الأمة التي هيمن عليها الظلم واستشرى فيها الجور والبهتان، فكان لازما لها أن يرسل إليها من يهديها طريق النور والهداية، فظل نبي الهدى والرشاد ينشر ذلكم الخير بداية في قومه الذي لم يجد منه سوى الصدود والنكران، والتكذيب والاستهزاء، ثم أذن الله سبحانه وتعالى أن ينقل مركز الإشعاع الإيماني إلى يثرب إلى طيبة إلى المدينة المنورة، وكان ذلك عزا ونصرا له.

ومن مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج المسلمون بنور محمد صلى الله عليه وسلم يحملونه بين قلوبهم ويعبرون عنه بلسانهم، فدخل الناس في دين الله أفواجا وبدأ هذا الخير يعم على شبه الجزيرة العربية، منهم من دخل بأخلاق الهادي التي بلغت أخباره أقاصي جزيرة العرب، ومنهم من دخله تحت وطأت السيف ومنهم من دخله خوفا من قوة محمد صلى الله عليه وسلم واتباعه .

أما عمان فقد كانت مختلفة عن تلكم السبل التي دخل الناس فيها الإسلام، فقد بدأت خيوط الإسلام تدخل عمان، وبدأ العمانيون يعتنقون هذا الدين الجديد، بدءا من ضماد بن ثعلبة الأزدي الذي أسلم في بداية البعثة المحمدية، مرورا بمازن بن غضوبة الذي توجه إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلم على يد النبي ومعه غلامه صالح بن المتوكل الذي أسلم هو الآخر، ثم كعب بن برشة الطاحي الذي ذهب إلى المدينة المنورة بإيعاز من ملك الفرس ليعرف صدق هذا النبي الذي ظهر في يثرب، فلما مثل بين يديه وجده هو الذي بشّرت به النبوات السابقة وجاءت بصفاته الكتب السماوية القديمة، نعم إنه النبي المنتظر وحيال هذه العلامات والإشارات الدالة على نبوته لم يجد كعب بن برشة بدا من الإيمان به والتصديق بما جاء به فنطقها مدوية بين يدي الهادي: اشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فصاخت لها الدنيا وشهد عليها كل من سمعها من الأنس والجن وسائر المخلوقات .

وهكذا بدأ الإسلام ينفذ إلى عمان نفاذا محبوبا مقبولا كأن محبوبا ينتظر محبوبته التي لم يعرف عنها سوى الحسن والكمال البشري، فانساب الإسلام إلى قلوب العمانيين كانسياب الماء الرقراق إلى الأجسام العطشى فأروى أجسادها وأنعش عقولها .

وحينما وصل هذا الخير إلى الكثير من العمانيين آثر أكثرهم التوجه إلى المدينة المنورة ليشهدوا هذا الخير بأنفسهم وينظروا إلى هذا النبي الذي جاء من الله تعالى ملك السموات والأرض، فكان الهادي صلوات ربي وسلامه عليه يستقبلهم ويحسن وفادتهم، ومن أولئك الذين بلغوا المدينة من العمانيين وفد ثمالة والحدان، ووفد عباد الله الأسبذيين، ووصلت رسالة مباركة إلى مدينة دما تحمل مشعل الهداية من نبي الهدى والرشاد.

حينها تنبه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ملكي عمان اللذين ما زالا على الشرك، فوجه إليهما رسالة كما وجه رسائله إلى ملوك العالم آنذاك.

ولعلي في هذا المقال سأقف بعض الوقفات مع هذه الرسالة ثم ننطلق إلى ما انجزه العمانيون حينما تشربت قلوبهم وعقولهم بهذا الدين الجديد وأمنت به أنفسهم وتغلغل نوره في حناياهم، وعرفوا أنه الحق وأن الخير كل الخير في سلوكه فظهرت سجاياهم في حب الخير للكل، هذه السمات التي عرفوا بها وسارت بها الركبان عنهم، إنهم شعب يحب الخير ويحب أن يصل هذا الخير إلى سائر البشر.

لقد انتقى نبي الهدى أحد أصحابه الذين يعتمد عليهم والذي يمكنه أن يكون عونا وسببا في إسلام ملكي عمان، فالرسول عليه السلام يعلم علم اليقن أن إسلامهما يعني إسلام كل من تبقى من العمانيين، فالناس على دين ملوكهم.

فأشار الهادي إلى عمرو بن العاص وأبي زيد الأنصاري أن اذهبا إلى عمان برسالتي وليكن المقدم عمرو وأبو زيد لتعليم الناس تعاليم الدين الجديد، لما عمرو دون غيره؟! لقد تميز عمرو بن العاص بسمات تؤهله لأن يكون قادرا على إقناع ملكي عمان بهذا الدين الجديد فقد اعتاد الدخول على الملوك، كما أن عنده من الحنكة والدراية ما تمكنه من إقناع الناس، وعنده من الدهاء ما يستطيع به الإجابة على كل تساؤل والهروب عن كل ما يمكن أن يكون سببا في رفض الآخر للدين، سجايا كانت بمثابة الوعاء المناسب المميز لرسالة الرسول عليه السلام.

وحينما نتصفح رسالة الرسول إلى أهل عمان نجد فيها جوانب كثيرة جدا تنم عن حنكة وعبقرية الهادي في دعوة الناس إلى الإسلام والأسلوب الراقي في التعامل مع كل الطبقات، فقد جاءت رسالة رسول الرسول إلى ملكي عمان بسيطة في كلماتها كبيرة في معانيها، بدأها بقوله : من محمد رسول الله إلى جيفر وعبد ملكي عمان، هذه العبارة تدل على معرفة الرسول عليه السلام بمكانة كل من هذين الملكين في عمان فقد علم أن الأكبر منهما هو جيفر والأصغر كان عبد لذلك قدم جيفر على عبد في الخطاب وهذا يدل على تتبع الرسول عليه السلام لأخبار عمان، وكثرة الذين أسلموا على يديه مباشرة كما تدل على أن مجلسه لم يكن يخلو من الوجود العماني.

وحينما ندخل إلى جوهر هذه الرسالة نجد أن الرسول عليه السلام قد مازج بين الترغيب والترهيب، فنجده عليه السلام يقدم الترغيب على الترهيب فيقول لهما اسلما تسلما.. ثم قال: فإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، كله هذا ترغيب في الإسلام فدخول الإسلام يعني السلام يعني الأمان أمان الدنيا والأخرة فتلك الدولة الوليدة التي يقودها محمد أصبحت من القوة بمكان حتى غدت كل الجزيرة العربية تهابها كيف لا وهي التي تجرأت على غزو الروم وضرب ثغوره، إذن فالإسلام أمان في الحياة وأمن يوم الخوف الأكبر.

ثم نجده عليه السلام يخبر ملكي عمان أن هدفه ليس ملك عمان إذ لا حاجة له بالدنيا ولا يرغب في حطامها فقد زهد فيها عندما علم بما عند الله، فلذلك عرف الهادي كيف يقنع هذين الملكين بالإسلام فهو يعلم شهوة الملك وتملكها في قلوب الحكام لذلك أبلغهما منذ البداية أن الإسلام لا يعني إزالة سلطتهما بل الإبقاء عليها وتعزيزها، فكانت هذه الأساليب مدعاة إلى قبول الإسلام وسريانه إلى قلبي ملكي عمان.

ثم دعّم الترغيب بالترهيب: «فإن أبيتما فإن خيلي تطأ ساحتكما وتظهر نوبتي على ملككما»، هذه الكلمات وذلكم الرسول كانت كافية باقتناع ملكي عمان بالإسلام، فما زالت فطرتهما لم تتسخ بأدران الرذائل والمنكرات والموبقات وما زالت فطرة أهل عمان باقية على أصلها والدين الجديد يخاطب هذه الفطرة السوية.

لقد جاء الدين الجديد يدعو إلى أخلاق كان العمانيون يتمذهبون بها ويؤمنون بها بل ويتفاخرون بها، إنه دين ملائم لهم، لفطرتهم، لأخلاقهم، لسجاياهم، لذلك أمنوا به ولم يتنكروا له، عندما علموا أنه الحق وأنه هو الدين الذين بشّر به الأنبياء من قبل.

إن هذه الطريقة التي دخل بها أهل عمان في الإسلام كانت سببا ودافعا لنشره في كل الأماكن التي حطت رحالهم فيها، وكان البحر عونا لهم في ذلك، فقد شهر عن العمانيين ركوبهم البحر من منذ آلاف السنين وهذا كان يعني بلوغهم أماكن لم يكن يبلغها أهل جزيرة العرب، فنشروا الدين في كل ميناء نزلوها في المحيط الهندي.

لقد علموا علم اليقن أن هذا الدين ملائم للفطرة وأن الإنسان السوي لا محالة يقبله فنشروه بأخلاقهم وحسن تعاملهم، لم يستخدموا لسانهم في الدعوة له بل استخدموا تلك القيم والأخلاق التي آمنوا بها وجاء الإسلام مؤيدا لها، فدخل كل من احتك بهم إلى الإسلام، بعد أن سألوا عنه.

ولذلك ظلوا على الإسلام حين تنكّرت له الكثير من القبائل وارتدت عنه عندما انتقل الرسول عليه السلام إلى الرفيق الأعلى، إلا عمان التي آمنت به طوعها ودخلته عن اقتناع لم تعرف الردة فهي لم تؤمن بأن محمد كان ربا وإنما محمد وسيلة للهداية أرسله رب الخلق ليكون سببا ونورا يهتدون به.