الملف السياسي

السودان .. مستقبل ما بعد «الوثيقة الدستورية»

26 أغسطس 2019
26 أغسطس 2019

يسرا الشرقاوي -

أكثر من أربعة أشهر من المفاوضات بين تحالف قوى «الحرية والتغيير»، الممثل لأحزاب المعارضة السودانية، والمجلس العسكري الانتقالي انتهت بتوقيع «الوثيقة الدستورية» الموجهة لمرحلة الانتقال الكبرى في تاريخ السودان وتحديد مستقبله في عهد ما بعد الرئيس المعزول والمحاكم حاليا عمر البشير.

المرحلة الانتقالية التي يفترض أن تمتد فترة ثلاثة أعوام وثلاثة أشهر تعتمد على عامل أساسي وهو التفاعل ما بين المجلس السيادي ذي السلطات العليا على صعيد السودان والتي يحيل بعضها بموجب «الوثيقة الدستورية» إلى الحكومة الانتقالية المؤقتة. وفقا لترسيم موازين القوى، فيلاحظ مراعاة بالغة الدقة والحساسية لأدوار مختلف القوى السياسية بالساحة السودانية حاليا.

يلاحظ مبدئيا، التقسيم الواعي لعناصر المجلس السيادي ما بين ستة مدنيين بينهم امرأتان ، وفي اختيار العناصر النسائية اعتراف واضح بالدور النسائي الرئيسي ضمن الحركة الثورية الشعبية التي اندلعت في نهايات العام الماضي 2018. فوفقا لعدد من التقارير، شكل العنصر النسائي نسبة 70% من إجمالي المتظاهرين خلال شهور الثورة حتى سقوط نظام البشير. ورغم غياب التمثيل النسائي عن توقيع « الوثيقة الدستورية»، إلا أن مراعاة التمثيل النسائي ضمن «المجلس السيادي» يعتبر اعترافا عمليا بدور نساء السودان، ومراعاة قضاياهم خلال المرحلة الانتقالية المقبلة.

ويتشكل المجلس السيادي أيضا من خمسة عسكريين، على أن يتولى المجلس حكم البلاد فترة 21 شهرا من أصل إجمالي الفترة الانتقالية المتجاوزة للسنوات الثلاث، تمهيدا لإجراء انتخابات ديمقراطية حرة عام 2022. ومن بين العناصر الـ 12 للمجلس، يلاحظ تعيين قاض قبطي رجاء عبد المسيح، وذلك نتاج ترشيح مشترك من الجانبين العسكري والمدني بالمجلس السيادي. أما مسألة القيادة « الدورية» ما بين الشقين المدني والعسكري للمجلس، فتعكس الاستجابة للموجة الثانية من المظاهرات الشعبية، والتي ركزت على البعد المدني لعملية الحكم الانتقالي للبلاد، وعدم ترك هذه المرحلة خالصة بين أيدي القيادات العسكرية.

أداء الجنرال عبد الفتاح برهان، والذي كان يتولى قيادة المجلس العسكري المسؤول عن إدارة البلاد في مرحلة مع بعد إسقاط حكم عمر البشير أبريل الماضي، للقسم رئيسا للمجلس السيادي يحقق مبدأ الاستمرارية. كما أنه يضمن مشاركة المؤسسة العسكرية السودانية في عملية الانتقال «السلس» من مرحلة القيادة العسكرية الخالصة إلى مرحلة الحكم الديمقراطي.

مسألة «الاستمرارية» وتحقيق التوافق ما بين عنصري «الجيش السوداني» من جانب، وقيادة «الثورة السودانية» من جانب آخر تعد مصيرية بالنسبة لمستقبل السودان وتعد عاملا مؤثرا بالنسبة لمستقبل المنطقة إجمالا.

فنجاح الضغوط العربية والأمريكية، وكذلك نجاح الرغبة المحلية في تجاوز مرحلة «الشد والجذب» التفاوضي ما بين «الحرية والتغيير» والمجلس العسكري يفترض أنه تجاوز بالسودان مخاوف الاقتتال الداخلي.

يضاف إلى ما سبق أن أحد أهم إنجازات « الوثيقة الدستورية» كان تمثيل « تجمع المهنيين السودانيين»، والذي اختار أحد المدرسين السودانيين للتوقيع ممثلا عنه. اختيار المدرس الذي لا يتجاوز راتبه الشهري مبلغ الـ 33 دولارا يعكس تأكيدا من جانب «تجمع المهنيين» على السعي وراء مطالبهم الثورية فيما يتعلق بظروف معيشية ومهنية أكثر عدالة بالنسبة لأرباب المهن المختلفة، وكذلك مكافحة الفساد بمختلف صوره بالمؤسسات السودانية.

ولا يمكن تجاوز مسألة اختيار عبدالله حمدوك الذي أدى اليمين الدستوري رئيسا لوزراء الحكومة الانتقالية. وحمدوك، الحاصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة مانشستر البريطانية كان من مسؤولي وزارة المالية السودانية في عقد الثمانينات وقبيل تولي نظام البشير للحكم. عمل حمدوك لصالح منظمة العمل الدولية وبنك التنمية الأفريقي، قبل أن يتولى خلال الفترة الأخيرة منصبه كخبير اقتصادي لصالح منظمة الأمم المتحدة واتخذ من أثيوبيا مقرا له منذ عام 2001، وذلك قبل أن يستقيل من منصبه العام الماضي. وكان حمدوك قد رفض عرضا من الرئيس المعزول البشير بتولي وزارة المالية السودانية قبيل فترة قليلة من اندلاع الثورة.

اختيار حمدوك كونه من التكنوقراط وبخلفيته الاقتصادية القوية، بالإضافة إلى عدم وجود روابط تجمعه مع نظام البشير يعكس التوجه الفعلي والجاد من جانب عناصر اتخاذ القرار في السودان لتحقيق الانفصال الفعلي عن النظام السابق وبطانته، مع تسريع عملية الإصلاح الاقتصادي وتحقيق التنمية الفعلية. وهي أهداف غير هينة، خاصة مع التدهور القياسي في أوضاع الاقتصادي السوداني، وتحديدا عقب خسارة الجنيه السوداني 85% من إجمالي قيمته أمام الدولار، وبلوغ معدلات التضخم نسبة 70%، في أعلى مستوى دوليا.

ذلك التوجه انعكس واضحا في خطاب حمدوك أمام المجلس السيادي عقب أداء اليمين الدستورية رئيسا للوزراء. فيلاحظ عدد من النقاط الرئيسية في كلمة الحمدوك. فهناك تركيز من جانبه على عنصري الخبرة والكفاءة كمعيار لاختيار أعضاء الحكومة الانتقالية المزمع تشكيلها. ويلاحظ أن تفعيل ذلك المعيار بالنسبة للحمدوك لم يترك مجالا للاستثناءات. فقد أوضح أنه حتى فيما يخص ترشيحات «قوى الحرية والعدالة» فسيتم النظر فيها وإعادتها مرة ثانية إلى قوى الحرية.

وأوضح حمدوك أن الهدف الأساسي تشكيل « حكومة منسجمة ومتناغمة تعبر بالسودان إلى بر الأمان». وفيما يخص الأهداف، ركز على مكافحة الفقر وتحقيق مجانية التعليم ورفع مستوى الرعاية الصحية المقدمة. ويلاحظ في خطابه النبرة التصالحية إزاء «الإعلام»، حيث اعتبر وسائل الإعلام بمثابة «لاعب» أساسي في التعامل مع مختلف القضايا.

وركز خطابه أيضا على الاعتراف بالدور الفاعل لنساء السودان، حيث أكد أنهن كن في الخطوط الأمامية للثورة السودانية. تلك التصريحات تحديدا تأتي متزاوجة مع التمثيل النسائي بالمجلس السيادي ليطمئن الشارع السوداني والناشطات في السودان أن جهودهن والتضحيات التي بذلت خلال شهور الثورة لن تذهب بلا مقابل.

ولكن رغم هذه الإنجازات هناك بعض العقبات التي تقف في طريق تفعيل أهداف «الوثيقة الدستورية»، وأبرزها استمرار الاحتجاج الشعبي على شخص قائد قوات التدخل السريع محمد حمدان داجالو، صاحب الدور الكبير في عهد نظام البشير، وتحديدا خلال محاولات احتواء والسيطرة على الثورة الشعبية في بدايتها. فكون داجالو قد شارك بعملية توقيع «الوثيقة»، وكون المتظاهرين صاحبوا خروجه عقب مراسم التوقيع بهتافات سلبية يثير التساؤلات حول إمكانية تجاوز الشارع السوداني لمرحلة حكم البشير بدون محاسبة فريقه. فالشارع السوداني كان واضحا في رفضه الاكتفاء بمحاكمة البشير السارية حاليا والمنصبة على اتهامات بالفساد وغسيل الأموال.

ومن العراقيل التي قد تعكر صفو الاحتفالات الحالية، وإن كان ذلك بعد حين، سيكون عدم تحديد هوية القيادة المدنية التي يفترض أن تتولى قيادة « المجلس السيادي» خلفا للقيادة العسكرية الحالية.

ولكن هذه العراقيل لا تبدو «آنية» بالنسبة للعملية السياسية في السودان التي تبدو متجهة نحو شيء من الإنجاز.