أفكار وآراء

الأداء أم الشعبية.. دروس من العالم المعاصر

17 أغسطس 2019
17 أغسطس 2019

د. عبد العاطي محمد -

كلما اقترب موعد الانتخابات العامة في عديد بلدان العالم المعاصر، يثور التساؤل دائما عن فرص النجاح بالنسبة لمن يتقدموا الصفوف للفوز بمراكز السلطة سواء في المجالس النيابية أو رئاسة الدولة. فهناك من يرون في الأداء الطريق إلى النجاح، وهناك من يرون الشعبية هي مصدر القوة. ولكن تجارب شتى من الغرب والشرق تؤكد أن أيا منهما وحده ليس كافيا، وإنما لابد من أن يجتمع الأداء مع الشعبية لضمان نجاح حاسم ومستدام.

السباق على مقعد الرئاسة هو الأكثر إثارة واهتماما بالنظر إلى أنه مركز السلطة الفعلي الذي من خلاله يمكن تشخيص المشهد السياسي أهو إلى نجاح عام أم إلى فشل، وبدرجات أقل ينسحب الأمر على من يتنافسون على المقاعد النيابية، لأن السلطة التنفيذية غالبا ما تكون صاحبة اليد العليا في اتخاذ القرار.

وحتى ما قبل عصر العولمة (منذ تسعينات القرن الماضي) لم تكن هناك مشكلة تستدعي هذا التساؤل المحوري، لأن عامل الشعبية كان له الغلبة في تحديد اتجاهات الرأي العام نحو شخصية أو أخرى تتقدم لمنصب الرئاسة، ولكن التحديات التي فرضها عصر العولمة جعلت الاهتمام يتجه لعامل الأداء بمعنى حسن إدارة فن الحكم لتحقيق عديد الأهداف القومية من ناحية والقدرة على تجاوز المصاعب التي أفرزها هذا العصر وما أكثرها. إلا أنه مع التجربة على مدى الثلاثين عاما الأخيرة تقريبا أثبتت أن لا الأداء الكفء وحده كافيا، ولا الشعبية الطاغية كافية وحدها فقط، بل لابد من الجمع بين العاملين. ولأن الجمع بينهما ليس هينا أو يسيرا مهما كانت درجات التقدم السياسي في عالم اليوم سواء في بلدان الرفاهية والقوى العظمى أو بلدان العوز والقوى الأقل وزنا، رأينا المشهد مضطربا وغامضا وقابلا لكلا الاحتمالين: النجاح أو الفشل، والقليلون أو المحظوظون هم الذين وفقوا في هذا الأمر.

مؤخرا ذكرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية تقريرا بمناسبة بدء السباق الأولى في الانتخابات الرئاسية المقررة عام 2020، أشار إلى أن الملايين من الأمريكيين ممن كانوا ضد وصول الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض قد غيروا رأيهم وأصبحوا ممن يرونه رئيسا ناجحا، وذلك استنادا إلى أن أداءه على مدى السنوات الثلاث الماضية كان ناجحا خارجيا وداخليا.

ولكن الصحيفة تحفظت بأن مستوى الأداء الناجح لم يكن مرتفعا (يتعدى نسبة 50% ممن تم استطلاع رأيهم)، ومع ذلك فإن النسبة أعلى مما كانت عليه عقب فوزه في انتخابات 2016. كما أوضحت الصحيفة أن التقدم على مستوى الأداء لا يعني ارتفاع شعبية ترامب لأن تلك مسألة أخرى تخضع لمقاييس مختلفة عن قياس الأداء. والمعنى هنا دون الدخول في تعقيدات سباقات الانتخابات العامة الأمريكية أن أداء الرجل كان مريحا لقطاع مهم من الأمريكيين بينما شعبيته تظل موضع اختلاف في تقديرات المراقبين والأرجح أنها ليست طيبة بالنظر إلى عراكه اليومي مع الإعلام وخلافاته مع العاملين حوله في البيت الأبيض ومن يتعامل معهم داخل الكونجرس، حتى أصبح أكثر الرؤساء الأمريكيين جدلا.

وإذا وسعنا دائرة الرؤية لخارج الولايات المتحدة، فإن مسألة عدم تطابق الأداء مع الشعبية قائمة في حالات أخرى، بما يعني أن جانبا كبيرا من عالم اليوم يعاني من هذا التباعد وشعوبه تجد مشقة في الحصول على قيادات تجمع بين الأداء والشعبية. وما كل هذا الجدل بالنسبة للمواقف الدولية من الأزمات التي تقلق العالم اقتصاديا وسياسيا وأمنيا وأيضا إنسانيا إلا نتيجة الافتقاد لهذا النوع من القيادات. فالأداء يشير دائما إلى كفاءة القرار وسلامة السياسات والحكمة في تنفيذها، بينما الشعبية تشير إلى الرؤية واستلهام آمال وأحلام الشعوب والنضال من أجل القيم الإنسانية المتحضرة والإيمان الشعبي العميق بأن شخصية ما قادرة بما تمتلكه من قدرات خاصة أو فريدة ولها مقومات الكاريزما على تحقيق الطموحات الشعبية. وبعيدا عن الأحكام المثالية فإن ما يتعلق بالأداء من ناحية والشعبية من ناحية أخرى، في عالمنا المعاصر، مسألة نسبية يصعب الحديث على أنها ممكنة التحقق في هذا العالم الذي انقلبت فيه المسلمات رأسا على عقب!، فكل ما يتصل بالأداء يظل نسبيا ويصعب وصفه بالنجاح المطلق أو على الأقل البارز بالنظر إلى تعقد شبكة المصالح والتغير المستمر في موازين القوى والمصاعب التي تواجهها المؤسسات لتفعيل ما تراه صحيحا للتعامل مع الأزمات، ولذلك فإن ما يمكن وصفه بالنجاح النسبي على مستوى الأداء هو النجاح المرضي أو المقبول من وجهة نظر أصحابه. وهذا متوفر لدى معظم قيادات التجارب المعاصرة. وأما الشعبية فإنها لا تصل إلى هذا الحكم النسبي بل تظل مفتقدة، ليس لأن الجانب الأكبر من عالم اليوم لا يفرز قيادات تنطبق عليها المواصفات السالف الإشارة إليها، بل الأرجح أنه يتملك الكثيرين من هؤلاء بحكم التقدم الرهيب الذي حدث في مستويات التنمية البشرية نتيجة ما توصلت إليه البشرية من آليات وما توافر من إمكانيات لم تكن قائمة في أزمان مضت، وإنما لأن الشعبية أصبحت متطابقة مع تعبير الشعبوية، والأخير لا يعترف بقيم الشعبية الحقيقية التي عرفها العالم ما قبل عصر العولمة وأصبحت عملة نادرة، وإنما يركز على الغرائز والطموحات الضيقة للشعوب والعداء للمؤسسات. ويستطيع القارئ الفطن أن يتفهم المعنى لو عاد بالذاكرة للعصور الغابرة التي عرفت قيادات عالمية امتدت شعبيتها من محيطها المحلى إلى الدولي دون أية آليات للاتصال، فقط لأنها كانت تبشر بقيم تخدم البشرية جمعاء وتنتصر لقيم العدالة والمساواة وتتحلى بالمصداقية والقدرة على الفعل مهما تكن التحديات. ومع ذلك واستنادا إلى أن التقديرات النسبية هي التي يتعين العمل بها لتقدير حجم وقوة الشعبية، فإن حجم التأييد الشعبي وفقا لاستطلاعات الرأي العام أو المظاهر الشعبية العفوية أو المنظمة المؤيدة أو المعارضة، تظل مقياسا مقبولا لتقدير الشعبية.

ما يخص الحالة الأمريكية يمكن أن نجد أمثلة مشابهة له (مع الفارق) في بلدان أخرى وفي إطار أننا نتحدث عن تقديرات نسبية وليس عن معايير مطلقة. فالرئيس الروسي بوتين مثلا حقق أداء ناجحا داخليا وخارجيا، ولكن شعبيته في صعود وهبوط ولا تتطابق مع هذا النجاح على مستوى الأداء. ورئيسة الوزراء البريطانية المستقيلة تيريزا ماي كانت تحظى بشعبية كرئيسة لحزب المحافظين، ولكنها لم تتمكن على مستوى الأداء من إقناع البرلمان بخطتها لحل مشكلة الخروج من الاتحاد الأوروبي، والذي خلفها بوريس جونسون له تاريخ من النجاح على المستوى الداخلي في أكثر من موقع وله رؤية على مستوى الأداء أقنعت حزبه باختياره خلفا لتيريزا ماي، هو هنا يجمع بين النجاح النسبي على مستوى الأداء والشعبية، ولكنه في موضع اختبار والممارسة هي التي تحكم ما إذا كان ذلك حقيقيا أم لا. وفي أوكرانيا تم انتخاب رئيس جديد شاب يحظى بشعبية على وسائل التواصل الاجتماعي بحكم أنه كان شخصية تلفزيونية وقام بدور الشخص الذي يريد أن يحكم البلاد في مسلسل تلفزيوني يحمل اسم خادم الشعب، قال إنه لا يمتلك خبرة سياسية ولكنه يملك الإرادة على تحقيق مطالب الشعب وتعهد باسترجاع القرم.

الشعبية بالطبع لن تكفي مع الأخذ في الاعتبار أنها شعبية مصدرها وسائل التواصل الاجتماعي وليس الخدمة الوطنية الطويلة أو المشهود بها. والرئيس التركي أردوغان يحظى بشعبية لا جدال فيها ولكن المشاكل التي واجهها على مستوى الأداء خاصة على الصعيد الاقتصادي سحبت جانبا من هذه الشعبية لصالح المعارضة فخسر حزبه كبريات المدن التركية في الانتخابات البلدية. وأخيرا هناك مثال من أمريكا اللاتينية وتحديدا من فنزويلا حيث يحظى رئيسها نيكولاس مادورو بشعبية مشهود بها ولكن الفشل على مستوى الأداء (التردي الاقتصادي) سمح لرئيس الجمعية الوطنية خوان جوايدو بأن ينصب نفسه رئيسا بالوكالة للبلاد التي دخلت بذلك في أزمة ليس معلوما إلى أين تنتهي.

مثل هذه الأمثلة تشير إلى تخبط في إدارة الواقع السياسي في جانب كبير ومهم من عالم اليوم، حيث لا يتحقق التطابق بين الأداء والشعبية، وتتشتت الرؤى حول كل من العاملين، ومعايير الحكم على توفر سمة النجاح في كل منهما. والمنطقي والطبيعي أيضا أن يبدو المشهد الدولي المعاصر مضطربا ومفتوحا على احتمالات شتى يصعب وضعها في خانة النجاح أو الفشل. ولكن يبقى الدرس الحقيقي هو ضرورة أن يجتمع عاملا الأداء والشعبية معا.