أفكار وآراء

دروس لمكافحة الفقر

07 أغسطس 2019
07 أغسطس 2019

مصباح قطب -

سيظل الفقر وإلى أمد بعيد وجع الإنسانية الأكبر، برغم كل الجهود التي تبذلها الدول من أجل تحقيق أهداف الألفية، وفي القلب منها الحد من الفقر أو محاولة الوصول إلى عالم بلا فقراء في 2030، إن المشوار لا يزال طويلا، وهناك متشائمون يرون أن الفقر أصبح ناتجا عضويا للسياسات الاقتصادية والاجتماعية القائمة أو المهيمنة في العالم، ولن ينخفض إلا إذا تغيرت، بيد أنه لا يلوح في الأفق أنها ستتغير، وهناك من يرى أن كل المطلوب هو الإصرار على تحقيق ما تم الاتفاق عليه في إطار الأهداف الإنمائية للأمم المتحدة وبرامج مكافحة الفقر لدى البنك الدولي ليحدث التحول المنشود وتتسع الفرص وتتحسن نوعية الحياة ويتحقق قدر من التكافؤ والتمكين، ولن أقطع برأي في هذا المجال فالجدل الذي من هذا النوع لا تحسمه مقالات هنا أو كتب هناك وسيستمر هو الآخر طويلا.

ما أريد أن أنوه إليه اليوم هو دروس يمكن استخلاصها من مسوح الدخل والإنفاق والاستهلاك أو ما يسمي ببحوث ميزانية الأسرة بحيث يمكن مع الوعي بتلك الدروس تحقيق نتائج أفضل حتي مع ثبات السياسات والموارد الحالية.

تهدف مسوح الدخل والإنفاق بالأساس إلى تعرف متوسط وأنماط الإنفاق الاستهلاكي للفرد والأسرة طبقا للخصائص الاجتماعية والديموغرافية والاقتصادية للسكان، كما ترمي إلى توفير البيانات اللازمة لقياس مستوى معيشة الفرد والأسرة وبناء قواعد معلومات لقياس مستوى الفقر بنوعيه؛ المادي (نقص الغذاء والاحتياجات الأساسية)، أو الفقر متعدد الأبعاد أي الفقر المصاحب للمرض والعجز وضعف القدرات، وبالطبع فإنه لا يمكن بناء استهداف سليم للبرامج الاجتماعية وللإنفاق العام الموجه لمكافحة الفقر دون الارتكاز على مثل هذه النوعية من قواعد المعلومات، بل إنه يمكن أيضا باستخدامها تعرف مردود بعض السياسات الاقتصادية والاجتماعية على مستوى المعيشة، ويتيح المسح أيضا الفرصة لمعرفة متوسط الاستهلاك السنوي للفرد وللأسرة من بنود الإنفاق المختلفة، ودراسة العوامل التي تؤثر على هذا الاستهلاك، وفي النهاية فإن بحث الدخل والإنفاق هو الذي تقوم على نتائجه إعادة حساب موازين السلع أو الخدمات الداخلة في سلة السلع والخدمات المكونة لمؤشر التضخم في أي بلد.

وهناك فوائد أخرى للبحث/‏‏ المسح؛ لأنه يحتوى على ثروة كبيرة من البيانات عن مصادر الدخل المختلفة وأشكال ومستويات الاستهلاك والوضع لدى كل عشير (واحد إلى عشرة ) من السكان، وفي المناطق المختلفة، والتباينات ما بين الريف والحضر، وما بين المتعلم وغير المتعلم، والكبير في العمر والصغير، والمرأة والرجل...، إلخ.

من الناحية التاريخية كانت مصر أول دولة في المنطقة العربية تقوم بإجراء بحث ميزانية الأسرة وكانت البداية تجريبية وذلك في عام 1955م، ثم بدأ البحث فعليا وعلى عينة كبيرة منذ 1958/‏‏1959، وانقطع لنحو عشر سنوات بسبب الحروب التي مرت بها البلاد، ثم عاد إلى الانتظام من 1974/‏‏1975، وفي 1990 أصبح اسمه «بحث الدخل والإنفاق والاستهلاك»، وهو الاسم المستمر حتى اليوم، ومنذ سنوات أصبح البحث يتم كل عامين، المهم أنه تم منذ أيام إعلان نتائج بحث الدخل هذا عن العامين 2017 و2018 وبلغ حجم العينة 25800 أسرة معيشية، وكان أول ما لفت النظر في النتائج هو ارتفاع معدل الفقر بشكل واضح مقارنة إلى المسح السابق حيث بلغ الفقر 32.5% بزيادة 4.7%، كان الأمر صادما، ولأن إعلان النتائج كان قد تأخر بعض الشيء؛ فقد ذهبت الظنون بالبعض إلى القول: «إنه سيتم إعلان معدل مخفف للفقر؛ حتى لا يقال كيف يزيد الفقر رغم كل تلك الجهود؟» معلوم أن تحرير الاقتصاد وسعر الصرف والقيام بضبط المالية العامة يترتب عليهم في أي بلد في العالم ارتفاع معدل الفقر؛ أي أن لدى الحكومة المصرية التي تقوم بعملية إصلاح اقتصادي فيها مثل هذا التحرير ما تقوله، لكن الخبرة العامة التي يجب أن نتعلمها هي أنه لا مجال للنجاح في مكافحة الفقر إلا مع الاعتراف به وبأبعاده وحقيقة وجوده على الأرض، ولا مجال لمعرفة أبعاد الفقر وأعماقه إلا بالعمل وفق منهجيات ومعايير دولية في البحث عنه وقياسه، وفي هذا المجال يشار إلى أن الأمم المتحدة والبنك الدولي يتابعان مثل هذا البحث باستمرار ويناقشان مع المسؤولين المصريين بجهاز التعبئة والإحصاء المنهجيات وأسس بناء العينات وإجراء المسوح... إلخ، ضمانا للوصول إلى نتائج واقعية، ومع ذلك أقول أن الدولة -أية دولة- في النهاية هي التي تقرر خط الفقر القومي، فهناك أكثر من خط للفقر في العالم كما نعلم، صحيح أنها تقوم بذلك بناء على محددات منها متوسط نصيب الفرد من الدخل القومي وتكلفة المعيشة في حالة الفقر المدقع (الذي يعجز صاحبه عن الحصول على ما يديم حياته من سعرات حرارية ) أو الفقر العام أي عدم الحصول على الاحتياجات الأساسية من مأكل ومشرب ومسكن وصحة ونقل... إلخ، وأي تقليل في رقم خط الفقر القومي من شأنه أن يجعل الفقر يبدو أقل، لكن الحكومة المصرية لم تفعل ذلك كما أن لجهاز التعبئة العامة والإحصاء مصداقية دولية لا يمكن أن يفرط فيها؛ ولذلك ومما أشرت فإن أفضل ما يمكن عمله لمواجهة الفقر هو تعرف حجمه كما هو دون تهويل أو تهوين، في وقت ما كان يمكن أن يقال: «إن هذا البلد أو ذاك يتعمد المبالغة في معدل الفقر لينال معونات دولية من هنا أو هناك»، لكن في حالة مصر فقد تم تصنيفها منذ سنوات بين دول الدخل المتوسط المنخفض، ولن يفيدها بشيء إطلاقا أن تقلل من الفقر أو تزيده، من العبر المفيدة أيضا أهمية تعاون جهات لا حصر لها في بحث الدخل والإنفاق لكي يخرج بالجودة المناسبة وبالمصداقية الواجبة وأي تقصير أو تهاون أو تهرب من هذه الجهة أو تلك ينعكس بالسلب على النتائج بلا جدال كما أن أي ضعف في النتائج يضر الوزارات والجهات التي تنتظر لتعيد النظر في عملها الاجتماعي وسواء كان دعما مباشرا أو غير مباشر أو معاشات ضمانية مختلفة.

ومن أسس الإفصاح الجوهرية أن يتم عمل ملخص وافٍ بالنتائج باللغة الانجليزية؛ ليكون كل الشركاء في الصورة كما يقولون، وليكون العالم والمنظمات الدولية على بينة بما هو قائم اجتماعيا في البلد الذي يعلن النتيجة، لكن أكثر ما يعنيني هو أن نكون على يقين من أن ما كشفه بحث الدخل والإنفاق في مصر وفي غير مصر ثلاثة أمور جوهرية؛ أولها أن العلاقة شرطية بين ارتفاع الفقر وانخفاض فرص التعليم، وشرطية بين زيادة حجم الأسرة وزيادة الفقر، وشرطية فيما يتعلق بعدم الاستقرار في العمل وعدم عدالة الأجور وزيادة الفقر.