الملف السياسي

قراءة في التقرير الوطني الطوعي الأول عن التنمية المستدامة

29 يوليو 2019
29 يوليو 2019

د.صلاح أبونار -

كما حققت خطوات كبيرة في مجال التنويع الاقتصادي، فانخفض نصيب النفط في الناتج المحلى الإجمالي من 66.7% عام 2000 إلى 40.7% عام 2017. وحققت السلطنة خطوات واسعة في مجال حماية المناخ والحفاظ على الحياة الطبيعية، على مستويات التشريعات القانونية والنظم الحمائية وإنشاء المحميات الطبيعية وحماية الأنواع الطبيعية من الانقراض.

في التاسع عشر من يوليو الجاري تقدمت سلطنة عمان بتقريرها الوطني الأول، أمام المنتدى السياسي رفيع المستوى حول أهداف التنمية المستدامة، الذي عقدته لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية. استنادا إلى تقرير مطول وموثق يبلغ عدد صفحاته 176صفحة ويحمل عنوان: «نتقدم بثقة»، تقدم معالي الدكتور علي بن مسعود السنيدي وزير التجارة والصناعة بتحليل مفصل لمسيرة «استراتيجية التنمية المستدامة 2030»، منذ انطلاقها في عمان في عام 2016. فما الذي يخبرنا به هذا التقرير العماني؟

وماهي إنجازات عمان في مسارها هذا؟

ماهي الرؤية التي وجهت مسيرتها والتحديات التي تواجهها؟

في سبتمبر 2015 وفي إطار انعقاد قمة قادة العالم التاريخية، أعلن القادة المجتمعون تبنيهم لوثيقة» برنامج 2030 للتنمية المستدامة». شكلت الوثيقة المذكورة والتي أعلنت أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر، حصيلة جهد وحوار عالمي متصل تواصلت حلقاته على مدى ما يقرب من ثلاثة عقود. بدأت مسيرة هذا الجهد بقمة الأرض بريو دي جانيرو 1992 التي تبنت وثيقة «برنامج عمل للقرن 21»، وتلتها «قمة الألفية» في سبتمبر 2000 والتي تبنت «إعلان الألفية» وأهدافه التنموية الثمانية. وفي أعقاب ذلك جاء «إعلان جوهانسبرج حول التنمية المستدامة وخطة التنفيذ»، الذي صدر عن قمة العالم حول التنمية المستدامة عام 2002. وفي يونيو 2012 انعقد مؤتمر الأمم المتحدة حول التنمية المستدامة في ريو دي جانيرو، والذي تبني وثيقة «المستقبل الذي نريده». وفي العام التالي2013 أسست الجمعية العامة للأمم المتحدة ما دعته «مجموعة العمل المفتوحة» المكونة من 30 عضوا، من أجل صياغة مقترح بأهداف التنمية المستدامة. ومن مطلع عام 2015 أطلقت الأمم المتحدة عملية تفاوض واسعة حول أهداف وبرامج التنمية المستدامة، وصلت إلى ذروتها في سبتمبر 2015 عندما تبنت «قمة العالم للتنمية المستدامة وثيقة تحويل عالمنا: برنامج 2030 للتنمية المستدامة».

وفي كل تلك الخطوات الـتأسيسية كانت السلطنة شريكا محاورا وفاعلا، فشاركت عام 2012 في المناقشات التي دارت حول وثيقة «الطريق إلى العيش بكرامة»، والتي تعتبر أحد المصادر التأسيسية لوثيقة سبتمبر 2015 النهائية. وشاركت بوفد مكون من 24 عضوا في أعمال «مجموعة العمل المفتوحة»، وساهمت في مناقشات سبتمبر 2015 التي أسفرت عن الوثيقة النهائية. ولكن كان لمشاركة السلطنة بعدا أخرا بخلاف بعد المشاركة في الجهود العالمية لصياغة وثيقة سبتمبر 2015 والوثائق المساندة لها. ويمكننا رصد هذا البعد على ثلاثة مستويات.

أولا: يتعلق ببرامج العمل، فعلى امتداد سنوات إعداد الخطة الخمسية التاسعة 2016 -2020، عملت الجهات العمانية المختصة على إدماج مستهدفات التنمية المستدامة في سياق مستهدفات الخطة. وثانيا: يتعلق بترسيخ مفاهيم وخطط التنمية في السياق العماني، من خلال العمل المكثف والمنهجي من أجل صياغة مؤشرات محلية لقياس التنمية المستدامة. وثالثا: مؤسسي يتعلق بتشكيل المؤسسات الموجهة للخطط التنموية، وهو ما تجلى بوضوح عام 2019 بتشكيل اللجنة الوطنية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة. انطلقت المؤسسات العمانية في مسار تحقيق أهداف التنمية المستدامة في طريق ليس جديدا عليها. شكلت مسيرة التنمية العمانية منذ بداياتها في الخطة الخمسية الأولى 1976 – 1980، سعيا مخططا ومؤطرا برؤية تنموية، للنمو الاقتصادي والتنمية الإنسانية والمشاركة الاجتماعية. النمو الاقتصادي عبر ارتفاع الناتج القومي، والتنويع الاقتصادي، وتطوير البنى والمرافق الأساسية، وزيادة الدخل الفردي وتخفيض حدة التفاوتات الفردية والإقليمية وتطوير البنى الأساسية. والتنمية الإنسانية بمعنى نشر التعليم والثقافة، والحفاظ على الصحة الإنسانية وتطويرها في ظل شروط حياة أفضل، والمساواة بين النوعين عبر تطوير أوضاع الإناث، وتوفير الاحتياجات الأساسية للأفراد بما يحفظ الكرامة الإنسانية، وتوفير فرص العمل للقادرين. والمشاركة الاجتماعية عبر تسييد القانون، وتطوير مؤسسات الدولة، وفرض النظام، وإقرار وحماية حقوق المواطنة، وإطلاق المشاركة المجتمعية والسياسة عبر وسائطها العديدة. ويمكننا بسهولة أن نتعرف على وجود تلك العناصر في الخطط التنفيذية لسياسات التنمية العمانية، وفي الوثائق المعبرة عنها والمصاحبة لها. وفي الوقت نفسه يمكننا رصد عمق التقاطع بين تلك الرؤية، والعناصر الأساسية المكونة لمفهوم التنمية المستدامة.ولكن هذا التقاطع العضوي بين استراتيجية التنمية المستدامة والاستراتيجيات الكلية للتنمية العمانية، لا يقتصر على خطط التنمية الخمسية والرؤى الكلية الجامعة لها التي تتمثل في «رؤية عمان 2020» ومن بعدها «رؤية عمان 2040»، فهو يتواجد أيضا كما يخبرنا الاستعراض الوطني على مستويين آخرين مكملين: مستوى استراتيجيات التنموية القطاعية، ومستوى المبادرات والمؤسسات الحكومية.

وسنجد نماذج لتلك الاستراتيجيات التنموية القطاعية في: استراتيجية عمان الرقمية، واستراتيجية النطاق العريض، والاستراتيجية الوطنية للابتكار، واستراتيجية التجارة الإلكترونية، والاستراتيجية الوطنية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، واستراتيجية الزراعة والتنمية الريفية في عمان 2040، واستراتيجية القطاع السمكي بعيدة المدى، واستراتيجية الأمن الغذائي 2020–2040، والنظرة المستقبلية للنظام الصحي 2050، والاستراتيجية الوطنية للتعليم، والاستراتيجية الوطنية للطاقة. ويضاف إلى ذلك: الخطة الرئيسية لقطاع المياه 2040، واستراتيجية المياه المفقودة، والاستراتيجية الوطنية لاستغلال مياه الصرف الصحي، والبرنامج الوطني لتعزيز التنوع الاقتصادي، والبرنامج الوطني للعمل اللائق، والاستراتيجية الوطنية للتنمية العمرانية.

وسنجد نماذج لما دعوناه المبادرات والمؤسسات الحكومية فيما يلي: النظام الموحد لمد الحماية التأمينية، ونظام التأمينات الاجتماعية على العمانيين العاملين لحسابهم الخاص، ونظام شفاء للصحة الإلكترونية، والحملة الوطنية للتحصين ضد الحصبة، والبرنامج الوطني للسلامة على الطريق، ومشروع نظام المؤشرات التربوية، والبرنامج الوطني لتنمية مهارات الشباب. علاوة على: مشروع سد وادي ضيقة، ومشروع الاستمطار الصناعي، ومشروع مرآه للطاقة المتجددة، ومراكز المجتمع المعرفية للمرأة، والهيئة العامة لتنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة (ريادة)، والصندوق التكنولوجي العماني، ومنصة إيجاد الإلكترونية، ومنصة المدن الذكية، واللجنة الوطنية لحماية طبقة الأوزون، ومبادرة الحياة في البر، ومحمية الحجر الغربي لاحتواء النجوم، ومشروع السحابة الحكومية، والشبكة الحكومية الموحدة، والشبكة الحكومية للبحث والتعليم، ونظام المحميات الطبيعية. ويمنحنا الاستعراض العماني جملة من المؤشرات الإحصائية الدالة على عمق الإنجاز العماني في مجال التنمية المستدامة، ونظرا لاتساع التحليل وتعدد المؤشرات سنكتفي ببضعة نماذج مهمه. حققت السلطنة خطوات كبيرة في تحقيق هدف الأمن الغذائي، فارتفعت نسبة الإنتاج المحلي من الزراعة والأسماك إلى إجمالي المتاح للاستهلاك، من 36% عام 2011 إلى 49% عام 2018، وتمكنت عمان من احتلال المرتبة 29 من 113 دولة في المؤشر العالمي للأمن الغذائي لعام 2018، وبالتالي حققت تراجعات هائلة في معدلات الإصابة بأمراض سوء التغذية مثل التقزم والهزال. وفي مجال الصحة حققت طفرة في متوسط عمر الإنسان المتوقع عند الميلاد الذي وصل إلى 74 عاما، ومعدلات الإصابة بالأمراض الخطرة مثل السل التي انخفضت معدلاته من 11 لكل مائة ألف في 2010 إلى 5.8 في عام 2017. وفي مجال التعليم احتلت السلطنة المرتبة 19 في الإنفاق على التعليم في عام 2017، وحققت طفرة في مؤشرات المساواة بين الجنسين في مراحل التعليم حيث وصلت إلى 99.5 في الابتدائي و98 في التعليم المتوسط و99,7 في الثانوي. وفي عام 2016 وصلت نسبة الأهالي المستفيدين من مياه الشرب الآمنة إلى 98,6 %، ومن شبكات الصرف الصحي إلى 97% في الأرياف و98% في الحضر. وحققت نسبة المستفيدين من الطاقة الكهربائية 100% في عام 2014. وفي مجال المساواة بين الجنسين وصل نسبة التحاق الإناث في الصفوف 7 -11 إلى 101% خلال عامي 2017، وانخفضت نسبة أمية الإناث إلى 6.3% عام 2018، ووصلت نسبة الإناث في وظائف الخدمة المدنية إلى 47% عام 2017، وأصبحت النساء يتمتعن بأهلية مساوية للرجال وفقا لأحكام قانون المعاملات المدنية. وفي مجال الابتكار احتلت عمان المرتبة الرابعة دوليا عام 2018 في مجال الأمن السيبراني، والمرتبة 52 في مجال الحكومة الإلكترونية. كما حققت خطوات كبيرة في مجال التنويع الاقتصادي، فانخفض نصيب النفط في الناتج المحلي الإجمالي من 66.7% عام 2000 إلى 40.7% عام 2017. وحققت السلطنة خطوات واسعة في مجال حماية المناخ والحفاظ على الحياة الطبيعية، على مستويات التشريعات القانونية والنظم الحمائية وإنشاء المحميات الطبيعية وحماية الأنواع الطبيعية من الانقراض.

وتعي المؤسسات العمانية المتولية أمر سياسات التنمية المستدامة عمق التحديات التي تواجهها لكي تواصل طريق تقدمها. يشدد الاستعراض الوطني على أكثر من تحدي. تحدي محلية التنمية والذي يعني ضرورة الصياغة العادلة لخطط وثمار التنمية بين مختلف مناطق السلطنة، والعمل المتصل لسد الفجوات التنموية الموجودة بينها. وتحدي كفاءة تمويل التنمية، والذي يعني تأمين أدوات ومصادر متكاملة وقابلة للاستدامة لتمويل التنمية. وتحدي مدي جاهزية السلطنة للثورة الصناعية الرابعة، والذي يفرض تبني عدة استراتيجيات لتوفير تلك الجاهزية، مثل الاستراتيجية الوطنية للابتكار واستراتيجية عمان الرقمية. وتحدي المتغيرات الاقتصادية والإقليمية، التي تأتي معها بانخفاض أسعار النفط وتحولات حادة في أسعار المواد والسلع، الأمر الذي يفرض ضرورة الاستعداد لها بالموارد والسياسات. وفي النهاية تحدي إيجاد فرص العمل، في ظل ارتفاع عدد السكان، والنزوع لتبني تقنيات الثورة الصناعية الرابعة، بما تحمله معها من انخفاض في نسبة العمالة البشرية.