المنوعات

الـنـائم فــوق الغـيمـة

28 يوليو 2019
28 يوليو 2019

نقد وتحليل: ليلى عبدالله -

(النائم فوق الغيمة) قصة قصيرة للأطفال للكاتب والناقد عزت عمر، رسوم عبد العزيز الدهر الصادرة عن المجلس الأعلى للأسرة، مراكز الفنون والناشئة في الشارقة. هذا العنوان العام للقصة يتفرع كالشجرة إلى عناوين داخلية أخرى، تعبر عن أحداث تخدم بطل القصة « جابر »، وتؤديها شخصيات ثانوية محركة لحدث القصة الرئيسي ومن تلك العناوين:

« كيف عالجت النخلة صديقتها الحمامة، الرجل الأخضر القادم من حقول الزهر، نجم الدين والحمامة الجريحة، أبو الروائح العفنة، زائر الليل، كيف تحول جابر إلى نصير للبيئة ؟»

« نائم فوق العتمة » جاء العنوان معبرًا عن المجموعة كلها، وقد يتبادر إلى ذهن المرء وهو يقرأ القصة ويتابع أحداثها أن ثمة غيمة ستكون سريرًا للطفل جابر؛ كي ينام فوقها. لكن خيال الكاتب أكبر من ذلك بكثير، فالعنوان هنا يحمل دلالة رمزية تمثل عن العلو والارتفاع، وهي المكانة التي يحظى بها جابر الطفل المشاكس والعنيد في نهاية القصة. كما أنه يتصف بأنه عنوان شاعري وفيه لمحة خيال خلاقة.

وثمة ارتباط ذكي بين هذه القصة والمرحلة العمرية الموجه لها يمكن تقديرها ما بين (8 ـ 12) سنة. فالطفل جابر في الصف الرابع، وبلا شك بأنه يخاطب أقرانه الأطفال في هذه المرحلة المماثلة.

في هذه المرحلة يكون الطفل بين جدران المدرسة، خارجًا من مرحلة الحضانة والروضة، فيبدأ باكتشاف العالم الخارجي من حوله بعد اتصاله الحميم بالأم يخرج إلى عالم آخر بعيدًا عن محيطه الأسري، فيعمد إلى الخيال الحر المتحرر من القيود، الموصوف بالغرابة والطرافة .

والطفل في هذه المرحلة يميل إلى العناوين التي تتيح لأخيلتهم الانعتاق، والطواف في اللامحدود.

هذه المجموعة القصصية أشبه برواية قسمت إلى عناوين واضحة، يتكئ عليها الكاتب لتوصيل فكرته بطريقة منظمة وممتعة في آن. تحكي عن شخصية واحدة محورية الطفل « جابر » وهو طفل مشاكس كما قدمه الكاتب في بداية القصة : « كان هنالك طفل صغير اسمه جابر، وكان تلميذا في الصف الرابع » هذه صفة معرفية بالشخصية، ثم يورد الكاتب صفات أخرى سلوكية ترسم بصمة واضحة للشخصية التي سيتابعها الطفل في امتداد أحداث القصة : « كلما شرب عصيرًا أو ماء، ألقى بالعلبة الفارغة إلى الأرض، وراح يتقاذفها برجله وكأنها كرة قدم، ثم ما يلبث أن يهملها بعد قليل، أينما كان جابر، فإن العلب الفارغة تتناثر من حوله. حديقة المنزل اشتكت منه مرارًا . رصيف الشارع، والنخلة الجميلة ذات السقف، بالإضافة إلى زملاء المدرسة ..».

القصة هنا لم تبن قوائمها اعتمادًا على شخصيات بشرية فقط، بل استعانت بشخوص حيوانية وأخرى من الجماد وأنسنتها بحيث تخدم الأحداث بشكل جيد .

ويمكن القول بأن الأنسنة هو نوع من الفن تشدّ الصغار إلى القصة؛ لأنها تقدم لهم الجوامد والأحياء كلها ناطقة، شاعرة، مفكرة، كما يتصورونها ويحبونها . ومن شخصيات الأنسنة في القصة : « الحمامة، النخلة، الرجل الأخضر، العصفور الدوري ». وسنلاحظ أن لكل من تلك الشخصيات علاقة بجابر .

علاقة جابر بالحمامة :

ذات يوم تألمت الحمامة البيضاء من تصرفات جابر، وفكرت ثم قررت في النهاية أن توبخه وتستنكر أفعاله، فانتظرت عودته من المدرسة طويلاً، حتى جاءت الحافلة به، وكان كعادته يضع حقيبة فوق ظهره، وفي إحدى يديه علبة فتحت قبل قليل، لوح بيده الأخرى لبعض زملائه في الحافلة، شرب ما تبقى من العلبة، ثم اتجه إلى حوض النخلة، ورمى بالعبوة الفارغة على الرغم من وجود حاوية القمامة قربه، فقالت الحمامة بغضب ظاهر:

« لم تفعل ذلك يا جابر؟! ألا يعلمك مدرسك، أن رمي الفضلات في الشارع عادة كريهة؟»

وكمن فوجئ بسماع الصوت نظر جابر إلى الأعلى، وكانت الحمامة البيضاء تقف فوق سور المنزل وقرب البوابة تماما، فابتسم لمرآها ساخرًا، ثم التقط حجرًا من الأرض ورماه نحوها، حاولت الحمامة تفادي الضربة، ولكنها مع الأسف وأثناء طيرانها أصابها الحجر في جناحها الأيمن، وطارت الحمامة وهي تترنح في الفضاء وفي كل حين تكاد تسقط أرضًا.

ويكشف الحدث هنا علاقة متوترة وعدائية تلك التي يكنها جابر الطفل العدواني للحمامة الطيبة، التي كانت تسعى إلى الإصلاح من شأنه.

وطارت الحمامة رغم الآلام التي تكابدها إلى صديقتها النخلة تشكي لها تصرفات جابر الطائشة، وما أورثها ذلك من جرح في إحدى جناحيها، فأخذت النخلة الطيبة تطيب بخاطرها وتسعى بكل حنان إلى تخفيف من روعها على أبنائها قائلة : « استرخ، ولا تقلقي بشأن أبنائك أيتها الصديقة، ولابد أن أباهم يرعاهم الآن». ونامت الحمامة في ظلال سعفها، بينما هي تفكر في خطة محكمة للانتقام من جابر الطائش.

الرجل الأخضر القادم من حقول الزهر:

شخصية الرجل الأخضر سنرى أنها شخصية صالحة على نقيض شخصية جابر، يتمتع بصفات أشبه بخارقة: « بين حقول الزهر البرية نما، ومن عبيرها رضع كأنه نسمة ربيعية اختزنت روائح الطبيعة، ثم راحت تنتقل بين أرجاء البسيطة، ولو شاء أن يداعب غيمة لمد يده عاليًّا، فتستجيب الغيمة لرغبته طوعًا، ولو شاء أن يدخل باطن الأرض من الثقوب التي تحدثها النمل والحشرات الأخرى لفعل أيضا».

هذه الصفات الخارقة للرجل الأخضر تنطلي على طفل في مرحلة الخيال الحر، بل ينجذب نحوها؛ لأنها محفزة لخياله الصغير الذي يبدأ بالتفتح شيئًا فشيئًا إلى أن يشكّل نظرته الخاصة للعالم من حوله. وهي شخصية محبوبة من قبل الجميع : « الكل كان يسرّ برؤيته».

ولتسميته « نجم الدين » حكاية طريفة، أضافها الكاتب بين ثنايا هذه المجموعة وهي حكاية يمكن اعتبارها وقفة لطيفة، يتوقف عبر مداها العميق الطفل الصغير، فيكتسب ألوانًا من المتعة.

هناك لمحة مفيدة في شخصية الرجل الأخضر؛ هي الحالة العطرية المرافقة له، وهذا بدوره يكثّف من أهمية حاسة الشم التي سيكشف الطفل وجودها في الطبيعة، فالرجل الأخضر يمثل الطبيعة، والطبيعة نادرًا ما تلفت اهتمام الطفل كمكان مليء بالمتعة والصحة النفسية، ففي ظل هذه المواكبة لتقنيات الحديثة واتكال الكلي على الآلات لتسلية الأطفال التي غالبًا ما تكون في قاعات مربعة أو مستطيلة، كل ما فيها آلي، ويظل الطفل قابعًا في فضائها الضيق طالبًا المتعة.

والرائحة العطرية التي تفوح من الرجل الأخضر تبرز أهمية حاسة الشم بالمحيطين وما يترافق ذلك من أحاسيس رائقة بالأحلام السعيدة: «إنما نفعل ذلك ؛ لأننا نريد أن نتضوع بعطره ، فتلازمنا الأحلام السعيدة طوال نهارها».

الأحداث تتنامى، والكاتب في كل جزء من أجزاء هذه القصة يركز على شخصية معينة يسلط الضوء عليها، فتكشف الصفة التي يتمتع بها، وتكون كإضافة للطفل سواء أكان قارئًا أو مستمعًا كشخصية العصفور الدوري، هذا الطائر عمله محرر في صحيفة الصباح، اعتاد متابعة شؤون المجتمع، وتتبع الأخبار الجديدة، وهو الذي نقل خبر الحمامة الجريحة إلى الرجل الأخضر .

ومن الأخبار التي حملها العصفور الدوري في جعبته للرجل الأخضر: الخفاش يعين مندوبا ليليا دائما لهيئة أبناء الغابة « ..» خلاف بين وادي السناجب ومملكة الدببة حول اقتسام مياه النهر ...الخ .

ويمكن للطفل أن يأخذ من شخصية العصفور الدوري أهمية مشاطرة الآخرين أخبارهم، بحيث تنمي فيهم قيمة الإيثار وأن العالم لا يمثله وحده، بل يمثل الآخرين غيره أيضا.

علاقة جابر بالنخلة:

بعد الأخبار التي أوردها العصفور الدوري توجه إلى حيث أمره الرجل الأخضر يخبر النخلة عن زيارة الرجل الأخضر لها، وهنا سنجد ملمحًا تربويًّا جميلاً ينم عن الاحترام فالرجل الأخضر حين يقبل على النخلة يبادرها بالقول: «ها أنا قد جئت لزيارتك يا أمي النخلة» وكان نجم الدين يفضل مناداتها بهذه العبارة المحببة والنخلة تفرح لذلك كثيرًا . ثم التفت إلى الحمامة الجريحة وطفق يعالجها بأدوية من الأعشاب والزهر اختارها بنفسه من البراري الواسعة، وبينما الحمامة الجريحة أخذت بدورها تشكو خوفها على صغارها ولا تدري ماذا حل بهم ؟ وسرعان ما طمأنها الرجل الأخضر وراح يمسح ريشها الجميل بكل نعومة وحنان قائلا لها: «اطمئني سآخذك إلى بيتك ، ولكنك لم تخبريني عن سبب إصابتك هذه .. أهي بفعل صياد عابث، أم ولد شقي؟» فأجابته النخلة بحزن: «أنه جارنا جابر» فاندهش الرجل الأخضر بدوره بينما النخلة تحكي له قصة جابر مع العلب الفارغة، وإهماله لواجباته ودروسه، فضرب الرجل الأخضر كفا بكف ثم تمتم: «لقد أحزنتني يا أمي، جابر يفعل ذلك وقد أحببناه كل ذلك الحب، أما تذكرين كيف كنت أداعبه وأحمله إلى سعفك كي يتناول شيئا من الرطب»؟

في المقولة أعلاه يتضح لنا علاقة جابر بالنخلة، وكيف أنها كانت متأصلة بروابط الحب والخير، بينما جابر حين كبر بدأ ينسى كل ذلك.