أفكار وآراء

49 عاما من النهضة العمانية الشاملة

24 يوليو 2019
24 يوليو 2019

د. أحمد سيد أحمد -

يمثل الثالث والعشرون من يوليو من كل عام محطة جديدة في قطار التحديث وبناء الدولة العصرية في عمان منذ تولي جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- الحكم في عام 1970، فمنذ تلك اللحظة انطلق قطار النهضة الشاملة على كافة المستويات في السلطنة.

ففي عام 1970 خاطب جلالة السلطان قابوس شعبه عبر الإذاعة قائلا: «أيها الشعب سأعمل بأسرع ما يمكن لجعلكم تعيشون سعداء لمستقبل أفضل... لقد كان بالأمس ظلاما ولكن بعون الله غدا سيشرق الفجر على مسقط وعمان وعلى أهلها».

وبالفعل وخلال ما يقارب نصف قرن من الزمان تتحدث الأرقام والإنجازات عن نفسها لتترجم مسيرة عطاء وتقدم وضعت عمان وشعبها في مكانتها اللائقة بين الأمم.

تتسم النهضة العمانية بخصوصية كبيرة وتنفرد عن بقية دول العالم في جوانب كثيرة جعلتها نموذجا يحتذى بها بين بقية الأمم والشعوب، فباستعراض التجربة العمانية نجد العديد من السمات المهمة:

أولا: إن النهضة العمانية ارتكزت على وجود إرادة سياسية قوية وفلسفة واضحة وعزيمة صلبة من أجل تحقيق النهضة والنمو تجسدت في قيادة السلطان قابوس بن سعيد بفكره الصائب ونظرته الحكيمة والثاقبة في التعاطي مع الأمور والنظر إلى المستقبل وهو ما أعطى التجربة قوة دفع ذاتية ليستمر قطار النهضة في السير بشكل دائم.

ثانيا: كما قامت النهضة العمانية على فلسفة واضحة وهى أن الإنسان هو الغاية من التنمية والنهضة وهو أداتها، ولذلك استثمرت الدولة العمانية كل مواردها في المواطن العماني باعتباره أهم ثروة ومورد تمتلكها البلاد ولذلك كان الاهتمام بالإنسان العماني هو محور التنمية والنهضة في كل المجالات والقطاعات، فقد اهتمت الدولة بصحة المواطن العماني من خلال بناء المستشفيات الحديثة في كافة أنحاء السلطنة، وفقا لأحدث المستويات العالمية والكوادر الطبية المؤهلة وحملات التوعية والتأمين الصحي الشامل لكي يتمتع المواطن بالصحة والعافية التي تجعله يستمتع بالحياة ويكون عضوا فاعلا في المجتمع وقيمة مضافة فيه وليساهم في التنمية بشكل فعال. كما اهتمت الدولة بعقل الإنسان العماني ولذلك حظي التعليم بكل أنواعه سواء التعليم الجامعي وما قبل الجامعي باهتمام كبير جدا من الدولة العمانية وأنشأت المدارس والجامعات الحديثة في كل أنحاء السلطنة لكي يتسلح المواطن العماني بأحدث أسلحة العصر الحديث من المهارات التعليمية والفنية التي تجعله مواطنا فاعلا وقادرا على اختراق مجالات العمل الحديثة، واستعانت السلطنة بالخبرات العالمية في مجال التعليم وجذبت أفضل الكوادر الأجنبية لتبادل الخبرات مع الكوادر العمانية، كما أرسلت المبعوثين العمانيين إلى الخارج ليتلقوا المعارف الحديثة والتخصصات النادرة في أرقى المعاهد والجامعات العالمية، ولذلك ساهم التعليم في عمان في تراجع واختفاء الأمية، كما ساهم في سياسة التعمين وإحلال الأيدي العاملة الوطنية محل الأيدي العاملة الأجنبية كما زود سوق العمل بالتخصصات المطلوبة خاصة في المشروعات الوطنية العملاقة الحديثة كما في الدقم وصلالة وصحار. كما عملت النهضة العمانية على توفير كل سبل العيش الكريم والراحة للإنسان العماني وتوفير الخدمات المختلفة له سواء الكهرباء والمياه النظيفة والبنية الأساسية والخدمات الترفيهية وتيسير الإجراءات الحكومية وغيرها من بيئة آمنة ومستقرة وكذلك الاهتمام بالتنمية البشرية، ولذلك حققت عمان إنجازات عالمية في مجال التنمية البشرية.

ثالثا: قامت النهضة العمانية على تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة التي تحافظ على الموارد للأجيال القادمة، وانطلق قطار التنمية الاقتصادية في كافة قطاعات السلطنة عبر ما يقارب نصف القرن حيث أصبحت التجربة الاقتصادية العمانية نموذجا يحتذى به، فقد قامت النهضة والتنمية الاقتصادية على عدة ركائز أبرزها مواكبة متغيرات العصر الحديث في المجال الاقتصادي، والتخطيط السليم عبر خطة التنمية الاقتصادية الخمسية المتتابعة وفقا لاستراتيجية ورؤية شاملة واضحة، حيث تنتهي العام القادم خطة التنمية الخمسية التاسعة (2016-2020)، وذلك في إطار رؤية 2020 ولتبدأ الرؤية التخطيطية الجديدة 2040 والتي تجعل التنمية الاقتصادية في عُمان تسير وفقا لرؤية واضحة ومخططة وشاملة ومتكاملة، ووفقا لأحدث قواعد التخطيط الحديث في إطار وجود آليات للمتابعة والمراجعة وإزالة العقبات والتعلم من دروس وأخطاء التجارب السابقة وتلافيها في الخطط المستقبلية وتقييم مستوى ودرجات الإنجاز، وكل هذا في إطار من التراكم المستمر بحيث ان كل خطة خمسية تأتي لتكمل ما سبقها وتشكل حلقة في مسلسل مستمر من الإنجاز والتقدم الاقتصادي، وقد ترجمت هذه الرؤية في الإنجازات الاقتصادية الكبيرة التي حققتها السلطنة عبر السنوات الماضية تمثلت في ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي وحجم الموازنة العامة والمشروعات الاقتصادية التي تزخر بها كل مناطق السلطنة والمناطق الاقتصادية والمناطق الحرة الضخمة في صلالة وصحار والمنطقة الاقتصادية بالدقم والتي تمثل قاطرة التنمية المستقبلية في عمان، ولذلك يعد الاقتصاد العماني من أفضل الاقتصادات العربية حيث قامت التنمية الاقتصادية على هدف واضح وهو تحقيق التنويع الاقتصادي وتقليل الاعتماد على النفط والغاز كمصدر رئيسي للدخل القومي بسبب التقلبات الحادة في أسعار النفط والغاز عالميا نتيجة لاعتبارات خارجة عن السيطرة مثل الصراعات في العالم وتباطؤ معدلات نمو الاقتصاد العالمي وتراجع معدلات الطلب العالمي، ومن ثم كان الاتجاه نحو الاعتماد على المصادر الأخرى من غير النفط والغاز لزيادة الدخل، وكانت عمان من أفضل الدول التي حققت إنجازات في التنويع الاقتصادي عبر التوسع في قطاع الصناعات خاصة صناعة البتروكيماويات وقطاعات الزراعة والسياحة وصيد الأسماك والخدمات اللوجستية والسياحة وغيرها، إضافة إلى التوسع في قطاع المشروعات الصغيرة ومشروعات ريادة الأعمال التي تتميز بها السلطنة. واتسمت النهضة الاقتصادية العمانية بوجود دور بارز للقطاع الخاص في التنمية ودعم الدولة له في إطار الشراكة القوية بينهما، حيث احتلت السلطنة المرتبة الأولى عالميا في الحرية الاقتصادية، كذلك قيام عمان ببناء شراكات اقتصادية مع مختلف دول العالم وجذب الاستثمارات الأجنبية مثل المدينة الصينية بالمنطقة الاقتصادية بالدقم وكذلك الاستثمارات البريطانية والأمريكية واليابانية وغيرها.

رابعا: تسير النهضة العمانية وفق مسارات متوازية ومتكاملة، فإلى جانب مسيرة النهضة الاقتصادية الشاملة والنهضة الاجتماعية وبناء الإنسان والاستثمار فيه، هناك المسار السياسي ودعم دور المواطن للمشاركة في صنع القرار وتحقيق النهضة، حيث شهدت عمان بناء دولة عصرية حديثة ومتقدمة ارتكزت على تكريس دولة المؤسسات والقانون ولذلك شكل إنشاء مجلس الشورى ومجلس الدولة نموذجا للديمقراطية العمانية المترسخة، كما ترتكز النهضة العمانية على تفعيل دور المرأة والشباب في الحياة العامة، كما تمزج النهضة العمانية بين الأصالة والمعاصرة، والجمع بين التقدم والتحديث والحفاظ على التقاليد والعادات العمانية الجميلة في إطار يوازن بين الأصالة العمانية والأخذ بمتغيرات العصر الحديث.

خامسا: اتسمت السياسة الخارجية العمانية بأنها نموذجا عالميا يحتذى، حيث ارتكزت طوال نصف القرن الماضي على نشر ثقافة السلام والتسامح والتعايش في مواجهة ثقافة الكراهية والعنف، ونشر منهج التنمية والبناء والإعمار في مواجهة منهج الدمار والحروب، وقامت على تكريس قواعد القانون الدولي في احترام سيادة الآخرين وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، ولذلك حظيت السياسة الخارجية العمانية باحترام جميع دول العالم بسبب مصداقيتها وموضوعيتها ودورها الحيادي الإيجابي ووساطتها في الكثير من الصراعات والحروب والأزمات ونجاحها في تحقيق السلام ولذلك أصبح الكل يلجأ لعمان لتحقيق الأمن والسلام.

لهذا كله شكلت النهضة العمانية نموذجا متفردا في التقدم على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ولهذا يأتي الثالث والعشرون من يوليو من كل عام ليضيف لبنة جديدة في جدار التقدم والنهضة العمانية.