aasim
aasim
أعمدة

عُمان وتاريخها أمانة في أعناقنا

23 يوليو 2019
23 يوليو 2019

عـاصـم الشــيدي -

[email protected] -

فكرت أمس طويلا، وأنا أرى عُمان من أقصاها إلى أقصاها تحتفل بالذكرى التاسعة والأربعين لنهضة 23 يوليو وتوقد شمعة تمام العقد الخامس من عمر تلك النهضة المجيدة، كيف لفنان تشكيلي أن يرسم لوحة النهضة، أو روائي عبقري أن يكتب قصتها في قالب فني يستحوذ على قلوب وعقول أجيال عُمان القادمة. هل يرسم صورة بطل شامخ تقف عُمان بكل تاريخها الطويل لتضع على رأسه إكليلا من زهور المجد والسؤدد على الدور الذي قام به في سبيل استعادتها لمكانتها التاريخية، أو يكتب ذلك الروائي قصة بطل طوّع الأسطوري إلى واقعي والمستحيل إلى حقيقي وهو يبني «قصة حضارة اسمها عُمان»؟؟. وجدتُ أن البطل هو العامل المشترك في الحالتين، وفكرتُ أن عُمان الحديثة هي هبة ذلك البطل الذي استلهم ضمير أمته العمانية وقرأ إرادة شعب عظيم كان يتوق لتغيير المشهد واستعادة أمجاد عظيمة لا يمكن أن تتلاشى أو تنطفئ أبدا. بطلٌ كانت عُمان تنتظر ميلاده وترهن أحلامها وتطلعاتها للحظة التي يمسك فيها بزمام المشهد ليعيد كل شيء إلى مكانه التاريخي.. وكانت عُمان بكل عظمتها تنتظره وتحلم به فمثلها لا يخبأ وجهها الحضاري . ودور البطل ضروري في تاريخ الأمم، وصناعتها وصناعة تاريخها، شرط أن يكون من صناعة الأمة، ومن صناعة تاريخها، وثقافتها وتكون مهمته الحقيقية والأساسية أن يعيد للتاريخ مكانته ويسير بأمته إلى بر الأمان. وكانت عُمان تنتظر، وعينها على تشكّلات التاريخ الحديثة وقلبها على أمجادها الغابرة.. لم تنم ولكنها بقيت تحلم وتنتظر.

يعرف التاريخ مكانة عُمان العريقة، وهي مكانة لا تحتاج إلى تزويق أو تجميل بمساحيق وقتية، فقد نقشت كل تفاصيلها على صفحة التاريخ نقشا عميقا بإزميل الإنسان العماني، الصابر والمجتهد، عبر حقب تاريخية طويلة. وشواهدها كثيرة وواضحة يحكيها أكثر من 45 ألف مخطوط في كل فنون المعرفة، وآلاف القلاع والحصون، وأنظمة الري والزراعة وفنون المعمار وهندسته، وعلوم الفلك والبحار وبأسطول بحري جاب الدنيا شرقا وغربا، وبأقدم نظام سياسي ما زال قائما إلى اليوم بتنظيرات علمية واضحة، وبمنظومة قيم أصيلة تسمو إلى مراتب الكمال البشري.

لم تكن عُمان في يوم من الأيام قبيلة حلمت أن تصبح دولة، بل كانت على الدوام «أمة شكلت دولة» وفق تعبير الدكتور عبدالله الحراصي، وهو تعبير دقيق جدا.. ودولة لم تكن في يوم من الأيام رقما سهلا رغم عواصف الرمال العربية وأطماع الأمم الأخرى، لكن تاريخ الدول والشعوب يمر بفترات مد وجزر، تمدد وانكماش، لكن الدول التي شكلتها الأمم لا تعرف اليأس ولا تفقد الأمل.

وقد مرت عُمان بفترة صعبة جدا بعد الحرب العالمية الثانية أعادتها بالمعنى الحديث لدول القرون الوسطى، وتراجعت أو كادت في صناعة المعرفة وغابت تماما عن كل التقدم الهائل الذي شهده العالم بعد تلك الحرب ـ رغم أنها كانت إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس إذا استعرنا المصطلح المعروف الذي يصف الامبراطورية البريطانية ـ لكن عينها بقيت مفتوحة على موعد ظهور بطلها المنتظر الذي بيده الخلاص.

كان المشهد في نهاية حقبة ستينات القرن الماضي قد وصل إلى حد فقد الأمل لولا أن شعبا عظيما كالشعب العماني لم يكن ليفقد الأمل أبدا، ولم يكن ليترك سياق تاريخه الطويل للحظة يأس عابرة رغم كل الصعوبات ورغم كل التحديات الداخلية والخارجية المحيطة بعُمان. لم يطل الأمر، وكان الموعد في صباح الثالث والعشرين من يوليو حينما أشرق على عُمان عهد جديد، ظهر فيه البطل الذي سيقود عمان إلى الأمام وإلى بر الأمان.

كان حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم هو ذلك البطل الذي انتظرته عُمان لعقود وعلّقت على ظهوره آمال استمرار أمجادها.

ولأن السلطان قابوس هو ابن الأمة العمانية وابن ثقافتها ومستلهم تاريخها استطاع بسهولة الاتصال بضميرها وملك سريعا عقلها وقلبها وعرف آمالها وتطلعاتها فأخذها على عاتقه وعاهد شعبه على تحقيقها منذ البيان الأول.

لم تكن عُمان في ذلك الوقت بالتحديد تحتاج إلى مجرد حاكم يجلس على عرشها، ولكنها كانت تحتاج قبل كل شيء إلى بطل/‏‏‏ رمز، بطل لا يرضى في تسيير المشهد بالمعطيات القريبة ولا حتى المنطقية، لأنها ستبقي المشهد في سياقه المعتاد.

ويمكن هنا أن نستذكر دور تشرشل في تاريخ الأمة البريطانية التي كانت توشك أن تتلاشى أمام مد هتلر، لولا أن تشرشل كان يمثل البطل الذي كانت تحتاجه بريطانيا في ذلك الوقت لتستطيع تغيير خارطة المنطقة السائد في أوروبا في تلك الحقبة التاريخية. ويمكن أن نستذكر دور ديجول في تاريخ الأمة الفرنسية أيضا.

كان السلطان قابوس قائدا من فئة الأبطال الذين استطاعوا تغيير قواعد المنطق في بناء الأمم. فالذي يعرف المشهد في عُمان كيف وصل نهاية الستينات من القرن الماضي لم يكن ليستطيع تصديق أن التغيير ممكن بكل تلك السرعة وتلك الجرأة والحكمة أيضا.

ونجح القائد/‏‏‏ البطل في تحقيق ما حلمت به الأمة العمانية وما انتظرته طويلا.. ونحن نعيش اليوم تفاصيل تلك الحقيقة التي أشرقت في 23 يوليو 1970.

اليوم ونحن نحتفل بإيقاد الشمعة الخمسين في تاريخ نهضتنا الحديثة لا يمكن إلا أن نقول إن عُمان بكل ما حققته في تاريخها القديم والحديث أمانة في أعناقنا جميعا ولا بد أن نحافظ عليها، والحفاظ عليها ليس أمرا سهلا في هذه المرحلة من مراحل التاريخ ولكنه ليس مستحيلا أيضا، فأمة مثل الأمة العمانية استطاعت أن تقهر المستحيل، وأن تبني لنفسها سياقات خاصة بها في البناء وتحدي الصعاب قادرة على تحقيق الصعاب وتجاوز مطبات الزمان الكثيرة.

وجيلي والأجيال التي تأتي بعد ذلك علينا أن لا نقلل من قيمة ما تحقق في عُمان ونستميت في الدفاع عنه باعتباره منجزا تراكميا ضمن منجزات عمان الأمة والحضارة الإنسانية العريقة. أما فكرة أن الأجيال القادمة لا تستطيع استيعاب فكرة أن ما تحقق كان أقرب إلى المعجزة فهذا خطاب علينا تجاوزه بتوثيق حكاية النهضة وما تحقق فيها بأسلوب يستطيع الوصول إلى عقول الأجيال الجديدة. لكن في المقابل علينا أن ندافع عمّا تحقق من منجزات ولا نسمح للمفسدين وضعاف النفوس بالنيل منه أبدا، فالأمانة ثقيلة وهي مسؤولية الجميع.

وعلى الجميع أن يعي أن أمجاد عُمان ليست وليدة يوم أو لحظة بل هي صناعة تاريخ إنساني طويل لكنه أيضا مستمر واستمراره مسؤولية الأجيال المتعاقبة، وما نشعر به من فخر ونحن ننتسب لعمان كان وراءه عظمة أجداد بذلوا وضحوا من أجل هذه اللحظة التاريخية وإذا لم نكن على قدر المسؤولية فإن كل شيء قابل للضياع.