1268913
1268913
إشراقات

فريضة الحج.. إنـسـانيــة بامتـيـاز

18 يوليو 2019
18 يوليو 2019

لبيك اللهم.. شعار الوحدة والاستسلام والانقياد التام للملك الوهّاب -

فوزي بن يونس بن حديد -

أسوة بجميع العبادات التي فرضها الله تعالى على العباد، كالصلاة والصيام تكون فريضة الحج مشهدا من مشاهد تجمع العباد في وقت واحد وفي مشهد مهيب، حيث جميع حجاج بيت الله الحرام يلبّون نداء الرحمن لأداء مناسك الحج المبرور وفق ما أراد الله تعالى ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم حيث يقول المولى تبارك وتعالى في كتابه العزيز: «وأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ، ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ، ذَٰلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ۗ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ۖ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» وقد أمر الله تبارك وتعالى كل من قصد الحج بنية خالصة لله تعالى وحده أن يتبع المنهج الرباني والنهج المحمّدي، فالرسول صلى الله عليه وسلم هو القدوة الحسنة والمثل الأعلى، وقد كانت سنته الفعلية عليه الصلاة والسلام تشريعا نبويا بيّن فيه الخطوات التي ينبغي أن يتبعها الحاج في مسيرته الإيمانية من قبل خروجه من بيته إلى سفره متجها نحو بيت الله الحرام إلى وصوله البقاع المقدسة واتباعه الخطوات خطوة خطوة، لا تتقدم خطوة عن خطوة بل بالترتيب الذي حدّده رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، لذلك أمرنا بالانتباه إلى ذلك عندما قال عليه الصلاة والسلام، «خذوا عني مناسككم».

ومنذ لباسه الإحرام في الميقات، يدخل الحاج في حوار روحي مع ربه الذي خلقه فسوّاه فعدله، حيث يذكره لباسه الأبيض بالرحيل من الدنيا والوقوف بين يدي الله تعالى، لا يريد منها شيئا، جاءه كما خلقه أول مرة، يبتغي مرضاته ورضوانه. ومنذ اللحظة الأولى، يبدأ التعبير عن انقياده التام والتسليم لأمر الله تعالى بعيدا عن كل الحسابات الدنيوية المعقّدة، فعندما يردّد الحجاج التلبية التي علّمنا إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم «لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. إنّ الحمد والنعمة لك والملك.. لا شريك لك» فهو النداء العميق الذي يؤكد انقياد المسلم التام لله وحده لا شريك له والاستسلام لقضائه وقدره، فهو يرمي نفسه في أحضان الله يتذوّق طعم الإيمان ويتلذّذ بنور الرحمن، ويشعر بالإحسان تلو الإحسان، بعد أن أدرك بحسه المعرفي والجسدي والروحي أن المولى تبارك وتعالى يراقبه ويعينه على أدائه للمهمة الروحية، وأنه يرعاه في كل مرحلة من مراحل الحج العظيمة.

وعندما يعظّم المسلم هذه الشعيرة بأركانها المادية البحتة، من طواف حول حجر وتقبيل لحجر واستقبال حجر والسعي بين جبلين ورمي لحجر، فليس الحجر في ذاته ذا معنى وإنما صار مباركا بالنفحات التي نفثها فيه روح القدس وصار مباركا بعد أن قضى المولى عز وجل أن يكون مقصدا لجميع الحجاج، فيه ينقطع المؤمن عن الدنيا كليا، ومنه يستمد المسلم قوته المعنوية ليواصل المسيرة التي بدأها وليحظى بشحنات كهربائية ذات صبغة روحية تحوّله من إنسان عادي إلى إنسان ذي مواصفات خاصة، قريبا من صنف الملائكة الكرام، ويغتسل بالأنوار القدسية ليخرج في النهاية من ذلك المكان كيوم ولدته أمه صفحة بيضاء نقية لا شوائب فيها ولا ذنوب، ولذلك قال الله تعالى: «وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ»، ولأن المكان استثنائي، والمناسك التي يؤديها الحاج استثنائية، فإن الكلمات التي ينطق بها أيضا استثنائية تعبر عن مدى الانصياع والرضوخ والخضوع لله الواحد الأحد دون نقاش ولا جدال ولا مراء، ولذلك قال الله تبارك وتعالى: «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ، فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ، وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ».

ومن خلال هذا النداء «لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك.. لا شريك لك»، يتبين جليا وحدة المسلمين وهم في تلك البقاع ينطقون بكلمات محددة في وقت محدد لا يتوقفون عن ترديدها، وتعلو أصواتهم بها حتى تبح، معلنين أنهم منقادون لخالقهم وعازمون على مواصلة المشوار وقادرون -بفضل الله تعالى عليهم- على مواجهة الصعاب لأنهم مؤمنون يقينا أن الله يباهي بهم ملائكته، ويقول لملائكته حيث ورد عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أنه قال» ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة، ينـزل الله تعالى إلى سماء الدنيا، فيباهي بأهل الأرض أهل السماء، فيقول: انظروا إلى عبادي، جاءوني شعثا غبرا ضاجِّين، جاءوا من كل فج عميق، يرجون رحمتي، ولم يروا عقابي، فلم يُرَ يوما أكثر عتقا من النار، من يوم عرفة» وبالتالي لم يعد الحاج يهمه مظهره الخارجي ولا إعجاب الناس به أو صرفهم عنه، بل كل همّه منصبّ على مرضاة الله تعالى وحده والاستجابة لندائه، فهو تسليمٌ وتخليصٌ وانقيادٌ تامٌّ، تسليمٌ بأمر الله تعالى وتخليصٌ النفس من عوالق الدنيا وشهواتها وملذاتها من مال وبنين وأزواج، وانقيادٌ تامٌّ لما أمر المولى تبارك وتعالى به، فالحجاج يمثلون وحدة مادية ومعنوية خالصة من خلال هذا النداء الإيماني الروحاني الذي يستمتع الحاج بترديده، وتسبح كل جوارحه لله وتخضع في مشهد لا يكون إلا في ذلك المكان الطاهر.

وعند الرجوع إلى منبع الكلمة، نرى فيها أن الحاج يربي نفسه على توحيد الله تعالى ومحاولة فهم الوحدانية والربوبية والألوهية والانصهار في معنى الأخوة الإسلامية التي تتجلى معانيها في ترديد هذه الكلمات، فمنذ اللحظات الأولى لرحلة الحج العظيمة يتوحّد اللباس، وتتحد القلوب والحناجر، وتتجه الأجساد نحو مكان واحد، وتنتقل من مكان إلى مكان في وقت واحد، معلنة أنها في رحاب الله تعالى لذلك تأتي التلبية بمعان متعددة كما رآها اللغويون والفقهاء والعلماء والحكماء، فقالوا في تفسيرها، معناها إجابة بعد إجابة، أو انقيادا بعد انقياد، أو طاعة بعد طاعة، فالأمر متواصل دون انقطاع، فما يكاد الحاج ينتهي من عمل حتى يأتيه عمل آخر يقربه إلى الله زلفى ويجعله مشغولا في أعماله الأخروية لا يفكر في الدنيا ولا يتذكر أعماله الدنيوية وعلاقاته البشرية وإنما همّه الأول والأخير، كيف يرضي ربه، وكيف يستطيع أن يتحقق من أن الله تعالى يتقبل منه ما يقوم به، لا شك أنه يستطيع من خلال الإخلاص الذي يروي قلبه عندما يردد هذه الكلمات وينوي أن يكون عمله ذاك استجابة عظيمة لربه لا يريد به رياء ولا سمعة ولا أنانية، يقترب بموجبها إلى الله ويعلن توبته النصوح وأوبته الرشيدة، ورجوعه النهائي، وإقلاعه عن المعاصي والذنوب، والعودة إلى الحياة من جديد بروح جديدة وحياة نظيفة ووجه جديد وإعلان الطاعة التامة إلى الممات.

لذلك كانت التلبية تعبيرا عن وحدة المكان والزمان والمنهج منذ عهد سيدنا إبراهيم -عليه السلام- الذي غرس فينا الحنيفية السمحاء القائمة على الوحدة والتوحيد، والاعتراف بنعم الله الكثيرة التي لا تحصى ولا تعد، والاعتراف اليقيني بأن المُلك لله فهو المَلك المالك لكل شيء يشعر الحاج وهو يلبي برباطه العظيم مع الله ومع إخوانه المسلمين، حيث تتجاوب معه في عبودية الله وتوحيده، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يلبي إلا لبّى ما عن يمينه وعن شماله من حجر أو شجر أو صدر حتى تنقطع الأرض من ها هنا وها هنا «يعني عن يمينه وشماله، فعندما ينطق المسلمون كلهم بهذه الكلمات دون غيرها للتعبير عن بداية موسم الحج المبارك فذلك دليل على أنهم موحّدون في استسلامهم وخضوعهم وخنوعهم لله عز وجل دون تردّد، ودون شكّ أو ظنّ، لأن الموقف رهيب وينبغي على المؤمن الحاج أن ينصهر في بوتقة هذه الجموع المتنوعة رغم اختلاف ألوانها وأعراقها ومذاهبها وكتلاتها وجنسياتها، إنه معنى الوحدة في أتم معانيها وفي أرقى مشاهداتها من خلالها يريد أن يذكرهم المولى عز وجل أنهم من أصل واحد يعبدون ربا واحدا ويتجهون إلى مكان واحد ويلبسون ثيابا واحدا ويرددون كلمات واحدة ويؤدون مناسك واحدة، ومن ثم لِمَ هذا النزاع والشقاق والخصام بين المسلمين؟، أبعد هذا التجمع على مرضاة الله خصام؟، أبعد هذه الرحمات تأتي النكسات؟، أبعد هذه الولاءات تأتي النكبات؟ كيف ذلك يحدث في مجتمع سلم أمره لله وحده إنها لمفارقة عجيبة.