1268016
1268016
المنوعات

حـمـيمـية النقـد.. هـذه هـي التفكيكـية

14 يوليو 2019
14 يوليو 2019

حوار مع جاياتري تشاكرافورتي سبيفاك -

حوار: ستيف بولسن ترجمة: أحمد شافعي -

■ الآن تبدو أيام التفكيكية الصاخبة أثرا غامضا من بقايا عصر آخر، عفا عليها الزمن مثلما عفا على قصَّات الشعر الضخمة والسراويل الفضفاضة. غير أن دافعها الجوهري ـ وهو فصم العلاقة بين النص والمعنى، ونقد الانحيازات الخفية في التراث الفكري الغربي ـ كامن في عمق الحياة الأكاديمية الحديثة حتى ليبدو من اليسير نسيان مدى الإثارة التي كانت عليها الحركة في يوم من الأيام. وفي هذا العام جدَّدت مطبعة جامعة جونز هوبكنز الجدال العام حول مكانة التفكيكية، من خلال إصدارها طبعة الذكرى الأربعين المنقحة من كتاب جاك دريدا «في علم الكتابة» (Of Grammatology) الذي يعد من نصوص التفكيكية الأساسية. يقدم هذا الكتاب ترجمة حدَّثتها مترجمة الكتاب الأصلية جاياتري تشاكرافورتي سبيفاك.

سبيفاك اليوم نجمة في سماء المجال الأكاديمي، باحثة غزيرة الإنتاج ومؤسِّسة مشاركة لمعهد الأدب المقارن والمجتمع في جامعة كولمبيا. حينما بدأت العمل على ترجمة بحث دريدا للمرة الأولى، كانت سبيفاك أكاديمية مغمورة في منتصف العشرينيات من عمرها، «بنتا آسيوية صغيرة» على حد قولها، تحاول الإبحار في عالم الأكاديميا الأمريكية الغريب. وكانت أبعد المترجمين احتمالا لذلك الكتاب.

فهي لم تدرس الفلسفة دراسة منتظمة، ولم تكن الإنجليزية أو الفرنسية لغتها الأم، ومن ثم فقد كان مشروعا جريئا ـ بل أقرب إلى منافاة العقل ـ أن تترجم مثل هذا العمل المعقد في النظرية الرفيعة. وهي لم تترجم الكتاب وحسب، بل وكتبت له دراسة تمهيدية قدمت من خلالها دريدا لجيل جديد من الباحثين في الأدب. ■

في العقود التالية، انطلقت سبيفاك في العديد من المهن المتمايزة. فأصبحت باحثة ماركسية نسوية رائدة ثم ساعدت في إطلاق الدراسات ما بعد الكولونيالية بمقالتها التأسيسية: «هل يستطيع التابع أن يتكلم؟ Can the Subaltern Speak)(. لكن سبيفاك ليست مجرد مثقفة في برج عاجي. فقد أنشأت مدارس ابتدائية للطلبة الأميين في بلدها الأم الهند، ومارست التدريس فيها طوال عقود. ولقد أمكنها، بطريقة ما، أن تدرِّس النظرية النقدية لطلبة الجامعة في إحدى جامعات النخبة الأمريكية مع قيامها بتدريس التمكين الديمقراطي للطلبة القرويين في غرب البنغال. فقلما اندمجت النظرية والتطبيق في شخص واحد بمثل اندماجهما فيها.

هي الآن في أواسط السبعينيات، ولم تزل مفكرة عالمية الحضور مشغولة البرنامج. وقد تحدثت إليها بعيد سفرها إلى لاجوس وقبل ارتباطاتها بمحاضرات في لندن وباريس. فاستعرضنا في حوارنا نطاقا عريضا من المواضيع، بدءا بصداقتها مع دريدا وقصة أسرتها المأساوية التي كانت بمثابة شرارة البداية لاهتمامها بالتابعين، أو مسؤولية المثقفين عن أزمة العلوم الإنسانية.

***

■ أصدرت للتو طبعة الذكرى الأربعين لكتاب دريدا «في علم الكتابة». لماذا نحتاج إلى تنقيح ترجمة هذا الكتاب؟

ـ حينما ترجمته، لم أكن أعرف من يكون دريدا ولا أي شيء عن فكره. فبذلت قصارى جهدي لتقديمه وترجمته وشاعت المقدمة بحق، وهو ما أشعر بامتنان كبير له. لكن الآن، بعد عمر من العمل مع دريدا وفيه، يمكنني أن أقول المزيد لقرائي عن هذا المفكر الاستثنائي، ومن هنا إضافتي للخاتمة. هو نوع من التقدير لحياة أكثر من كونه تقديرا لمصادفة نص جديد عظيم.

■ هل تغيَّر فهمك لكتاب دريدا على مدار العقود الأربعة المنصرمة منذ ترجمتك إياه للمرة الأولى؟

ـ هذا ما تبيّن. حينما بدأت، لم ألحظ مدى انتقاد الكتاب لـ(المركزية الأوربية) Eurocentrism لأن الاصطلاح لم يكن شائعا في عام 1967 بمثل شيوعه الآن. كان دريدا يهوديا جزائريا، ولد قبل الحرب العالمية الثانية، وكان بالفعل يواجه الفلسفة الغربية من الداخل. كان رجلا فذًّا ينظر إلى المركزية الأوربية. لا أعتقد أنني قبضت على ذلك الجانب مثلما أفعل الآن. أفهم كذلك خطًّا ساريا لديه لا يتعلق فقط بالطريقة التي ينبغي أن نقرأ بها، بل وبالطريقة التي ينبغي أن نحيا بها، وهو ما لم يكن واضحا لي بالقدر ذاته وقتها. كما أنني أيضا صرت أعرف عن هيجل قدرا أكبر قليلا مما كنت أعرف في ذلك الوقت، وهو ما مكّنني من إقامة بعض الصلات.

■ إذن أنت ترين هذا الكتاب نقدا للفلسفة الغربية بالدرجة الأساسية؟

ـ هذه هي التفكيكية أصلا، أليس كذلك؟ هي ليست تقويضا فحسب. بل وبناء أيضا. هي حميمية نقدية،لا نأي نقدي. يتكلم المرء فعليا من الداخل. هذه هي التفكيكية. لقد قال أستاذي بول دي مان ذات مرة لناقد عظيم هو فريدريك جيمسون، «ليس بوسعك يا فريد أن تفكِّك إلا ما تحب». لأنك تفككه من الداخل، بحميمية حقيقية. فكأنك تقلبه. وذلك نوع من النقد.

■ ما الذي كان يحاول دريدا تفكيكه؟ كيف كان يحاول تفسير الفلسفة الغربية في ضوء جديد؟

ـ كان التركيز منصبا على ما يهيمن طوال قرون بدون تغير. لقد أُقصِيَت جماعات بأكملها بسبب تأسيس هيمنة لخطاب معين. كما أنه قال أمرا بالغ القوة عن الشفاهية الأفريقية: بوسعهم أن يتذكروا لسبعة أجيال ماضية، أما نحن فقد فقدنا هذا القدرة. إذ تحل «الكتابة» محل الخامة المادية المعروفة بـ«الذاكرة». ودريدا يربط هذا بفرويد. فما كان يقوله إذن هو: انظروا إلى الواقع بحذر. فالواقع مشفّر بحيث يتمكن آخرون ـ وإن لم يكونوا حاضرين ـ من فهم ما نقوله. ولقد نظر إلى كيفية قمع هذا في التراثات الفلسفية.

■ بدأت العمل على ترجمة «في علم الكتابة» في أواخر الستينيات.

كنت باحثة مغمورة في ذلك الوقت ودريدا كان إلى حد كبير مجهولا في الولايات المتحدة. كان الكتاب تنظيريا رفيعا، شديد الصعوبة، لا تزال قراءته تمثّل تحديا. ما الذي جعلك ترغبين في مشروع مضن كذلك؟

ـ شوف، أنا لم أكن أعرف من يكون دريدا على الإطلاق. كان عمري خمسة وعشرين عاما، أستاذة مساعدة في جامعة أيوا سنة 1967، وأحاول أن أبقى على اطلاع من الناحية الفكرية. فكنت أطلب كتبا من الكتالوج تبدو لي غير عادية بما يدعوني إلى قراءتها، وهكذا طلبت الكتاب.

■ إذن قرأته في أصله الفرنسي ثم فكرت أنه ربما ينبغي أن تصدر له ترجمة إنجليزية؟

ـ لا، لا. تمكنت من قراءته ثم فكرت أنه كتاب استثنائي. كان ذلك قبل الإنترنت، فلم يقل لي أحد أي شيء عن دريدا. أستاذي لم يكن قد قابل دريدا حينما غادرت كورنيل، فلم أكن أعرف فعلا من يكون. وفكرت «طيب، أنا شابة أجنبية ذكية، وهذا كاتب مجهول. ولن يبرم أحد عقدا معي لتأليف كتاب عنه، فلماذا لا أجرِّب ترجمته؟ وكنت قد سمعت في حفل كوكتيل أن مطبعة جامعة مساتشوستس تنشر ترجمات، فبعثت إليهم رسالة استفسار شديدة البراءة في أواخر 1967 أو مطلع 1968، وقالوا لي لاحقا إنهم رأوا رسالتي شديدة الشجاعة والعذوبة ففكروا أن يمنحوني فرصة. (تضحك) أمر في غاية السخافة، لكن هذا ما حصل.

■ بدايات شديدة البساطة لكتاب أصبح في عداد الكلاسيكيات.

ـ يعني، أصابتني الدهشة. عليك أن تضع نفسك مكاني. لم تكن الإنجليزية أو الفرنسية لغتي الأولى ولم أكن رحلت عن الهند إلا في عام 1961. ومقدمتي جاءت متواضعة لأنني لم أكن درست الفلسفة أصلا.

■ وهي مقدمة طويلة للغاية. مقدمتك لكتاب دريدا توشك أن تكون في ذاتها كتابا.

ـ ذلك ما أدرجته في عقدي، لأنني في الأصل كنت أريد تأليف كتاب عنه. فأدرجت في تعاقدي أنني لن أقوم بالترجمة ما لم يتح لي أن أكتب مقدمة ضافية بطول دراسة. كنت في منتصف العشرينيات حينما كتبت الرسالة. وهي الآن تملأني إحساسا بالخجل والحرج.

■ هل كنت على اتصال كبير بدريدا نفسه وأنت تعملين في الترجمة؟

ـ لا. لم أكن أعرفه على الإطلاق. لم أقابله إلا في عام 1971. ولم أعرفه إلى أن جاءني قائلا بالفرنسية «جو مابل جاك دريدا» (Je m’appelle Jacques Derrida)، فكدت أموت.

■ لكنني أتصور أن معرفتك به توثقت بعد ذلك.

ـ نعم، صرنا صديقين. كنا حليفين. فاهم، من الأشياء التي فهمها ـ أكثر ربما مما كنت أفهمها أنا في تلك المرحلة ـ هو معنى أن تكون امرأةٌ فتاةً أسيوية لا تجيد الفرنسية كثيرا وتطلق هذا الكتاب في العالم بطريقتها الخاصة، مبتعدة به كثيرا عن زمرة الفلسفة الرفيعة في أوربا. كنت أخرج وإياه لتناول الطعام ـ كان داكن البشرة، يهوديا من سفرديم الجزائر ـ وكان الناس يحسبونه هنديا، وأنا هندية والبصمة الثقافية واضحة عليّ، وفي بعض الأحيان أرتدي الساري، فتصبح نكتة ويقول «نعم، أنا هندي». كان يفهم جمال موقف هذه الشابة التي لا هي حاصلة على دكتوراه فرنسية ولا هي متحدثة أصيلة بالفرنسية، ولا حتى الإنجليزية، وتقدم نصه، وليس ذلك لأنها تتعبد في شخصه، بل وهي لا تعرف من يكون أساسا. كانت تقدم نصه لبقية العالم فتتناوله بقية العالم. كان في ذلك الموقف شيء شديد الجاذبية بالنسبة له.

ـ ولدتِ في كلكتا قبل سنوات قليلة من تقسيم الهند. هل نشأت في أسرة مثقفين؟

ـ نعم. أمي تزوجت وهي في الرابعة عشرة، وأخي الأكبر ولد وهي في الخامسة عشرة من عمرها. أبي ولد في قرية في سفوح الهيمالايا في الأرض المعروفة الآن ببنجلاديش، وسط مجتمع لا يرتدي أهله الثياب إلى أن يبلغوا السادسة أو السابعة. فقط يرتدون حلقة معدنية حول خصورهم. وما كانوا يرتدون الدهوتيس dhotis إلا عند التحاقهم بالمدرسة. وفي الشتاء كانوا يلتفون حول النار واضعين أغطية على أكتفاهم. غير أن أولئك الناس كانوا مثقفين، وعاشوا فيما بعد حياة مثقفين و نشأ أبناؤهم على حياة العقل. أب مناصر للنسوية وأم نسوية. كانت تنشئة استثنائية. أدين بكل شيء تقريبا لأبويّ.

■ هل كان للتقسيم الذي شقَّ البلد إلى الهند وباكستان أثر على أسرتك؟

ـ يعني، كنا نفكر فيه أيضا بوصفه الاستقلال. استقلال وسمه هول التقسيم. كان التقسيم إذن هو الثمن الذي أكرهنا على دفعه. المهم أنه ترك أثرا على أقاربي أكثر من أثره على أسرتي المباشرة لأن أبي كان قد هرب من بنجال الشرقية المعروفة حالية ببنجلاديش. حينما أبلى بلاء حسنا في امتحان التخرج من المدرسة الثانوية، قال له أبوه «آه، أنت إذن تستطيع مواصلة الدراسة في عاصمة المقاطعة» وكان أبي أشد طموحا، فبدون تذكرة، هرب إلى كلكتا سنة 1917. ولدت أنا في كلكتا. لكن تأثير التقسيم على حياتنا تمثل بالطبع في أعمال الشغب الرهيبة التي أحاقت بكلكتا بسبب أعمال القتل في عام 1946 والمجاعة المصطنعة سنة 1942 وما بعدها. تلك الأمور أثَّرت علينا بحق. وما كاد اللاجئون يبدأون في التوافد حتى أصبحت أمي ـ وكانت في تلك الفترة قد أصبحت عاملة اجتماعية مرموقة ـ تغادر البيت في الخامسة صباحا متجهة إلى محطة السكة الحديدية للمساعدة في إعادة تأهيل اللاجئين. وتلك بعض الأمور التي وسمت طفولتي.

■ لا بد أنك أيضا شهدت تحويل المسلمين إلى دخلاء.

ـ وهذا بالطبع يتنامى حاليا في الهند. في عام 1947، وكان عمري خمس سنوات، فكنت أصغر من أن أستشعر الفارق بين الهندوس والمسلمين نظرا لنشأتي في مكان شديد الانفتاح على الآخر. ولكن الأمر كان محيطا بنا من كل جانب. في أعمال الشغب بين الهندوس والمسلمين التي كانت شديدة الغرابة، فحتى ذلك الحين كان يسود منذ قرون نوع من التعايش المتوتر. فلمَّا بدأ ذلك في حيِّنا، صرنا نسمع الله أكبر ثم هارا هارا ماهاديو فنعرف أن شخصا قتل. ونشهد إراقة الدم. لكنني كنت صغيرة جدا ولم يكن في الموطن فارق يذكر على أساس الطبقة أو الدين أو أي شيء. كان طلبة أبي المسلمون شديدي الدعم لدرجة أن يأتوا إليه في ثياب هندوسية ويطلبون منه ألا يرد على الهاتف مساء. أبي شخصيا كان رجلا معاديا للعنف. كان يفتح بيتنا الصغير ويقف في الشرفة مع رجال المسلمين بينما النساء والأطفال بالداخل ويقول «ما دمت حيًّا، لن يمسكم أحد». لم نكن نفكر في الفارق كثيرا. كنا كأطفال نرى أنفسنا بشرا متماثلين.

■ حصلت على درجتك الجامعية في الهند. كيف أتيت إلى الولايات المتحدة؟

ـ تخرجت في جامعة كلكتا، وكنت أعمل على الماجستير. كان عمري ثمانية عشر عاما فقط ولم يكن لي أب ـ فقد مات وأنا في الثالثة عشرة ـ وعلمت أنني لن أحصل على الدرجة الأولى لأنني كنت محررة لمجلة شديدة الانتقاد للجامعة. فاقترضت نقودا وسافرت بتذكرة ذهاب فقط وثمانية عشر دولارا لا غيرها في جيبي. لم أرد الذهاب إلى بريطانيا لأنني كنت سأضطر للحصول على الماجستير مرة ثانية ولأنني كنت أنتمي إلى أول جيل من ما بعد الاستقلال. فكان هذا سبب مجيئي إلى الولايات المتحدة. التحقت بكورنيل، لأنني لم أكن أعرف غير أسماء هارفرد وييل وكورنيل، وظننت أن هارفرد وييل أعلى من مستواي كثيرا.

✱ بقـية الحـــوار غـــدا..