أفكار وآراء

دلالات المصافحة التاريخية على حدود الكوريتين

06 يوليو 2019
06 يوليو 2019

د. عبدالعاطي محمد -

بعد أن انتهى من المشاركة في قمة العشرين التي استضافتها مدينة أوساكا اليابانية التقى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع رئيس كوريا الشمالية كيم جونج أون في المنطقة منزوعة السلاح على الحدود بين الكوريتين، فيما وصفته كبرى وسائل الإعلام الأمريكية باللحظة التاريخية، بالنظر لكونها سجلت أول زيارة لرئيس أمريكي إلى كوريا الشمالية.

وهناك تصافح الزعيمان وأظهرا للإعلام أنهما أصبحا صديقين وعازمين على إنهاء سنوات القطيعة الطويلة بين البلدين.

لم يكن اللقاء الأول بينهما، حيث سبق وأن التقيا مرتين وكانت القمة الثانية في فبراير 2019 بهانوى، وهذه هي المرة الثالثة، ولكن وصفها بالتاريخية يرجع إلى أن ترامب سار بضعة خطوات على أرض الجزء الخاص بكوريا الشمالية من المنطقة منزوعة السلاح حتى تصافح مع كيم وظل معه لبضعة دقائق حيث تحدثا للصحفيين ثم عبرا إلى كوريا الجنوبية حيث مكان القمة، فيما يعد بالتأكيد حدثا تاريخيا يسجل زيارة أول رئيس أمريكي لكوريا الشمالية بعد عشرات السنين من المقاطعة والعداء.

وما زاد من لفت الانتباه أن الكلام ولغة الجسد بين الرئيسين عكست ودا غير متوقع بالمرة، وتفاؤلا خرج عن كل الحسابات بأن التاريخ تعاد صناعته مرة أخرى. قال كيم موجها حديثه الدافئ لترامب: «نرغب في أن نضع نهاية لماضينا غير السار وتحقيق مستقبل جديد، لذلك هذا (أي اللقاء) عمل شجاع وحازم للغاية.. إن هذه المصافحة من أجل السلام في حد ذاتها تثبت أن اليوم مختلف عن الأمس.. هناك الكثير من الأشياء العظيمة تحدث فعلا. وبينما دعا كيم ترامب لزيارة كوريا الشمالية، اقترح الثاني أن يتكرر اللقاء في المنطقة منزوعة السلاح، بل دعا كيم إلى زيارة البيت الأبيض!! لتكون في حالة حدوثها أول زيارة لزعيم كوري شمالي إلى الولايات المتحدة. ولأول وهلة بدت العبارات بين الرجلين وكأنها من عجائب وغرائب المقولة الشهيرة «صدق أو لا تصدق»، حيث لم يكن واردا أن تتغير العلاقة بهذا التحول الدراماتيكي والسريع، من المبالغة في العداء إلى المبالغة في الصداقة، خصوصا أن القمة الثانية بينهما كانت قد انتهت بالفشل، كما لم يتم تداول أية معلومات منذ ذلك الوقت تؤشر إلى أن الكيمياء بين الرجلين قد وصلت ذروتها وجعلتهما أصدقاء بعد أن كان يحلو لترامب في الماضي القريب أن يتهكم على كيم. والغريب أن القمة الثالثة (التاريخية) لم تتطرق للقضية الأساسية موضع الخلاف الشديد بين البلدين وهي تفكيك السلاح النووي الكوري الشمالي، وما رشح عنها فقط هو أن فريقين من البلدين سيواصلان التفاوض مجددا قريبا.

إذا وضعنا جانبا كل علامات التعجب مما جرى، وتفهمنا أن السياسة تحتمل كل المفاجآت وغرائب الأمور، فإن السؤال الذي يفرض نفسه أمام هذا التحول في العلاقة بين بلدين بينهما تاريخ طويل من العداء، وكذلك في العلاقة بين رئيسين لم تكن العلاقة بينهما طيبة في يوم من الأيام، هو لماذا تعاملت الإدارة الأمريكية الحالية والرئيس ترامب مع الملف النووي الكوري الشمالي بموقف يتسم بالتروي والهدوء وعدم التصعيد، وجعلته بابا لصناعة تاريخ جديد للعلاقة بين البلدين، وتعاملت مع الملف النووي الإيراني بموقف يتناقض معه تماما حيث التصعيد والمواجهة إلى حد التلويح بتوجيه ضربات عسكرية، هذا فضلا عن الحرب الكلامية الدائرة بين قيادات البلدين حول نفس الملف.

ومع أن الولايات المتحدة لا تزال باقية على العقوبات التي قررتها على كوريا الشمالية، وهو نفس التصرف الذي فعلته مع إيران بما يشير إلى أن شيئا لم يتغير في طريقة التعامل مع الملفين، إلا أن الرد على هذا التحفظ جد بسيط، فلا وجه للمقارنة بين العقوبات في الحالتين، حيث هي بالغة القسوة بالنسبة للحالة الإيرانية، فضلا عن أن لغة الصدام والوعيد والاستنفار العسكري هي السائدة في الموقف الأمريكي تجاه الحالة الإيرانية، بينما لا شيء من هذا كله موجود بالنسبة لحالة الملف الكوري الشمالي.

في تفسير التعامل الأمريكي بموقفين متناقضين تجاه قضية واحدة هي الملف النووي بالنسبة لإيران من ناحية وكوريا الشمالية من ناحية أخرى، هناك من يقول، استنادا لاستقراء تصريحات لبعض المسؤولين الأمريكيين، إن الرئيس الأمريكي ترامب أدرك مؤخرا أن تفكيك الترسانة النووية الكورية الشمالية موضوع معقد ويحتاج لزمن طويل للوصول فيه إلى نتائج ترضي الطرفين، وهذا ما يفهم مما قاله ترامب نفسه عندما: قال «لدينا كل الوقت ولا توجد عجلة». وهكذا اتضح أنه من المستحيل تحقيق هذا المطلب في فترة ترامب الأولى ولا حتى في الثانية لو قدر له النجاح في الانتخابات القادمة.

وبناء على ذلك أجرى الرئيس الأمريكي تغييرا في أهدافه من الاشتباك مع كوريا الشمالية حول ملفها النووي. وفحوى هذا التغيير هي استغلال الملف لأغراض سياسية تتعلق برؤيته للتصرف مع التهديدات الأمنية في بحر الصين والمحيط الهادي من حيث عدم الانخراط في تحالفات أمنية كانت إدارة أوباما قد قطعت فيها شوطا بحجة التصدي للتهديدات التي يتسبب فيها امتلاك كوريا الشمالية للسلاح النووي والصواريخ الباليستية. بناء الصداقة مع الزعيم الكوري الشمالي وفقا لحساباته يضمن درء التهديدات الأمنية ومن ثم لا تتكلف الولايات المتحدة عناء القيام بمهام إضافية عما هو قائم من أجل حماية حلفائها هناك. كما أن هذا التصرف يعزز التوجه الذي تبناه ترامب منذ وصوله إلى البيت الأبيض بأن يمحو كل ما قام به سلفه أوباما. هذا من جهة، ومن جهة أخرى تعزيز أسلوبه في إدارة الأزمات الخارجية بالتركيز على الدبلوماسية الشخصية التي تظهره صاحب قدرات ذاتية في المساومة وفرض الشروط التي يراها هو مفيدة لمبدأ أمريكا أولا في كل صغيرة وكبيرة، وحتى الآن فإنه يجيد تصعيد حدة الأزمة لأقصى مدى لكي يوافق في النهاية على أكبر المكاسب. وفي تقديره أنه حصل من كوريا الشمالية على الكثير بفعل هذه الدبلوماسية. ومن جهة ثالثة فإن أداءه في هذا الملف يفيده على الصعيد الداخلي وهو يتأهب للاستمرار في البيت الأبيض حيث يظهره أمام الناخب الأمريكي بالقيادة التي تسعى للفوز دائما في أية مواجهة دون تكلفة الكثير للولايات المتحدة.

وهناك من يقدم تفسيرا آخر مختلفا وإن كان ليس متناقضا مع التفسير السابق، مضمونه أن الملف النووي في حالة كوريا الشمالية يبدو أقل ضغطا على ترامب وإدارته من الناحية السياسية مقارنة بثقل الضغوط التي يمثلها الملف الإيراني. القلق الذي يمثله الملف الأول بالنسبة له ولإدارته يتركز في الجوانب الأمنية بالدرجة الأولى لأن بيونج يانج تمتلك فعلا السلاح النووي منذ سنوات وقادرة على تهديد أمن الولايات الأمريكية التي في مرمى صواريخها، كما أنها قادرة على تهديد دول حليفة مهمة مثل اليابان وكوريا الجنوبية. ولكن هذا الخطر تحت السيطرة ليس فقط بسبب قوة الردع الأمريكية، وإنما أيضا لأن القوى الكبرى هناك مثل الصين وروسيا لها من العلاقات مع بيونج يانج ما يمنع هذا الخطر وهي متفقة مع الولايات المتحدة من حيث المبدأ على الحد من السباق النووي سواء من جانب كوريا الشمالية أو غيرها. ومن ناحية أخرى لا تهتم إدارة ترامب بمسألة ضرورة تغيير النظام السياسي في بيونج يانج كما كانت تهتم إدارة أوباما، ولعل ذلك كان من العوامل التي جعلت الزعيم الكوري الشمالي يقبل بالانفتاح على إدارة ترامب.

وبالمقابل فإن الملف الإيراني يمثل عامل ضغط سياسي قويا على هذه الإدارة، مع أن طهران لا يمكن بأي حال من الأحوال الإشارة إليها على أنها دولة تمتلك السلاح النووي. ومن الدلائل على ذلك أن هذه الإدارة سارعت من اللحظة الأولى إلى إعلان نيتها إلغاء الاتفاق الذي وقعته إدارة أوباما مع طهران، وهو ما حدث بالفعل، وقد شكل إلغاؤه في حد ذاته ضغطا سياسيا على إدارة ترامب التي بات عليها أن تتعامل مع تداعيات هذا الإلغاء، وكلها تداعيات تدخل في باب الصدام والمواجهة. ولأن هذا الملف تداخل أو تشابك مع ملفات أخرى ساخنة في الشرق الأوسط ازداد الضغط السياسي الذي يمثله ثقلا على إدارة ترامب وقاد إلى خيار التصعيد لا الاحتواء.