أفكار وآراء

العالم والفيسبوك.. هل هو زمن النهايات؟

05 يوليو 2019
05 يوليو 2019

إميل أمين - كاتب مصري -

[email protected] -

ذات ليلة في غرفته بمدينته الجامعية بمدينة كامبريدج بولاية ماساتشوستس، حيث جامعة هارفارد العريقة، تساءل الفتى «مارك زوكربيرج» عما إذا كان الناس يودون أن يذهبوا إلى الشبكة العنكبوتية ويتصفحوا حياة أصدقائهم أم لا؟

كان الجواب لديه نعم بالمطلق، ولاحقا بدأ السعي في فكرة إنشاء موقع يكون بمثابة مجتمع إنترنت مكون من الأصدقاء، صور وبروفايلات وغيرها من الأفكار الأخرى، بحيث يمكن زيارتها وتصفحها، شبكة اجتماعية من نوع ما، لكن حصرية بحيث ينبغي لك أن تعرف الشخص على الموقع كي يمكنك تصفح بروفايلاته ومعلوماته كما هو الحال في الواقع إلى حد ما، دوائر اجتماعية حقيقية لكن «أون لاين» للأشخاص الذين ينتمون إلى تلك الدوائر الاجتماعية أنفسهم.

لم يكن «زوكربيرج» يحلم أو يتجرأ على الحلم بأن شبكته هذه سوف تنمو خلال عقد من الزمن، لتصبح عند البعض من أنصار اليمين الأمريكي المحافظ «الوحش» الذي سيتحكم في مقدرات البشر في نهاية الزمن المقبل، ولم يخطر على قلب الشاب الأمريكي إنه حين يبلغ الخامسة والثلاثين من عمره سوف يضحى أخطر رجل على وجه الأرض من خلال قوة تواصل ونفوذ تفوق ما يمتلكه رئيس أكبر دولة في العالم.

قد يكون الأمر مصادفة قدرية أو موضوعية أن يطفو زوكربيرج على ساحة الأحداث، في زمن الجماهير الغفيرة، التي انتظمت في سرب المعلومات الكونية المعروف بالإنترنت، وأن يتابعه عدة مليارات في قارات الأرض الست.

حين أراد الكونجرس الأمريكي استجواب الشاب «زوكيربيرج» بسبب ما تسرب من معلومات خاصة بمتابعيه إلى الملأ، بدأ الرجل المتهم في قضية انتهاك خصوصية ملايين المشتركين واثقا من نفسه وكأنه أقوى من أعضاء الكونجرس الذين يقومون باستجوابه.

وربما لم يصب أمريكي ثروة هائلة في زمن وجيز وبأدوات رقمية فقط، مثلما فعل زوكربيرج، الذي تجاوزت ثروته الـ70 مليار دولار أمريكي، تتمثل في 18% من أسهم شركة فيسبوك، سابع أكبر شركة عملاقة على وجه الأرض، وخطورتها تتمثل في أنها باتت الأداة التي تحدد توجهات العالم الثقافية، وبات الفيسبوك قادرا على صناعة الصيف والشتاء وقتما يريد وفي تضاد واضح لحركة الطبيعة، إن جاز التعبير المجازي أصلا.

تكاد الحقيقة تلامس الأوهام العلمية في قصة زوكيربيرج والفيسبوك خاصته، والخوف كل الخوف من أن يضحى الشاب الأمريكي هو سيد العالم والمتحكم في مقدرات وهي مقدرات حقيقية، خاصة لو توقفنا مع الإمكانيات التي بات هذا الاختراع يمثلها بالنسبة للبشرية في القرن الحادي والعشرين، عطفا على التطوير الذي يمكن أن يشهده في قادم الأيام.

في مقال مطول أخير له عبر صحيفة النيويورك تايمز الأمريكية يكتب «كريس هيوز» الذي زامل «مارك» في جامعة هارفارد وأسس معه الموقع، محذرا من خطورة الفيسبوك ومطالبا بضرورة تقسيمه إلى شركات أصغر.

إحدى الجمل التي وردت في مقال «هيوز» تستدعي أحداثا من زمن الإمبراطورية الرومانية، فقد درجت العادة أن يكون ضمن حاشية القيصر، وخلفه بالتمام أحد الرجال الحكماء المقربين منه كل مهمته أن يهمس في أذن القيصر، بثلاث كلمات «تذكر أنك بشر».

كان الخوف كل الخوف من أن يفقد القيصر عقله، ليخيل إليه أنه إله من فرط القوة والنفوذ اللذان يتمتع بهما، ولكي يثوب إلى رشده، كانت الكلمات الثلاث السابقة لابد أن تلقى على مسامعه كل بضع خطوات.

زميل مارك يكتب «لا يمكن أن يترك مارك إلى حال سبيله على هذا النحو، وذاك التأثير غير المسبوق في التاريخ ولابد أن يكون هناك رادع لقوته».

بات السؤال أمريكيا ودوليا: «هل هي نهاية الوحش الضاري» ؟ ليس المقصود بلا شك إغلاق الفيسبوك مرة وإلى الأبد، بل تقسيم الشركة إلى وحدات أو شركات أصغر، حتى تضحى هناك شراكة بعيدة عن فكرة الاحتكار المرفوضة في الداخل الأمريكي والمجرمة بقوة القانون، وكي لا يصحو العالم يوما ما ليجد مارك زوكيربيرج حاملا لمفاتيح الحل والربط في الكثير من القضايا الجوهرية حول الكرة الأرضية.

أسئلة عديدة ومثيرة معلقة في الهواء، وما من إجابات شافية وافية بشأنها من عينة: «ما هو مصير المعلومات التي يمتلكها مارك عن عدة مليارات من البشر حول العالم؟

ذات مرة قال حكيم الصين الأشهر «صن تزو» في كتابه «فن الحرب»: «المعرفة تسبق النصر، والجهل يسبق الهزيمة»، وقد باتت السلعة الأكثر أهمية وخطورة في عالمنا المعاصر هي المعلومات، وبأكثر ربما من النفط سائل الحضارة والحياة المعاصرة، أو اليورانيوم مادة الموت الذري.

حالة من الذعر تنتاب الأمريكيين في واقع الحال مؤخرا من جراء علامة استفهام طرحها البعض: «هل الفيسبوك هو من سيختار رئيس أمريكا القادم؟ ضمن الخواص الفاعلة والنافذة في شاشة الفيسبوك يتابع المرء خاصية «أكثر الموضوعات تفاعلا»، في أقصى اليمين على الصفحة الرئيسية، وهنا فإن اختيار الموضوع قد لا يتمتع بمصداقية مطلقة، وربما يخضع لتلاعب بدرجة ما، ليوجه بذلك عقول الجماهير إيجابا أو سلبا تجاه شخص أو قضية بعينها.

عدة تجارب أجرتها شبكة الفيسبوك خلال العقد الماضي، أظهرت مقدرتها الهائلة على خلق تأثير جمعي عند نصف مستخدمي الفيسبوك.

كانت إحدى تلك التجارب عام 2012، حين أجرت الشركة تجربة على عينة من المستخدمين عددها 700 ألف تحكمت خلالها في نوعية الأخبار التي تظهر لهم يوميا على صفحاتهم الشخصية، للتوصل إلى مدى تأثير ذلك على الأمزجة والعواطف الخاصة بهم، وخلصت التجربة إلى أن الفيسبوك قادر بالفعل على أن يدفعك للشعور الذي يريدك كمستخدم أن تشعر به.

كان حتما ولابد لمجتمع الاستخبارات الأمريكي أن يستشعر الخطر الفادح والخطورة المستقبلية القائمة والقادمة من جراء قواعد البيانات التي يمتلكها «مارك زوكربيرج»، والتي باتت تتجاوز ما لدى الاستخبارات المركزية الأمريكية عينها.

في الأشهر الأخيرة بدأ مجتمع الاستخبارات المركزية الأمريكية يتساءل هل يمكن للفيسبوك التدخل للتأثير في خط سير الانتخابات الأمريكية القادمة؟ وإن فعل ذلك فهل سيكون بالفعل قد تجاوز الهدف الذي خلق من أجله، أي كونه منصة لعرض الآراء الجماهيرية على العوام، ليضحى أداة لحجب آراء بعينها والترويج لأخرى حسب الرغبات الموجهة التي تدار في أجواء من السرية، موصولة بأبعاد الدولة الأمريكية العميقة؟

المخاوف تزداد بالفعل من أن يكون الفيسبوك أداة للتأثير، بل معول لهدم الديمقراطية الأمريكية العتيدة سيما وأن المساحات المتاحة للمستخدمين صارت غير متكافئة من هذا المنظور، ودوائر التأثير المفترض أن يتمتع بها المستخدمون، صارت بيد من قرر التدخل لا بيد جمهور المستخدمين.

كارثة أخرى تجرى فصولها على الأراضي الأمريكية، ويمكنها أن تعرض النسيج الاجتماعي الأمريكي إلى الخطر، ما يهدد حالة الاتحاد الفيدرالي، ومستقبل الجمهورية الأمريكية.

أنها تلك الخاصة بالمحتوى وثيق ولصيق الصلة بالجماعات ذات الأبعاد اليمينية القومية المتطرفة، تلك التي يؤمن بعضها بفكرة نقاء العرق، وحق الرجل الأبيض في السيادة والريادة، والخلاص من الملونين وغير الأنجلوساكسون، أما عن الأمريكيين من أصول إفريقية فحدث ولا حرج، فدور عبادتهم تحرق، ورموزهم من الجنرالات التاريخيين تقتلع تماثيلهم من الساحات...

يتمتع «مارك زوكربيرج» بذكاء فائق، ولهذا يحاول أن يستبق الاتهامات الموجهة إليه، وليس أخطر في الداخل الأمريكي من التعرض لأمرين الديمقراطية، والرأسمالية المتخفية في ثياب النيوليدالية.

مؤخرا أعلن فتى الفيسبوك الأشهر، أنه يريد أن يجعل من فيسبوك منصة «أكثر ديمقراطية»، بحيث يسمح للمستخدمين برفض قرارات فيسبوك نفسها ومراجعتها فيما يتعلق بالمحتوى الذي يسمح بنشره أو يحظر نشره، مضيفا أنه يريد جهة مثل «المحكمة العليا»، أو جهة ليس بها أي من العاملين لدى فيسبوك، تتخذ القرار النهائي فيما يتعلق بما يسمح بنشره وما لا يسمح به كمحتوى على موقع التواصل خاصة.

لم يكن تفكير مارك من فراغ ولا هو متصل باليمين الأمريكي المتطرف فقط، إذ كانت هناك اتهامات خارجية أخرى توجه أصابعها إليه، فقد نشرت الأمم المتحدة مؤخرا تقريرا يتضمن نتيجة تحقيقها في مزاعم الإبادة الجماعية للمسلمين في ميانمار، وجاء فيه أن «فيسبوك» «تحول إلى وحش بعد أن لعب دورا حاسما في نشر الكراهية» للجماعة التي تضطهد المسلمين هناك.

ولعله من بين القضايا التي جعلت الفيسبوك مؤثرا على سلام العالم وأمنه، قضية الصفحات السوداء القائمة عليه، تلك التي تستخدم من قبل عصابات تهريب تجارة الأسلحة والمخدرات حول العالم، حتى أن البعض يدعى أنه يمكن للأفراد أو المؤسسات تسليح جيش بكامله من خلال الفيسبوك.

كانت الأزمة السورية وما جرى خلالها مدعاة للانتباه والالتفات إلى الكارثة المحدقة بالعالم، فعلى سبيل المثال ظهرت صفحة على الفيسبوك عنوانها «سوق الأسلحة الأولي في ريف أدلب»، وقد جذبت عدة آلاف من المتابعين خلال أيام قليلة، فيما أخذت الصفحة في عرض أنواع كثيرة من الأسلحة للبيع، بينها قواعد لصواريخ ثقيلة مثل صاروخ «تاو»، الأمريكي المضاد للمدرعات، إضافة إلى الأسلحة الفردية والمناظير الليلية وغيره.

والشاهد أنه أن كانت صحيفة الجارديان البريطانية قد لفتت الانتباه إليها، مما أدى في نهاية الأمر إلى إغلاقها، فإن هناك العديد من تلك الصفحات والمجموعات المنتشرة في هذا الشأن والتي يصعب الوصول إليها، إذ تقوم مجموعات تجارة الأسلحة بإنشاء كيانات سرية على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، ومن ثم تقوم بنشر منتجاتها للتسويق في هذه المجموعات التي ينضم إليها المهتمين بالأمر.

وهنا يتواصل الراغبون في الشراء مع العارضين، وربما يقومون بالاتفاق على الأسعار وبقية تفاصيل الصفقة على وسيلة تواصل أخرى أكثر أمنا، وقد وثقت عمليات بيع أسلحة ثقيلة بهذه الصورة، منها أسلحة تستخدم كمضادات للطائرات، إلا أن الأمر الأكثر شهرة هو بيع الأسلحة الخفيفة ذات الاستخدام الشخصي كالمسدسات والرشاشات الآلية المختلفة الأنواع. على أن السؤال الأكثر أهمية الذي بات يهم علماء الاجتماع بنوع خاص حول العالم: «ما هو التأثير الذي خلفه الفيسبوك على الحياة الإنسانية والمجتمعية، هل جعلها أكثر إنسانية أم أقام عالما خاصا في الفضاء السيبراني، ووضع عراقيل وعمق فجوات بين البشر أعاقت وتعيق التواصل الإنساني الذي كان من قبل؟

وهل معنى ذلك أن الفيسبوك تحول إلى مارد قادر على التهام ما تبقى من إنسانية بشرية؟

الجواب على السؤال المتقدم يحتاج إلى قراءات قائمة بذاتها ويضيق المسطح المتاح للكتابة عن احتوائه، غير أنه وفي كل الأحوال يمكن القطع بأن الفيسبوك أحدث اضطرابا مجتمعيا، من خلال قدرة جميع الفئات الاجتماعية على استخدامه بوصفه فضاء عام، تحول إلى مسطح يومي للعابرين وأيضا للمقيمين، مكنهم من نشر الإشاعات، والإشاعات المضادة، ولهذا يعد الفيسبوك أحد وسائل حروب الجيل الرابع والخامس، والكارثة هنا أن ما ينشر عبره بات ينتشر بسرعة البرق بين فئات لا تعرف أدنى درجات التقصي والتحري، ولا تمتلك أي وعي نقدي إزاء ما يحدث على اعتبار أن فيسبوك هو فضاء لجميع الشرائح الاجتماعية غير المتعلمة.

أضحى الفيسبوك وسيلة الإعلام الأولى في القرن الحادي والعشرين، وبات أي عضو فيه يمتلك شاشة تلفزيونية يمكنه مخاطبة الناس من خلالها، وإذاعة دورية يحادثهم عبرها، وصحيفة مقروءة ينقل لهم من خلالها ما يشاء، الأمر الذي جعل الروائي والسيميائي الإيطالي الراحل «امبرتو إيكو» يهاجم الفيسبوك، ذاك الذي خلق فتنة ممدودة وغير محدودة. هل غير الفيسبوك العالم إلي الأفضل أم إلى الأسوأ؟

الانتقادات الموجهة إلى الفيسبوك ليست قليلة، فالكثيرون يسمونه الآن موقع «اللاتواصل الاجتماعي»، حيث يقضى فيسبوك بنظرهم على العلاقات الحقيقية مستبدلا إياها بعلاقات وهميه تعزز الفردانية والانعزال عن العالم.

ومن بين الانتقادات القاتلة انه بات عالما ما ورائيا للجماعات الإرهابية، وهذه قصه أخرى تبين لنا كيف أن وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة نعمة ونقمة في الوقت عينه، والتساؤل الآن ماذا لو تمكن تنظيما عالميا من الاتفاق على جريمة بعينها في توقيت محدد عبر الفيسبوك وأحداثها في ست قارات الأرض.

لا يبدو أن أحداً لديه رؤية أو قراءة تتعلق بمستقبل ظاهرة الفيسبوك والشركة المالكة التي باتت وحشا قادرا على تغيير حياة عدة مليارات من البشر يتعاطى بمعلوماتهم من خلال خوارزميات غاية في التعقيد، وهي قدرة لم تتوفر لأي شخص على سطح الأرض منذ بداية الخليقة وحتى الساعة.

وبقي قبل الانصراف القول أن مستقبل الفيسبوك أن مضى على هذا النحو قد يجعل منه الحكومة العالمية التي تتجاوز مقدرات الأوطان وحكوماتها التقليدية، تلك التي تتحدث عنها سردية العوالم الخفية لا العلنية من زمان وزمانين.