أفكار وآراء

الخدمة المدنية ويومها

26 يونيو 2019
26 يونيو 2019

جرى الاحتفال يوم الثلاثاء الماضي بيوم الخدمة المدنية الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة بهدف لفت الانتباه إلى أهمية الجهاز الإداري في كل دولة والدور الذي يقوم به العاملون بالجهاز في خدمة المواطنين وتيسير متطلباتهم وتسهيل النشاط الاقتصادي والاجتماعي.

ومن الطبيعي أن يربط الكافة بين الإصلاح الإداري للجهاز البيروقراطي والإصلاح الاقتصادي والاجتماعي؛ فالترابط واضح بالفعل بين تلك المنظومة، بيد أن الكلام على الورق شيء والممارسات الواقعية شيء آخر، ولذلك فإن تقارير مثل ممارسة الأعمال التي يصدرها البنك الدولي أصبحت مهمة في بيان واقع الممارسات الإدارية في كل دولة وترتيب الدول طبقًا لذلك، وإن كانت منهجية ومدى شمول ودقة أوزان مؤشرات تقرير ممارسة الأعمال محل جدل دائما، لكن لا يمكن إنكار أهميته وتأثيره على قرارات المستثمر الأجنبي بل والمحلي. وكما هو معلوم تتباين الدول في مدى الإصلاح الإداري وتجارب الإصلاح في دول كبيرة لها قصص وحكايات وفيها عبر ودروس، ففي فيتنام مثلا استغرق الأمر عشر سنوات وفى الصين تطلب الإصلاح النزول بعدد الموظفين من 105 ملايين إلى 28 مليونا، وفى مصر يحتاج الأمر إلى 3 سنوات لإصلاح الأجهزة المركزية مثل دواوين الوزارات ومن 3 إلى 5 سنوات لإصلاح المحافظات وأجهزة المحليات، وفى مصر أيضًا فإنه يوجد موظف لكل 15 نسمة بينما في ألمانيا لكل 159 نسمة مع ملاحظة أن مصر تعهدت سياسيا بألا يضار موظف واحد من الإصلاح من الموظفين بل يعاد تدريبهم وتسكينهم في عمل جديد. في مصر أيضًا 33 وزارة، بينما يبلغ عدد الوزارات في كل من الولايات المتحدة وأمريكا الجنوبية 15 وزارة، وفرنسا 16 وزارة، واليابان 10 وزارات، وسنغافورة 12 وزارة، ويشيع في مصر وغيرها التداخل في اختصاصات بعض الوزارات وتفتيت المهمة بين أكثر من وزارة، وعدم وجود أهداف محددة وتضارب الصلاحيات والمسؤوليات ما يدل على أن الإصلاح يحتاج جهدًا ضخمًا وإصرارًا ووضوح رؤية.

ومن الأهمية بمكان أن يعرف القراء أن عملية تغيير الأداء في الجهاز الإداري للدولة تأخذ في العالم مسميات مختلفة. ويتم استخدام تعبير إصلاح إداري في حالة وجود مشكلة جوهرية في الإنتاجية ومستوى الخدمة والأداء بينما يطلق على العملية وصف التغيير أو التطوير الإداري حين يكون قد تم إنجاز المهام الأساسية، ثم يقال التحديث الإداري حين يكون كل المطلوب هو إدخال ما هو جديد ومستحدث في البرامج والنظم والخبرات إلى ذلك الجهاز الإداري المتطور بالفعل. وقد يكون مفيدا في ضوء تجربة مصر ذات البيروقراطية العتيدة القول بأن هناك رهانًا واضحًا على التحول الرقمي في إنجاز الأعمال وأداء الخدمات لإحداث اختراق قوى للوضع القائم تمهيدا للانتقال إلى مرحلة التطوير في أقل وقت ممكن؛ ولذلك فإن وحدات التحول الرقمي أصبحت أساسية في الجهاز الحكومي ومعها عمليات أتمتة اختيار القيادات وفقًا لأساليب نفسية وسلوكية وإدارية حديثة، بيد أن الخطوة التي تعني الجميع في العالم العربي ربما تكون إنشاء وحدات المراجعة الداخلية في كل وحدة حكومية ليس فقط لتكون بديلا لوحدات التفتيش سابقا ولكن أيضا لتكون أداة في إرشاد وتنبيه العاملين إلى الطرق الصحيحة لأداء الأعمال وكيفية تجنب الأخطاء.

وقد قالت وزيرة التخطيط المصرية في احتفال بيوم الخدمة المدنية: إن من الأخطاء الشائعة في الإصلاح هو التدريب الشكلي أو ذلك الذي لا يقدم الكثير للموظف. معتبرة أن التدريب يجب أن يتم بمعايير عالمية وإلا (بلاش)، ولذلك استعانت بجامعات ميسورى وشيكاغو الأمريكية وغيرهما لهذا الغرض. من الملاحظات العامة أيضًا عدم التوقف عند المقبلين على التقاعد وخاصة منهم الذين ليسوا على استعداد لأداء وظائفهم بطريقة مختلفة أو يقاومون التغيير والتركيز الشديد في البعثات والتدريب على الكادر الوسيط. وبينما يلقى المواطن والمستثمر الكثير من العنت من البيروقراطية فهما يتساءلان: متى نشعر بنتائج الإصلاح؟ وقد أعجبتني إجابة قدمها أحد الخبراء تقول: إن استعجال النتائج في مجال الإصلاح الإداري يمكن أن يقود إلى كارثة تشبه ما يجرى لذلك الذي يتعاطى هرمونات لنفخ عضلاته ثم ينهار فجأة عند أول اختبار للقدرة الحقيقية، بيد أن هذه النقطة تفتح الباب لسؤال مهم هو: وما المدى الزمني إذا الذي يجب أن تستغرقه كل عملية إصلاحية سواء تعلقت بالإصلاح المؤسسي أو التدريب أو الإصلاح المالي والفني؟ لا يمكن في تقديري أيضا ضمان استدامة الإصلاح الإداري من غير أن يترافق معه منذ البداية خطة واضحة بمهام محددة للحوكمة والمساءلة، ولن يتم ذلك من غير أن تكون هناك هيئة إشرافية ورقابية مستقلة عن الوزارات المعنية بالإصلاح الإداري بل وبعيدة عن الحكومة بشكل عام أي أنني أتحدث عن شيء يشبه الأجهزة التنظيمية لمرفق الاتصالات أو الكهرباء مثلا والتي تضع القواعد والمعايير وتعاقب وتحاسب وتحافظ على التوازن بين حقوق مقدم الخدمة ومتلقيها، وربما يكون مفيدًا أيضًا إيجاد نظام جديد تمامًا لما يسمى الخط الساخن ليكون له دور فورى في التصدي لكل أشكال القصور أو الفساد التي تقتضي تدخلا لحظيا.

هناك أمراض معروفة في الأجهزة الإدارية بالدول مثل: ازدواجية المهام وتداخل الاختصاصات وسوء توزيع العمالة وارتفاع تكلفتها وانخفاض إنتاجيتها وعدم رضا المواطنين عن الخدمات التي يقدمها الجهاز الإداري لمدة طويلة دون أن تلحظ الحكومة ذلك مما يشكك المواطن في كفاءة منظومة الإدارة وعدم سلامة مستشعراتها. هناك أيضا كثرة عدد التشريعات التي تحكم الجهاز الإداري وتقادمها وتضاربها ووجود تعقيدات وثغرات كثيرة بها. لكن الملاحظ عموما أن دولا كثيرة في العالم تنطلق في الإصلاح الإداري من رغبة قوية في المنافسة على جذب الاستثمارات والمستثمرين وتحسين مناخ الأعمال وهذا أمر مطلوب وأساسي بكل تأكيد لكن الأصح والأكثر تحقيقا للتقدم العام في البلاد ونوال رضا المجتمع عن الخدمة المدنية الانطلاق من خلال خدمة المواطن وكثيرا ما أقول للمستثمرين من الأصدقاء: هب أنه تم تحقيق ما تريدونه من إصلاحات خاصة بتأسيس الشركات وسرعة تشغيلها وتسهيل أداء الجمارك والضرائب لكن بقيت الخدمات البسيطة التي يحتاجها المواطن من الجهاز الحكومي على حالها المريض... فكيف سيعمل العامل لديكم ويبدع ويبتكر بينما باله مشغول بنقل ابنه من مدرسة الى أخرى أو من فصل إلى فصل أو الحصول على شهادة معينة أو رخصة أو كذا؟ في كل الحالات وكما تقول دراسة للمركز المصري للدراسات يتعين النظر إلى الإصلاح الإداري باعتباره جزءًا أساسيًا من استراتيجية وطنية شاملة للتحديث وتحويل البلد إلى مجتمع المعرفة والإبداع، وليست تلك قضية منفصلة أو مستقلة، مع خلق إصلاح إداري حقيقي بشرط المتابعة المستمرة من القيادة السياسية، والبرلمان ومن الأجهزة الرقابية لمراحل التنفيذ، وأن يتم تنفيذها بصرف النظر عن تغيير المسؤول عنها باعتبارها رؤية دولة وليست رؤية فرد، وأن يتم توفير التمويل المناسب لتنفيذها، ويجب ألا تقتصر المسؤولية على وزارة واحدة يصعب عليها في أغلب الأحيان تنفيذ الإصلاح في وزارات وهيئات أخرى. طريق الإصلاح الإداري طريق طويل وكل عام وموظفونا الأجلاء بخير.