أفكار وآراء

«ما وراء» انعدام الوظائف

26 يونيو 2019
26 يونيو 2019

مايكل سبينس - مجلس العلاقات الخارجية -

ترجمة قاسم مكي -

في الولايات المتحدة خصوصا يوجد عدد كبير من مؤسسات التعليم العالي الراقية سواء الخاصة أو العامة والتي لديها خريجون متميزون في مجالات واسعة تمتد من قطاع الأعمال إلى الفنون والتعليم. لذلك فالمسارات المفضية إلى الفرص الوظيفية ليست بتلك الدرجة من الضيق التي يعتقدها العديدون.

خلال معظم الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية ركزت السياسات الاقتصادية على البطالة. فالخسائر الضخمة في الوظائف أثناء حقبة الركود العظيم ترتب عنها أثر مستدام على جيلين من الناس على الأقل. وتم التخلص منها فقط عندما انطلق النمو بفضل الحرب العالمية الثانية والمديونية الضخمة التي تراكمت لتمويله. لكن إيجاد الوظائف يشكل جانبًا واحدًا فقط من جوانب الرفاهية العديدة ولا يكفي بمفرده في عالم اليوم.

كانت نماذج النمو حميدة إلى حد كبير في الفترة بين الحرب العالمية الثانية وحوالي عام 1980.

نعم حدثت حالات انكماش اقتصادي لكن البطالة ظلت منخفضة. وارتفعت حصة العمل (الأجور) من الدخل (القومي) تدريجيًا مع ازدياد ازدهار الفئات المتوسطة الدخل خصوصا وفرص ارتقائها أعلى (السلم الاجتماعي).

وفي الولايات المتحدة وغيرها كان تفويض البنوك المركزية واضحا وهو الحفاظ على التوظيف الكامل والإبقاء على التضخم تحت السيطرة. لا تزال هذه العقلية المركزة على البطالة باقية إلى يومنا هذا. وهي تنعكس على سبيل المثال في الجدل حول الذكاء الاصطناعي والأتمتة والذي يركز باطراد على المخاوف من البطالة «التقنية». أما الاقتصاد الأمريكي فيعتبر في عافية نسبيا لأن البطالة به عند مستويات منخفضة تاريخيا والنمو معتدل والتضخم تحت السيطرة. لكن نماذج النمو الحميدة التي سادت قبل عقود قليلة لم تعد موجودة. من المؤكد أن ثمة اقتصادات مشاكلها الرئيسية تتمثل في النمو والتوظيف. فإيطاليا مثلا لم تشهد نموًا يذكر في الناتج المحلي الإجمالي لعقدين ولا يزال معدل البطالة فوق 10% مع اقترابه في أوساط الشباب من 30%. كذلك في البلدان التي لا تزال في مرحلة مبكرة من النمو يشكل نمو الوظائف الهدف الرئيسي الذي لا يعلى عليه لسياساتها الاقتصادية الساعية لتوفير فرص وظيفية للشباب الداخلين إلى سوق العمل وللفقراء ولمن هم بدون عمل في القطاعات التقليدية.

لكن إيجاد الوظائف يشكل الخطوة الأولى فقط. فتحديات التوظيف متعددة الأبعاد في الاقتصادات الحديثة حيث تنتاب العاملين مخاوف في مجالات واسعة بما في ذلك الأمان الوظيفي والصحة والتوازن بين وقت العمل والحياة الخاصة والدخل والتوزيع والتدريب والتنقل الوظيفي (جغرافيا ومهنيا – المترجم) والفرص. لذلك على واضعي السياسات عدم الاقتصار على الإجراءات البسيطة المتعلقة بالبطالة والاهتمام بأبعاد التوظيف العديدة التي تؤثر على رفاه العاملين.

دعونا نتناول البعد المتعلق بالأمان الوظيفي. ففي فترات التحول الهيكلي السريع يتم إيجاد وتدمير وتحويل الوظائف وتتغير المهارات المطلوبة للقوة العاملة. وحتى مع وجود السياسات والبرامج المساندة يتولد عن ذلك عدم الأمان الوظيفي. وتسوء الأمور أكثر حين تغادر الحكومات المسرح.

بل حتى حين لا يفقد العاملون وظائفهم قد يفسد عليهم رفاهيتهم الخوف من أنهم سيفقدونها. ففي وقت يشهد مستويات متزايدة وحادة لانعدام المساواة في الثروة هنالك عدد قليل نسبيا ممن لديهم القدرة على تأمين أنفسهم ضد صدمات (فقدان) الوظيفة والدخل أو الاستثمار في إعادة التدريب. لقد وجدت دراسة حديثة لبنك الاحتياط الفيدرالي الأمريكي أن أربعة من بين كل عشرة أمريكيين بالغين لن يكون بمقدورهم سداد 400 دولار نقدًا مقابل نفقات طارئة أو غير متوقعة (من جانبهم).

في هذا السياق يصبح تصميم وتغطية أنظمة الضمان الاجتماعي والخدمات الاجتماعية أكثر أهمية. لكن بدلا عن تعزيز شبكات الأمان الاجتماعي تحاول بعض الحكومات والشركات توفير المال بتعهيد المهام المتعلقة بالفوائد مثل الرعاية الصحية ورواتب التقاعد والتأمين ضد البطالة إلى جهات أخرى.

هنالك بعد آخر لتحدي التوظيف وهو الدخل. لقد تم توثيق نموذج استقطاب وظيفي ودخلي متزايد في معظم إن لم يكن كل البلدان المتقدمة. وهو استقطاب تحركه جزئيًا الفجوة المتسعة بين الإنتاجية المرتفعة والتعويض (الراتب أو الأجر) الراكد للعديد من وظائف الدخل المتوسط والمنخفض.

مع انتقال العديد من وظائف المهارات المتدنية إلى الخارج أو «أتمتتها» ازداد عرض العمل في المجالات غير القابلة للأتمتة في القطاعات الاقتصادية غير التجارية (التي تنتج سلعا وخدمات غير قابلة للتبادل التجاري).

ساهم الناتج الحدي المنخفض للعمل (التغير الذي يحدث في حجم الناتج عند إضافة المزيد من العمل للعملية الإنتاجية - المترجم) إلى جانب تدهور آليات المفاوضات الفعالة بين النقابات وأرباب العمل (حول الأجور وشروط الخدمة الأخرى) في تغذية انعدام المساواة في الدخل. وفي حين أن الإجراءات المضادة من شاكلة السياسات الضريبية التي تستهدف إعادة توزيع الدخل خففت من غلواء هذه اللامساواة نوعًا ما في بعض البلدان إلا أنها لم تبطلها.

يوجد بعد ثالث لتحدي التوظيف وهو الإنصاف. يفهم معظم الناس أن الاقتصادات المرتكزة على السوق لا تحقق نتائج تنطوي على المساواة التامة بسبب الاختلافات في القدرات والتفضيلات. لكن القبول الواسع باللامساواة يتطلب أن تكون هذه الاختلافات معتدلة ومرتكزة على الجدارة. فاللامساواة المتطرفة والمؤسسة على امتياز الحصول على الفرص الوظيفية وتعويضاتها المالية دون جدارة واستحقاق مدمرة اجتماعيا. وهذا شيء يمكن ملاحظته في بلدان عديدة.

هذا البعد له ارتباط وثيق بالبعد الرابع وهو توقعات ارتقاء السلم الاجتماعي. يمكن، إلى حد ما، المغالاة في التنويه بعدم التساوي في فرص العمل اليوم في الولايات المتحدة على الأقل. ويفترض على نطاق واسع أنه بمجرد تمكن شخص ما من الانضمام إلى شبكة معينة (مثل الالتحاق بإحدى جامعات رابطة آيفي ليج) ستتحسن كثيرا فرصته في التوظيف وبالتالي في الترقي الاقتصادي الاجتماعي.

لا شك أن هنالك بعض الحقيقة في ذلك. حقا توجد بالأسواق هياكل شبكات قد لا تظهر في معظم نماذجها. لكنها تؤثر في كل مجال. بعض هذه الهياكل حميد مثل آليات نقل المعلومات الموثوقة. وتوجد هياكل أخرى إشكالية مثل تلك التي يتم تقنينها وفقا للطبقة الاجتماعية أو الثروة هذه الأيام.

مثلا وكما كشفت فضيحة القبول بالجامعات التي حدثت مؤخرا والمتعلقة بثماني جامعات أمريكية مرموقة تمكنت عائلات ثرية من إلحاق أبنائها بالصفوة التعليمية عن طريق بذل المال. لكن في حين يمكن للشهادة الجامعية فتح الأبواب سواء بتنويهها بقدرة استثنائية لحائزها أو منحها العضوية في شبكات الخريجين المتنفذة إلا أن ذلك ليس بأي حال السبيل الوحيد للحصول على وظيفة ثمينة.

في الولايات المتحدة خصوصًا يوجد عدد كبير من مؤسسات التعليم العالي الراقية سواء الخاصة أو العامة والتي لديها خريجون متميزون في مجالات واسعة من تمتد من قطاع الأعمال إلى الفنون والتعليم. لذلك فالمسارات المفضية إلى الفرص الوظيفية ليست بتلك الدرجة من الضيق التي يعتقدها العديدون.

هذا لا يعني القول أن تدهور فرص الترقي إلى أعلى سواء مقارنة بالماضي أو ببلدان غربية أخرى ليس مشكلة. بل بالعكس. فقد أجريت أبحاث مفيدة في أسباب هذا التدهور ويجب أن تؤثر هذه الأبحاث على السياسات.

هذا هو بالضبط الشيء الأكثر أهمية. فلا توجد حلول بسيطة. ولم يعد ممكنا الاكتفاء برقم واحد فقط (يمثل نسبة من يشغلون وظائف) لقياس عافية الاقتصاد ناهيك عن رفاهية القوى العاملة بهذا الاقتصاد. فذلك سيستوجب تبني مقاربة دقيقة تتناول الأبعاد العديدة للتوظيف التي تؤثر على رفاهية البشر.