1228454
1228454
روضة الصائم

حرف وصناعات : إقامة السدود

29 مايو 2019
29 مايو 2019

هذه الحلقات المكتوبة إنما هي إشارات سريعة وعاجلة، للفت الأنظار إلى قضية مهمة في زمنِ البطالة لتوجيه أنظار الباحثين عن العمل إلى المهن والحرف وعدم احتقارها أو التهوين من شأنها؛ فلقد حثّ الإسلام على العمل أيّما كان نوعه، شريطة أن يكون بهذا العمل نافعًا لنفسه والآخرين غير ضار لأحد، ويكفي هؤلاء الذين يعملون بالحرف والصناعات شرفًا وفخرًا وعزة وكرامة أن أشرف خلق الله وأفضلهم وهم الأنبياء والرسل قد عملوا بحرفة أو امتهنوا مهنة.

ولقد أشار القرآن الكريم في آياته إشارات واضحة ومباشرة أو ضمنية تفهم في مجمل الآية إلى بعض الحرف والصناعات كذلك حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك وحين يشير القرآن تصريحًا أو تلميحًا إلى أمر ما فهو أمر مهم وعظيم فالقرآن لا يتحدث إلا عما فيه سعادة وصلاح حال البشرية ومن الحرف التي أشار إليها القرآن الكريم في آياته هي إقامة السدود لما فيه من النفع والتي جاء الحديث عنها في قصة ذي القرنين وهو أحد الملوك الأربعة الذين حكموا الأرض منهم ملكان عادلان ذو القرنين وسليمان عليه السلام -في سورة الكهف، حيث بيّن الله تعالى أفضل طريقة لإقامة السدود ناهيك عن ضرورة الأخذ بيد الضعفاء وتعليمهم ما ينفع حياتهم قال تعالى: «حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)».

جاء في التفسير الوسيط للزحيلي: بعد أن وصل ذو القرنين المشرق والمغرب، اتجه من الشرق إلى الشمال، فاستنجد به أقوام الشمال، فأعانهم مخلصا لله من غير أجر ولا عوض. فكان - كما ذكر المؤرخون- يدوس الأرض بالجيوش الثقال، والسيرة الحميدة، وتقوى الله عز وجل، فما لقي أمة، ولا مرّ بمدينة إلا دانت له، ودخلت في طاعته وكل من عارضة جعله عظة وآية لغيره. ثم وصل بين السدين (الجبلين العظيمين) بين أرمينية وأذربيجان، فوجد من ورائهما قوما من الناس شرق البحر الأسود، وهم الصقالبة (السلاف) لا يكادون يفهمون كلام غيرهم، لغرابة لغتهم، وقلة فطنتهم ونباهتهم.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: الجبلان اللذان بينهما السّدّ: أرمينية وأذربيجان. فقال سكان السد بين الجبلين: إن يأجوج ومأجوج (وهما قبيلتان من بني آدم) يفسدون في أرضنا بالتخريب والقتل والظلم ونحوه من مفاسد البشر. فهل توافق على أن نعطيك جعلا من المال، على أن تقيم بيننا وبين هؤلاء المفسدين حاجزًا منيعًا يمنعهم من الوصول إلينا؟ قال لهم ذو القرنين: ما بسط الله لي من القدرة والملك خير من خرجكم وأموالكم، ولكن أعينوني بقوة الأبدان، وبعمل الأيدي، أعطوني قطع الحديد، حتى إذا حاذى بالبنيان رؤوس الجبلين طولا وعرضا، قال للعمال المساعدين: انفخوا بالكير على هذه القطع الحديدية، حتى اشتعلت النار المتوهجة، ثم صبّ النحاس المذاب على الحديد المحمى والحجارة، فصار كله كتلة متلاصقة وجبلا صلدا، وانسدت فجوات الحديد. فما قدر المفسدون من يأجوج ومأجوج أن يصعدوا فوق السد؛ لارتفاعه وملاسته، وما استطاعوا نقبه من الأسفل، لصلابته وشدته، وأراح الله منهم القبائل المجاورة، لفسادهم وسوئهم.

وقال ذو القرنين بعد إقامة السد المنيع الحصين لأهل تلك الديار: هذا السد نعمة، وأثر من آثار رحمة ربي بهؤلاء القوم الضعفاء، فإذا حان أجل ربي وميعاده بخروجهم من وراء السدّ، جعله ربي مدكوكا منهدما، مستويا ملصقا بالأرض، وكان وعد ربي بخرابه، وخروج يأجوج ومأجوج، وبكل ما وعد به حقا ثابتا لا يتخلف، كائنا لا محالة قَالَ تعالى: «هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)».

وجاء في تفسير «في ظلال القرآن» لسيد قطب إبراهيم: وعندما وجدوه فاتحا قويا ـ يقصد ذا القرنين ـ وتوسموا فيه القدرة والصلاح عرضوا عليه أن يقيم لهم سدا في وجه يأجوج ومأجوج الذين يهاجمونهم من وراء الحاجزين، ويغيرون عليهم من ذلك الممر، فيعيثون في أرضهم فسادا ولا يقدرون هم على دفعهم وصدهم.. وذلك في مقابل خراج من المال يجمعونه له من بينهم.

وتبعا للمنهج الصالح الذي أعلنه ذلك الحاكم الصالح من مقاومة الفساد في الأرض فقد رد عليهم عرضهم الذي عرضوه من المال وتطوع بإقامة السد ورأى أن أيسر طريقة لإقامته هي ردم الممر بين الحاجزين الطبيعيين فطلب إلى أولئك القوم المتخلفين أن يعينوه بقوتهم المادية والعضلية: «فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا. آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ».. فجمعوا له قطع الحديد، وكومها في الفتحة بين الحاجزين، فأصبحا كأنهما صدفتان تغلفان ذلك الكوم بينهما. «حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ» وأصبح الركام بمساواة القمتين «قالَ: انْفُخُوا» على النار لتسخين الحديد «حَتَّى إِذا جَعَلَهُ نارًا» كله لشدة توهجه واحمراره «قالَ: آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا» أي نحاسًا مذابًا يتخلل الحديد، ويختلط به فيزيده صلابة.

وقد استخدمت هذه الطريقة حديثًا في تقوية الحديد فوجد أن إضافة نسبة من النحاس إليه تضاعف مقاومته وصلابته. وكان هذا الذي هدى الله إليه ذا القرنين، وسجله في كتابه الخالد سبقا للعلم البشري الحديث بقرون لا يعلم عددها إلا الله.

ونظر ذو القرنين إلى العمل الضخم الذي قام به، فلم يأخذه البطر والغرور، ولم تسكره نشوة القوة والعلم. ولكنه ذكر الله فشكره. ورد إليه العمل الصالح الذي وفقه إليه. وتبرأ من قوته إلى قوة الله، وفوض إليه الأمر، وأعلن ما يؤمن به من أن الجبال والحواجز والسدود ستدك قبل يوم القيامة، فتعود الأرض سطحا أجرد مستويا.

وقال الشعراوي في تفسيره «بتصرف»: الغرض الأساسي أن يحمي الإسلام أفراد المجتمع، فالذي لا يجد قُوتَه نساعده بالرأي وبالعلم والقدرة والقوة. والخير أن نعلّمهم أن يعملوا لأنفسهم. فها هو ذو القرنين يعلن أنه في غير حاجة إليهم، ولكن يكلفهم بعمل حتى يحقق لهم مُرادهم: «آتُونِي زُبَرَ الحديد حتى إِذَا ساوى بَيْنَ الصدفين قَالَ انفخوا حتى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا» [الكهف: 96].

ومن العجيب أن القرآن عندما يحكي أمراً فهو لا يحكيه إلا لهدف، هم طلبوا من ذي القرنين أن يبني سدّاً، لكنه اقترح أن يجعل لهم رَدما، ما الفرق؟ لقد تبيّن من العلم الحديث أن السَدّ قد تحدث له هزّة من أي جانب فينهدم كله، أما الرّدْم فإن حدثت له هزّة يزددْ تماسكًا. ولم يعمل ذو القرنين لهم، ولكن علّمهم كيف يصنعون الرَّدْم، وذلك حتى لا يعيشوا مع الإحساس بالعجز. وهكذا يُعلّمنا القرآن أن الإنسان لا بد له من عمل. فقد جعلهم يعملون معه ويبنون، وهذه أمانة القوي فيما آتاه الله تعالى من القوة.

فقد تَمَّ بناء السد بمعاونة هؤلاء الضعفاء، وكان بناء هذا السد بصورة تتحدى طاقة العدوان في كل من يأجوج ومأجوج، هذا البناء يشبه ما يفعله الآن المهندسون في المعمار بالحديد والخرسانة؛ لكنه استخدم الحديد، وسَدَّ ما بينه من فجوات بالنحاس المذاب ليكون أكثر صلابة، فلا يتمكن الأعداء من خَرْقه، وليكون أملسَ ناعمًا فلا يتسلقونه، ويعلُون عليه.

فهذا هو هدي نبينا فمن اتبع هذا الهدى عاش كريما.

(ينشر بترتيب مع وكالة الأهرام للصحافة)