أفكار وآراء

هل انتهى القرن الأمريكي؟

10 مايو 2019
10 مايو 2019

إميل أمين - كاتب مصري -

[email protected] -

من بين العديد من التساؤلات التي تهم كافة القائمين على شؤون التحليل السياسي الدولي يبقى السؤال عن الولايات المتحدة الأمريكية ومستقبل ما اصطلح على تسميته بالقرن الأمريكي، ولهذا المصطلح جذور تعود إلى حقبة المحافظين الأمريكيين والجدد وربما ما هو أبعد، غير أن تلك الطغمة من السياسيين الأمريكيين الذين طفوا إلى سطح الحياة السياسية الأمريكية منذ أواخر ستينات القرن الماضي قد بلغوا أوجهم في نهاية تسعينات القرن الماضي وكان العام 1997 تحديدا هو العام الذي سيوجه مقدرات الأمة الأمريكية في القرن الحادي والعشرين.

في ذلك العام بلور عتاة المحافظين الجدد وثيقة تاريخية معروفة باسم «وثيقة القرن الأمريكي»، وهذه تفيد بأن القرن الحادي والعشرين لابد أن يكون قرنا أمريكيا بامتياز، وأن لا تشارع أو تضارع أو تنازع أي قوة على سطح الكرة الأرضية بشكل أو بآخر قوة أمريكا، وقد قال البعض: إن المقصود بتلك القوى روسيا وقطع طريق عودتها إلى القطبية العالمية مرة جديدة، أو الصين ووقف نمو نفوذها حول العالم، سيما أنها تطمح إلى الصعود إلى مصاف الأقطاب الدولية.

والشاهد أن السؤال بدا يلح من جديد في العامين الماضيين سيما أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وإن لم يكن بالضرورة من المنتمين إلى المحافظين الجدد، إلا أن رؤاه السياسية تمضي في التوجه ذاته، فمنذ الأيام الأولى لترشحه للرئاسة الأمريكية وهو ينادي بأن أمريكا يجب أن تبقى وتظل الأقوى، والأولى، وكافة مصطلحات التميز والاستثنائية الأمريكية التقليدية.

أحد أفضل العقول الأمريكية التي يمكننا أن نلجأ إليها في طريق البحث عن جواب، هو البروفيسور الأمريكي الكبير وأستاذ العلوم السياسية الأشهر «جوزيف اس. ناي الابن»، والمعروف حول العالم برؤيته للعلاقة بين أمريكا وبين القوة الناعمة في طريق السيطرة على العالم.

غير أن كتابا آخر جاء تحت عنوان «هل انتهى القرن الأمريكي» للبروفيسور ناي، وقد صدر حديثا عن المركز القومي للترجمة في القاهرة، ومن ترجمة السفير الدكتور السيد أمين شلبي المفكر الاستراتيجي المصري الكبير، ربما يمكن أن يقودنا إلى أبعاد الإجابة عن السؤال المتقدم... ماذا عن ذلك؟

يضعنا الكاتب الكبير أمام توجهين واحد يقول: إن نهايات القرن الأمريكي تقترب بالفعل، وطريق آخر ينكر على الأول توجهاته.

وعند الدكتور شلبي في مقدمته الرائعة أن الجدل الدائر حول مفهوم «القرن الأمريكي» يطرح تساؤلات منذ بداية الخمسينات، وامتد حتى السبعينات حول تراجع القوة الأمريكية، وبخاصة عندما اصدر المؤلف الأمريكي الكبير «بول كيندي» كتابه الشهير «صعود وسقوط القوى العظمى»، وهو الكتاب الذي استعرض أوضاع القوى الكبرى منذ عصر النهضة وأدوات صعودها وسقوطها والعوامل والقوى العسكرية والاقتصادية التي كانت وراء ذلك.

غير ان عمل «بول كيندي» تمثلت أهميته في الفصول التي خصصها لمناقشة القوى الكبرى عندئذ أي الولايات المتحدة الأمريكية وغرب أوروبا واليابان والصين، وقد كان أخطر ما خلص إليه كيندي هو «علاقة التأثر المتبادل بين الاقتصاد والاستراتيجية خلال محاولة كل من الدول الكبرى دعم قوتها وثروتها لكي تصبح أو تظل قوية وغنية معا.

وبتطبيق هذه العلاقة على الولايات المتحدة فإنه يستخلص أنها بفعل ما أسماه تمددها الإمبريالي، وإنفاقها العسكري الذي أثر على اقتصادها سوف ينطبق عليها ما انطبق على غيرها من الامبراطوريات التي مرت بهذه الدورة.

لم يكن كتاب بول كيندي شأنا يسيرا في الحياة الفكرية الأمريكية فقد تشكلت من حوله مدرسة في ثمانينات القرن المنصرم عرفت بمدرسة الاضمحلال، وقد استندت هذه المدرسة إلى ثلاثة افتراضات رئيسية، هي:

** ان الولايات المتحدة تتراجع على المستوى الاقتصادي مقارنة بقوى مثل اليابان وأوروبا الغربية والدول الصناعية الجديدة.

**ان القوة الاقتصادية هي العامل المركزي في قوة أي أمة ومن ثم فإن هبوطها في القوة الاقتصادية سوف يؤثر في الأبعاد الأخرى لقوة هذه الأمة.

** ان الاضمحلال النسبي للقوة الأمريكية إنما يرجع في الدرجة الأولى إلى إنفاقها الكثير جدا على الأغراض العسكرية، التي هي نتيجة لمحاولتها الاحتفاظ بارتباطات خارجية لم تعد تقوى عليها.

هذا الطرح لـ «بول كيندي» تعرض في واقع الأمر إلى انتقادات شديدة من خبراء لهم أوزان استراتيجية ثقيلة مثل «زيجينو بريجنسكي» مستشار الأمن القومي الأمريكي، الذي قدم صورة مختلفة ومتفائلة كثيرا عن ما ذهب إليه بول كيندي، وأن ربط تحليلاته بمعالجة أمريكا لمشاكلها الداخلية.

رجل آخر سوف يقدر له أن يشغل العالم طويلا وحتى بعد رحيله عن عالمنا الفاني، انه البروفيسور «صموئيل هنتنجتون» صاحب نظرية «صدام الحضارات»، الذي طرح سؤالا قريبا من الإشكالية التي نحن بصددها: هل أمريكا تمر باضمحلال أم تجديد؟».

والشاهد أن الانتقادات المتقدمة قد انتهت إلى بعض مفاهيم أساسية قدر لها أن تظل قائمة حتى نهاية تسعينات القرن الماضي تقريبا، وفي مقدمتها ان القوة الأمريكية هي قوة متعددة الأبعاد. أما القوى المنافسة الأخرى فهي قوى ذات بعد واحد، وبات السؤال وقتها ماذا ستفعل واشنطن بمثل هذه القوة غير المسبوقة من زمن الامبراطورية الرومانية وحتى الساعة؟

لم يكن أحد يتوقع أن تمر الولايات المتحدة الأمريكية باختبار قاس وشديد لم تعرفه منذ بيرل هاربور، واعتداء اليابانيين على الميناء الأمريكي الشهير وإغراق قطع عديدة من الأسطول الأمريكي، كان ذلك غداة تعرض نيويورك وواشنطن وبنسلفانيا إلى هجمات الحادي عشر من سبتمبر من عام 2001، الأمر الذي هز الأمن الأمريكي ومقوماته الاقتصادية والعسكرية وهي التجربة التي اندفعت بفعلها إدارة بوش الابن إلى الحملات العسكرية في أفغانستان والعراق وجاءت النتائج كارثية، وذلك بسبب تبديدها للقوة المادية والبشرية الأمريكية وإضعافها للاقتصاد الأمريكي، وما هو أهم من ذلك هز الصورة الأمريكية في العالم والثقة فيها، كما جاءت الأزمة المالية عام 2008 لكي تقوض القيادة الأمريكية الاقتصادية والمالية في العالم.

هل كان لمثل هذا المناخ ان يعيد إنتاج حديث الاضمحلال الأمريكي؟

مؤكد أن ذلك كذلك فعلا وقولا، وقد كانت الأصوات هذه المرة عالية جدا تنذر بتراجع أمريكا إلى الوراء كثيرا سيما مع بروز قوى عالمية صاعدة مثل الصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، تلك التي عرفت بمجموعة «البريكس»، والتي باتت تنافس الولايات المتحدة على المكانة العالمية، وتدعو إلى عالم متعدد الأقطاب، لا تنفرد فيه الولايات المتحدة بالقيادة أو بالقرار في قضايا الحرب والسلام.

ذات مرة من القرن الثامن عشر قال الإمبراطور الفرنسي الأشهر «نابليون بونابرت»: إن الجيوش تمشي على بطونها، بمعنى أنها تحتاج إلى التمويل من أجل الدخول في معارك حربية، وقيادة قوى عسكرية قادرة على الصد والزود إلى أبعد حد ومد.

هنا يمكننا التساؤل هل كان جزءا من إشكالية أمريكا اقتصادي وهذا ما استدعى دعاة حديث الاضمحلال للظهور من جديد وإشاعة أجواء من المخاوف تتصل بقدرة أمريكا على مواصلة دورها حول العالم.

الشاهد أن هناك العديد من علماء السياسية ربطوا مستقبل أمريكا بأوضاعها الاقتصادية وخاصة العجز المزدوج، أي عجز الميزان التجاري، بمعنى أن أمريكا صارت تشتري من العالم أكثر مما تبيع له، والعجز الثاني عجز الموازنة أي أنها تنفق أكثر من إيراداتها.

ولعل ما لم يورده البروفيسور ناي بالفعل، ويفتح لنا بابا للقراءات المعمقة حول واقع أمريكا، هو مقدار ديونها الخارجية التي وصلت حاليا إلى أكثر من 21 تريليون دولار وهو رقم غير مسبوق في تاريخ كافة الامبراطوريات التي مرت على الإنسانية طوال التاريخ وحتى الساعة.

بحال من الأحوال كان الاقتصاد مدخلا داعما لجماعة تأكيد انهيار القرن الأمريكي، غير انه مثلما واجهت مدرسة بول كيندي عن الاضمحلال نقدا، تواجه هذه المدرسة أيضا انتقادات من جانب خبراء أمريكيين مثل «ايفودالدر»، و«روبرت كاجان»، الذين اعتبرا أن القدرات الأمريكية ما زالت ذات وزن، فالاقتصاد الأمريكي ما زال هو الأكثر ديناميكية في العالم، والدولار هو أقوى العملات الاحتياطية العالمية، ويسعى الناس في أنحاء المعمورة إلى الاستثمار في الدولار لدعم اقتصادياتهم الضعيفة، ومؤسسات التعليم الأمريكية هي الأفضل حول العالم وهي التي تستقطب الطلاب من أقاصي العالم، والقيم السياسية التي ترفع أمريكا لواءها لا تزال قوة التغيير.

عبر كتابه المثير هذا ينضم جوزيف ناي إلى الفريق الذي يفند فكرة الاضمحلال الأمريكي ونهاية القرن، واعتقاده ان الولايات المتحدة ما زالت تملك مقومات القوة مجتمعة الأمر الذي لا تملكه القوى الأخرى المنافسة.

ومثلما حدث في بداية التسعينات بعد اختفاء الاتحاد السوفييتي، ومع نهاية التسعينات من فحص للقوى الدولية مقارنة بالولايات المتحدة، يجري عالم السياسة الأمريكية الشهير بدوره «ريتشارد هاس» رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية في نيويورك، تلك المؤسسة التي لطالما رسمت سياسات وتوجهات بل خطوط طول وخطوط عرض السياسات الخارجية الأمريكية، فحصا للقوى الدولية التي ينظر إليها باعتبار أنها يمكن ان تنافس الولايات المتحدة وتنهي القرن الأمريكي، وينتهي في تحليل مقومات القوة والضعف في كل من هذه القوى، إلى أنها من الصعب ان تمثل تحديا للولايات المتحدة بشكل ينهي القرن الأمريكي.

وعلى الرغم من كل ذلك فإن «البروفيسور ناي» ينبه إلى ان قوة ونفوذ أمريكا، شأن أي قوة أخرى في التاريخ، ليست أبدية، كما أنه يشارك خبراء استراتيجيين مثل بريجنسكي وهاس اللذان يعتقدان في استمار التفوق الأمريكي ولكن هذا مشروط بمعالجة أمريكا لمشكلاتها الداخلية من ديون وتعليم ورعاية صحية وبيئة ونظامها السياسي.

غير ان هناك بعض الإشكاليات الجوهرية التي لم يتعرض لها ناي في كتابه، وهي خطيرة جدا سيما أنها تهدد النسيج المجتمعي الأمريكي، فهو لم يتوقف أمام صعود التيارات اليمينية العرقية، تلك التي تقسم الأمريكيين على أسس من اللون والجنس والدين.

هناك أيضا حلم الحريات الذي يكاد يتلاشى بعد انتشار جمهورية الخوف كما تقول مادلين اولبرايت، ما يختصم من رصيد أمريكا وقرنها.

الخلاصة قد تبقى أمريكا قوية، لكنها لن تكون المهيمن الوحيد على المشهد الدولي.