روضة الصائم

الخــــياطة

09 مايو 2019
09 مايو 2019

اعداد :حمادة السعيد -

هناك حرف وصناعات كثيرة تحدث عنها القرآن، وبينها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صناعات أوصى بها، وصناعات حذر منها. ومن خلال كلماتنا نتعرف على بعض الحرف والصناعات التي ذكرها الله في كتابه، وتحدث عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي تبني المجتمع أو تهدمه، نتعرف عليها حتى نعمل على الارتقاء بمجتمعنا، وإعلاء حاضر أمتنا.

وهذه الحلقات المكتوبة إنما هي إشارات سريعة وعاجلة؛ للفت الأنظار إلى قضية مهمة في زمنِ البطالة حيث توجيه أنظار الباحثين عن العمل إلى المهن والحرف وعدم احتقارها، أو التهوين من شأنها فلقد حث الإسلام على العمل أيًّا كان نوعه، شريطة أن يكون بهذا العمل نافعًا لنفسه والآخرين غير ضار لأحد ،ويكفي هؤلاء الذين يعملون بالحرف والصناعات شرفًا وفخرًا وعزةً وكرامةً أن أشرف خلق الله وأفضلهم وهم الأنبياء والرسل قد عملوا بحرفة أو امتهنوا مهنة، كذلك سنتعرف إلى شخصيات من الصحابة والتابعين والعلماء عرفوا واشتهروا بالحرفة التي كانوا يعملون بها.

ولقد احتوى القرآن الكريم في آياته إشارات واضحة ومباشرة أو ضمنية، تفهم في مجمل الآية إلى بعض الحرف والصناعات كذلك حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وحين يشير القرآن تصريحا أو تلميحا إلى أمر ما فهو أمر مهم وعظيم فالقرآن لا يتحدث عن أمور تافهة ومن الحرف التي أشار إليها القرآن الكريم في آياته هي حرفة «الخياطة».

لقد وردت حرفة الخياطة في القرآن الكريم ضمنيا وجاء ذلك في سورة الأعراف قال الله تبارك وتعالى: «فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ» آية 22 سورة (الأعراف).

وقد أشار إلى أداة من أدواتها في قوله: «إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ» أية40 سورة الأعراف؛ فسم الخياط هو ثقب الإبرة التي يخيط بها الإنسان ملابسه. وقد ورد في الحديث الذي أخرجه الإمامان البخاري ومسلم بسندهما عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: «إنَّ خيَّاطًا دعا رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- لطعامٍ صنعه، قال أنس: فذهبتُ مع رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- إلى ذلك الطعام، فقرَّب إليه خبزًا من شعير ومرقًا فيه دُبَّاء، قال أنس: فرأيتُ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- يتتبَّع الدُّبَّاء من حولِ القصعة، فلم أزلْ أُحبُّ الدُّبَّاء بعد ذلك اليوم». فقد ورد في هذا الحديث مهنة الخياطة وقبول رسول الله دعوته على الطعام.

وأما حول آية الأعراف فيقول عبدالكريم يونس الخطيب في التفسير القرآني للقرآن وفى قوله تعالى: «وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ» إشارة إلى موالاة الخصف من ورق الشجر. والخصف جمع الشيء إلى الشيء، وخياطته به. لقد استجاب آدم لإغراء الشيطان، ولدوافع نفسه للكشف عن هذا السر المضمر في تلك الشجرة، التي نهى عن الأكل منها. فأكل منها هو وزوجه. وهنا تكشفت لهما الحقيقة من أمرهما، ونظرا إلى وجودهما - لأول مرة- نظرة واعية مدركة، فرأيا أنهما على حال من العري، لا تليق بهما. فأخذا يخصفان عليهما من ورق الجنة، ليسترا به عورتيهما.هذا هو الإنسان في أصل فطرته. الحياء أول شعور وجده في كيانه، وستر العورة أول صنيع صنعه ليخرج به عن عالم الحيوان...!

وهنا لمحة للإمام الشعراوي رحمه الله حول هذه الآية في تفسيره يقول «وما حدث لآدم لما خالف منهج ربه، حيث ظهرت عورته: «وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة». (الأعراف: 22). كذلك إنْ خالفت هذا المنهج الإلهي في الدنيا ستظهر عوراتكم لذلك إذا رأيت أيّ عورة في المجتمع في أيّ ناحية: في الاجتماع، في الاقتصاد، في التربية، فاعلم أن حكما من أحكام الله قد عُطِّل، فظهرت سوأة من سوءات المجتمع؛ لأن منهج الله هو قانون الصيانة الذي يحميك وينظم حياتك لتؤدي مهمتك في الحياة». ولكل إنسان يحترف هذه الحرفة له شرف وفخر؛ لأن نبي الله إدريس عليه السلام وهو أوّل نبي بعد آدم عليه السلام كان أول من عمل بها وفي ذلك يقول الشعراوي في تفسيره «إن نبي الله إدريس أول مَنْ علّمه الله غزل الصوف وخياطة الملابس، وكانوا قبلها يسترون عوراتهم بقطع الجلود. وهو أول مَن استخدم النجوم لمعرفة الاتجاهات والأحوال، وأول مَنْ خط بالقلم، هذه يُسمُّونها أوليات إدريس».

وأما آية الأعراف فيقول محمد الأمين في تفسيره المعروف بحدائق الروح والريحان»«إن الذين كذبوا بآياتنا»؛ أي: كذبوا بدلائل توحيدنا، ولم يصدقوا بها، ولم يتبعوا رسلنا «واستكبروا عنها»؛ أي: وتكبروا عن الإيمان بها، والتصديق لها، وأنفوا عن اتباعها، والانقياد لها، والعمل بمقتضاها تكبرا «لا تفتح لهم أبواب السماء»؛ أي: لا تفتح لأرواحهم إذا خرجت من أجسادهم أبواب السماء، ولا يصعد لهم إلى الله عز وجل في وقت حياتهم قول ولا عمل؛ لأن أرواحهم وأقوالهم وأعمالهم كلها خبيثة، وإنما يصعد إلى الله سبحانه وتعالى الكلم الطيب، والعمل الصالح كما قال: «إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه».

وقيل في معنى الآية: لا تنزل عليهم البركة والخير؛ لأن ذلك لا ينزل إلا من السماء، فإذا لم تفتح لهم أبواب السماء، فلا ينزل عليهم من البركة والخير والرحمة شيء.

«ولا يدخلون الجنة»؛ أي: ولا يدخل هؤلاء المكذبون المستكبرون الجنة «حتى يلج الجمل»؛ أي: حتى يدخل ذكر الإبل في «سم الخياط»؛ أي: في ثقب الإبرة، قال الفراء: الخياط والمخيط ما يخاط به، والمراد به في هذه الآية: الإبرة، وإنما خص الجمل بالذكر من بين سائر الحيوانات؛ لأنه أكبر من سائر الحيوانات جسما عند العرب. فجسم الجمل من أعظم الأجسام، وثقب الإبرة من أضيق المنافذ، فكان ولوج الجمل مع عظم جسمه في ثقب الإبرة الضيق محالا، فكذلك دخول الكفار الجنة محال؛ لأن المعلق بالمحال محال؛ لأن العرب إذا علقت ما يجوز كونه بما لا يجوز كونه استحال كون ذلك الجائز، وهذا كقوله: لا آتيك حتى يشيب الغراب،والمعنى: كما يستحيل دخول الذكر من الإبل في خرق الإبرة يستحيل دخول الكفار الجنة».

ولولا الخياط ما كانت هناك حضارة في المجتمع فليتخيل كل منا مجتمعا بلا ملابس تستر عورته، أو عورة زوجته أو عورة بناته ناهيك عن عورات رجالاتها، أو شبابها فهذا هو هدي نبينا فمن اتبع هذا الهدى عاش كريما وكفى بصاحب الحرفة فخرا أن أفضل خلق الله وهم الأنبياء والرسل كانوا يأكلون من عمل يدهم وقد عملوا بحرفة أو امتهنوا مهنة.