أفكار وآراء

عندما ينتقل «التنمر» إلى عالم السياسة!

04 مايو 2019
04 مايو 2019

د. عبد العاطى محمد -

بماذا نسمي ما يجري من عراك عدواني بين السياسيين في بعض دول العالم المعاصر، لا فرق بين كبيرها وصغيرها، أو بين أغناها وأفقرها؟، أليس ذلك هو «التنمر» بعينه، تلك الظاهرة الاجتماعية المنتشرة أساسا بين الأطفال، ولكنها بدأت تأخذ طريقها إلى الكبار وخصوصا بين الخصوم السياسيين.

إن نظرة سريعة على ما نتابعه من أحداث عبر شاشات التلفاز أو شبكات التواصل الاجتماعي تؤكد أن الخصوم يغضون النظر عن موضوع الخلاف الرئيس ويركزون على الاغتيال السياسي للخصم حتى لو كان على حق، ولأنهم لا يتمكنون من الاعتداء البدني فإنهم يلجأون إلى توجيه الألفاظ المهينة والاستفزازية بهدف إحراز الانتصار على الخصم.

وقد يبدو للبعض أن وصف ما يجري بالتنمر افتعال ليس في محله، لأنه ظاهرة اجتماعية بالأساس وخاص بالأطفال وحدهم، ولكن الخلل الرهيب الذى أصاب الممارسات السياسية في عالم اليوم المضطرب تتصدره مظاهر لهذه الظاهرة، والغريب أنها أصابت دولا كانت تصنف على أنها قلاع للديمقراطية أي دول لا تقبل هكذا ظاهرة، مما يجعل فتح النقاش حولها مشروعا، بحثا عن كيفية انتقالها إلى عالم السياسة، ولماذا، وإلى أين تؤدي في المستقبل المنظور.

الكل يعلم أن التنمر ظاهرة عدوانية تنتشر بين أطفال المدارس، حيث يعتدي واحد أو أكثر على زميله أو زملائه بالعنف أو السلوك العدواني، ومن يقومون بذلك يكررونه كثيرا بما يعنى أن له أبعادا نفسية. وغالبا ما يسيء الطلاب الصغار لبعضهم لفظيا أو يكتبون لهم كلاما ينتقص من كرامتهم، أو يلجأون إلى العراك البدني معهم، أو يمارسون ضدهم تمييزا عنصريا، وغالبا أيضا ما تكون وسائل التواصل الاجتماعي أحد الأدوات في ممارسة التنمر خاصة وقد برع أطفال اليوم في استخدام هذه الوسائل. وقد اعتنى علماء الاجتماع والنفس بهذا المرض الاجتماعي وقدموا تفسيرات مختلفة تجعل من طفل ما متنمرا أي عدوانيا على غيره، وذلك ضمن مناهج التربية والتعليم المختلفة.

ولكن دعونا ننظر إلى مشاهد عدة مما يجرى حولنا فى المنطقة والعالم تتسم بالخشونة وتوجيه الاتهامات المتبادلة بالخيانة والعمالة، والحط من المكانة الشخصية كل تجاه الآخر. وعبثا يحاول من يدير حوارا تلفزيونيا بخصوص قضية ما أن يجبر المتحاورين على الاهتمام بالموضوع الرئيس، وعدم تكرار مثل هذه الألفاظ، واحترام قواعد الحوار. ولكن ما يحدث فعلا هو التمادي فى نفس الطريق مما يعنى أن كلا الطرفين متعمد أن يتنمر بالآخر.

وإذا ما كتب شخص ما شيئا على صفحته أو صفة مجموعته تعبيرا عن موقف ما، فإننا نجد أنه يتعرض على وجه السرعة لحملة من الشتائم والإهانات ممن لا يتفقون معه في الرأى، غالبا ما تشتمل الحملات على تهديد بالقتل!. وفي عالم التمييز العنصري حدث ولا حرج، وقد يحدث العدوان بشأنه على أرض الواقع كأن يرفع البعض لافتات تحط من قدر الشخص المستهدف من منطلق عنصري، دينيا أو عرقيا، وقد يحدث أيضا على صفحات شبكات التواصل الاجتماعي.

وربما كان ذلك هينا برغم ما فيه من أذى طالما ظل منحصرا في العراك بين شخصيات خصوصا عندما لا تكون شخصيات سياسية بارزة، ولكن ما هو أخطر أن الظاهرة امتدت إلى الراسخين في السياسة نوابا فى البرلمانات أو رؤساء أحزاب أو نشطاء أو وزراء ومسؤولين بارزين، حيث لا تخلو تصريحاتهم أو كتاباتهم وتغريداتهم من الاستعانة ببعض ما يتضمنه خطاب التنمر، والكل فى ذلك سواء أي كل طرف يفعل ما يفعله الآخر.

والمنطقي أن يؤدي العراك بالتنمر إلى اتساع الفجوة بين المواقف التي يعبر عنها الخصوم بما يعنى إطالة أمد الانقسام والخلاف دون غالب أو مغلوب، وتستمر حالة العبث التي تمر بها العلاقات ليس بين الشعوب فقط وإنما بين الأنظمة السياسية.

الغريب أن من يتمادون فى ممارسة التنمر السياسي بين بعضهم البعض يعتقدون أن ذلك أمرا مشروعا على أساس أنهم يخوضون فيما بينهم حربا سياسية دفاعا عن الإصلاح أو عن الديمقراطية ذاتها!. ولكنهم يتناسون حقيقة مهمة وهي أنه هناك فرق كبير بين ممارسة حق الاختلاف فى الرؤى والمواقف، وبين أن يرافق ذلك اللجوء إلى مفردات وأدوات التنمر. وهنا يثور التساؤل حول الأسباب التى قادت إلى التلاقي عند البعض بين ممارسة حق الاختلاف واللجوء إلى التنمر الذى هو منطقيا يتضاد تماما مع أية توجهات ديمقراطية.

الأمثلة من منطقتنا العربية كثيرة للتدليل على ذلك، وليس من المجدي الاستعانة ببعضها لأنها معروفة للعيان وتكرارها تحصيل حاصل، وربما لا نستغربها في منطقة ساخنة كمنطقتنا مليئة بالمتناقضات والأزمات، ولا تدعي أنها تنافس الدول الأوروبية في مجال الديمقراطية. ولكن دعونا نستشهد بما جرى في بريطانيا بخصوص «بريكست» أو الخروج من الاتحاد الأوروبي. فبعد نحو عامين ونصف العام عاد البريطانيون حكومة ونوابا وأحزابا، بل وشعبا إلى نقطة الصفر. لا يعرفون إذا ما كانوا سيخرجون باتفاق، أم بغير اتفاق، أم لا يخرجون، أم يجرون استفتاء جديدا. ما يعنينا فى هذه المعركة الطويلة والمعقدة ما صدر من خطوات وإجراءات قوبلت كلها بالرفض وسط انقسام واضح للعيان داخل الشعب البريطانى وسياسييه. واجهت تيرزا ماي رئيسة الوزراء خلافا وانقساما داخل حزبها وخرجت منه آمنة بعد أن وعدت بأنها لن تترشح لزعامة المحافظين، وتقدمت بثلاث مشروعات للخروج باتفاق قوبلت كلها بالرفض ولكن وسط انقسام داخل نواب البرلمان أنفسهم، ووصل الحال إلى الحصول على مهلة زمنية جديدة لا أحد يعلم إذا ما كانت ستنجح ماي في تمرير مقترح جديد داخل البرلمان، بينما بدأت الأصوات تتعالى بالعودة مجددا إلى الشعب، وهذا بدوره محل خلاف لأنه يعني إفراط في الديمقراطية لا يجب أن يحدث. وعلى الجهة الأخرى لم يفعل الاتحاد الأوروبي شيئا لمساعدة رئيسة الوزراء البريطانية.

لقد تنمر البريطانيون ببعضهم البعض على كل المستويات وليست المسألة تعبيرا عن الحياة الديمقراطية، ومظاهر التنمر هنا هي اللدد في الخصومة السياسية سواء داخل حزب المحافظين أو بينه وبين المعارضة أو داخل المعارضة ذاتها. فلماذا تنمروا؟

الإجابة تكمن في الخلل الاجتماعي والاقتصادي الذي أصاب البريطانيين نتيجة عقود الاندماج الطويلة داخل الاتحاد الأوروبي، وكذلك نفس الخلل الذي أصاب الاتحاد الأوروبي ذاته. وأدى هذا الخلل في الجانبين إلى خلق حالة اجتماعية تتسم بالقلق على الحاضر والمستقبل، ومن ثم اتجه كل طرف إلى البحث عن الإنقاذ. البريطانيون لا يريدون البقاء فى الاتحاد لأنهم شعروا بأنهم يتضررون من البقاء وغيرهم هو المستفيد، ولكنهم لا يريدون خروجا مكلفا بل آمنا، إلا أنهم لا يعرفون بعد عامين ونصف كيف يتحقق ذلك. ولأنهم غير واثقين فإنهم متربصون ببعضهم إلى حد التنمر. والأوروبيون يخشون تفكك الاتحاد كما لا يريدون خسارة ما كسبوه من وجود بريطانيا فيه، ولذلك يتربصون برئيسة الوزراء البريطانية ويتمنون فشل مشروع الخروج. ومن تابع المناقشات في مجلس العموم لاحظ حدتها الشديدة وتنمر البرلمان ضد الحكومة (سحب المشروع من إدارتها وحصره فى البرلمان)، وتنمر النواب والأحزاب ببعضهم، وباتت الديمقراطية البريطانية فى مهب الريح.

إذا كانت بريطانيا قلعة الديمقراطية هكذا أصبحت مسرحا للتلاقي بين الخلاف السياسي وخطاب وأدوات التنمر، فالمسألة تهون لو تتبعنا ما يجري في فنزويلا، أو تطورات الخلاف بين الولايات المتحدة وإيران. أو ما يجري في ليبيا وسوريا واليمن وأيضا فى العراق وأخيرا في الجزائر والسودان. فسقف القصف السياسي مفتوح، وكل شيء مباح طالما أن الاعتماد على المؤسسات غير مجدٍ، وطالما لم تعد هناك قيمة لتقدير نزاهة العمل السياسي موالاة أو معارضة، وطالما سلاح السوشيال ميديا متاحا لدى الملايين من البشر يفعلون من خلاله ما يرونه يحقق لهم الانتصار على خصومهم.. نحن في زمن التنمر السياسي وليس الاجتماعي فقط. زمان لا يحل الأزمات وإنما يزيدها اشتعالا، ولا يفيد دعاة الديمقراطية في أي مكان لأنه لا يعبر عن أغلبية وأقلية بقدر ما يعبر عن الدخول في معارك سياسية صفرية.