أفكار وآراء

عن حضارة الإسلام وتاريخ المسلمين

03 مايو 2019
03 مايو 2019

إميل أمين - كاتب مصري -

[email protected] -

وقت ظهور هذه الكلمات للنور يكون شهر رمضان الفضيل على الابواب، ما يعطي المرء فسحة من الوقت للهروب من السياسة واشكاليتها الرابضة خلف الباب طوال شهور السنة.

ولعل افضل ما يمكن ان يطالعه المرء في هذه الاوقات من قراءات، انما ذاك المتصل بحضارة الاسلام وبتاريخ المسلمين، سيما وان تلك المنطقة قد تاثرت بدعايات وقراءات غير موضوعية من اصوات العديد من المؤرخين.

غير أن بعض المستشرقين الثقات والأمناء، استطاعوا التصدي لهذه المهمة الصعبة، وفي المقدمة من هؤلاء يأتي المستشرق النمساوي الأشهر «جوستاف ا.فون جرونيباوم»، وكتابه العمدة «حضارة الإسلام»، وقد كان الأستاذ العلامة «احد أولئك المستشرقين الذين هفت نفوسهم إلى دراسة الإسلام، فأخذوا يقلبون فيه الفكر ويمعنون فيه النظر، وإذا هو ينتهي إلى نتيجة مثيرة للتفكر والتدبر من قبل العرب والمسلمين، وربما غيرهم حول العالم، وهي أن العرب اعطوا العالم الإسلامي وما ينزله من بلاد الشرق قرآنه ولغته وعقيدته، ثم تناولوا ما بتلك البلاد من ثقافات وحضارات قديمة فامتصوها وهضموها، وأخرجوها للناس في قالب عربي رائع آخاذ كادت تخفى فيه معالمها الأصلية وأصلها الغريب.

لقد حمل العرب الأمانة عندما جاء دورهم في التاريخ ولئن تناولوا المشعل وحملوه كما حملته سائر الأمم من قبل، فانهم أضافوا إليه أضعاف ما أخذوا منه وزادوا عليه من وهج العقول وضياء الفكر ما يشهد به كتابه سالف الذكر، بل يشهد به التاريخ نفسه.

ولم يكن العالم العربي بالضنين ولا الشحيح بعلمه بل قدم العرب الحضارة والثقافة والعلم على أقصى ما وصلت إليه على أياديهم هدية كريمة ورفيعة الشأن، وهبة سخية جليلة إلى من تلاهم من أمم وأجيال جعلت الحضارة هدفها والعرفان مدار حياتها. اجل لم يضن العرب بعلمهم على احد.

حين نعمد إلى قراءة مثل هذا العمل، فإن الاختيار في واقع الحال ليس عشوائيا، وإنما هو لتبيان الفارق الشاسع بين أمة كانت تحمل الخير والنفع للعالم، وبعض من أبنائها في حاضرات أيامنا، لا يجيدون إلا لغة القنابل والمتفجرات، وسيلة وأداة للخلاص من مغايريهم في العرق أو الدين، وما جرى في سريلانكا خير دليل على ما نقول به.

مثير أمر الكثيرين من مسلمي حاضرات أيامنا، أولئك الذين يضيقون واسعا، فالحضارة الإسلامية تبدو كأنما تلتهم كل شيء صادفته، ولكن الواقع أنها كانت تتخير غذاءها تخيرا دقيقا، فلقد تقبلت بل قلت التمست في الخارج كل مساهمة من شأنها أن تساعدها على الاحتفاظ بهويتها مهما تغيرت الظروف.

ومن ثم فإنها رحبت بفنون الجدل الإغريقية ومنهج التأويل الرمزي، وسيكولوجية الزهد، كوسائل توسع بها دعامتها الأساسية بحيث تتجاوز الحدود المنصوص عليها في التراث الديني، فأخذت بالطرائق العقلية التي دعمت البحث الإغريقي فيما سلف، ويعني بذلك «المقدرة على مناقشة المسائل طبقا لأبواب المنطق الشكلي، وتقدير البحث النظري المجرد، ثم الاعتراف - فوق كل شيء- بعلم دنيوي مستقل تماما عن أي تشيع ديني، وكانت تشجع الكفايات الأجنبية، فالطبيب المسيحي، والرياضي الهندي والإداري، والموسيقي الفارسي كانوا جميعا يستطيعون أن يطمئنوا إلى انهم واجدون التقدير وحسن الجزاء، وكانت تعالج أشكالا دخيلة من التنظيم وكثيرا ما كانت تحتفظ ببعضها.

الكتاب الذي نحن بصدده والذي صدرت ترجمته عن الهيئة العامة للكتاب في مصر ومن ترجمة الأستاذ عبد العزيز توفيق، ومراجعة الأستاذ عبد الحميد العبادي، يلفت إلى أمر جوهري وهو أن الإسلام تمكن إلى حد جسيم بفضل توكيده أن الدين هو الرباط الرئيسي بين الناس، من المحافظة على أواصر الوحدة العقلية في بلاده زمنا مديدا، بعد أن فرق الانحلال السياسي بين أقسامه المختلفة وأشب بينها العداء.

فكان المسلم المتعلم يلقى الترحاب أني حل من البلاد الإسلامية، فالعقيدة والعلم القائم على هذه العقيدة - وان لم ينسجم على الدوام معها – والعربية بوصفها لغة الاثنين معا، أمور حفظت وحدة عالم كانت أحوال الدهر وتقلبات الحظ بالقواد والأمراء تمزق وحدته، كما تدأب أبدا على إعادة تجميعه.

حدث أن ابن بطوطة ( المتوفي 1377م) الرحالة الطنجي الشهير، عين قاضيا في دلهي بالهند أولا، ثم في جزائر مالديف بعد ذلك عندما اتفق أن مر في تلك الأقطار، وهذا ابن خلدون المؤرخ والسياسي العظيم المولود في تونس، ما برح يخدم أمراء متنوعين في شمال افريقيا، حتى أدت به خاتمة المطاف إلى الجلوس قاضيا اكبر في القاهرة.

فإما غير الأتراك الذين استطاعوا بفضل عقيدتهم الإسلامية أن يرتقوا في الدولة العثمانية إلى المناصب العالية بل إلى أعلى المناصب فعددهم يجل عن الحصر.

وان رشيد الدين (المتوفي 1318م) الطبيب الذائع ووزير المغول ليرسل بتعليماته في رسالة له إلى «احد عملائه بآسيا الصغرى في شأن مكافأة علماء بلاد المغرب... الذين كتبوا الكتب تشريفا له، واتحافهم بالمال والهدايا، وكان ستة من هؤلاء العشرة يقطنون قرطبة وإشبيلية وأجزاء أخرى من ارض الأندلس، وأربعة ينزلون تونس وطرابلس والقيروان، فكأن التفرق السياسي لم يكن له حتى ذلك الحين أدنى اثر على اتصال الأفكار.

في هذه الأيام التي ارتفعت فيها أصوات الشعارات الأصولية الفاقعة وعلت الأصوات الراديكالية الزاعقة، ربما ينبغي على العالمين العربي والإسلامي إعادة النظر بل وإعادة قراءة ما كان لهذه الحضارة من أفضال على ما سواها من الحضارات لا سيما الحضارة الغربية، تلك التي كانت أوروبا في ذلك الوقت تعد رائدتها ولم تكن قارات العالم الجديد قد ظهرت بعد على خارطة الأحداث.

كان تفوق المسلمين العلمي والمادي في الشطر الأعظم من العصر الوسيط معترفا به غير منكور إلى حد بعيد. ثم يتناقض ذلك التفوق قرب نهاية ذلك العصر بدخول الشرق في دور الركود الذهني والاضمحلال الاقتصادي، على حين تنهض أوروبا وتتماسك وقد نبهها إلى حد كبير اطراد إلمامها بالعلوم الإسلامية، وقد شهد القرن السادس عشر خاتمة تأثير العرب في الدراسات الأوروبية، وان بقيت منه شوارد متخلفة إلى أوليات القرن التاسع عشر.

يبين لنا البروفيسور العلامة «جوستاف ا.فون جرونيباوم» كيف أن العلماء العرب بوصفهم نقلة للفكر القديم كانوا مصدر الهام قوي للغرب إبان العصر الوسيط. ولم يكن الغرب في بعض الأحيان يكتفي فقط بالتلهف على قبول المادة التي يقدمها المسلمون والتي اصبح في المستطاع الوصول إليها بما تم من تراجم واسعة النطاق، نظمت في أول الأمر في طليطلة على معيار ضخم، وبمساعدة علماء من اليهود، في أوليات القرن الثاني عشر، بل كان (الغرب) يتبنى كذلك الشروح التي وضعها مفكرو العرب لهذه المادة.

ففي القرن الرابع عشر لم تقبل جامعة باريس إدخال دراسة أرسطو إلا مفسرة في شروح ابن رشد، وكان كبار علماء المسلمين ينظر اليهم بعين الرهبة وربما أوتوا ثقة وسلطانا لا سبيل إلى تحديهما.

والثابت انه ليس ثمة ميدان من ميادين الخبرة الإنسانية لم يضرب فيها الإسلام بسهم ولم يزد ثروة التقاليد الغربية فيها غنى. فثمة الأطعمة والأشربة والعقاقير والأدوية والسلاح والدروع ونقوشها والفنون الصناعية والتجارية والبحرية، ثم بعد ذلك الأذواق والموضوعات الفنية، ودع عنك الحديث في المصطلحات العديدة في الفلك والرياضة، فإن قائمة تدل على المدى الكامل لمساهمة الإسلام في كل ذلك تستنفذ صفحات عديدة دون أن تبلغ ولو من بعيد درجة التمام.

ولعله من المثير القول إن نفس وجود العالم الإسلامي كان له اثر كبير في صوغ التاريخ الأوروبي والحضارة الأوروبية، وكانت الحروب الصليبية من كثير من النواحي، اعظم مغامرة اقدم عليها الإنسان في العصور الوسطى وأبعدها أثرا. ذلك أن القصص الإسلامي والأخيلة الشعرية وفلسفة الغيبيات الإسلامية وجرأة المذاهب الصوفية الإسلامية، قد تركت جميعا آثارها ببلاد الغرب في القرون الوسطى.

ولاشك أن اعظم رجال اللاهوت واعظم الشعراء في القرون الوسطى الأوروبية مدينون للإسلام بأكبر الفضل في ناحيتي الإلهام والمادة جميعا.

ألا ترى إلى «توماس اكويناس» كيف يستخدم مذاهب ابن ميمون وابن رشد كما انه يستخدم طريقة الجدل المألوفة عند المتكلمين الإسلاميين، ولا يكاد إنسان يشك في فضل أصحاب الرؤى الحالمين من المسلمين على «دانتي الليجيري» بعد أن ترجمت آراؤهم وذاعت إلى حد ما، وكذلك بذلت جهود شبيهة بهذه في ميداني الكيمياء والتنجيم كان فيها الإسلام هو المعلم، والغرب هو التلميذ الراغب بمحض إرادته، فزادت في عدد الفكرات والخواطر الجديدة التي اشترك فيها الجانبات.

يعن لنا أن نتساءل عند هذا الحد ما الذي جرى بين الشرق والغرب ولماذا جرت المقادير بهذا النوع من المواجهة والمجابهة في فترات زمنية بعينها، ثم أن هناك ومن أسف من يريد إحياء مثل تلك الأجواء غير الخلاقة مرة أخرى، لا سيما أولئك الذين حذروا وانذروا من عالم لابد فيه للحضارات أن تتصارع مرة والى الأبد؟

صاحب هذا العمل الفكري الكبير يضع أيادينا على جزئية تاريخية وإنسانية مهمة قد تعطينا مفتاحا لفهم ما يجري حول العالم، لا سيما وان الغرب احتفظ باستقلاله الروحي على الرغم من ارتباطه الوثيق بالشرق في كل من جانبي الصدق والخطأ. ومنذ القرن الرابع عشر أخذت الحضارتان تتباعدان وتزدادان تباعدا. فتراخت الروابط السياسية والتجارية التي تربط الغرب بصميم بلاد الإسلام. واعتمدت أوروبا على نفسها، مستعيدة في تلك العملية ماضيها الكلاسيكي القديم. فاصبح الاتصال الذهني بالشرق، ترفا بان ظل طويلا حاجة ماسة، وبعد أن كانت الحضارة الإسلامية هي المعلم أخذت تتحول بالتدريج إلى موضوع يدرس.

لكن هل يعني ذلك أن العلاقات انقطعت مرة والى الأبد بين الجانبين؟

بالقطع ذلك لم يحدث، ولن يحدث، وربما يكون هذا منشأ لتفكير مغاير عن قواعد الأصوليات والقوميات المتطرفة، تفكير يحاول أن يجمع لا أن يفرق، وربما يتعين على العالم العربي والإسلامي في الشهر الفضيل هذا إعادة كشف مكنونات حضارة الإسلام التي أثرت العالم.