أفكار وآراء

اقـتصـاديـات الحكـمـة

01 مايو 2019
01 مايو 2019

مصباح قطب -

[email protected] -

صدرت مئات الكتب عن صناعة السعادة واقتصاديات السعادة وانعكاس السعادة على الأداء في المنظمات الحكومية والخاصة بل وداخل البيوت والنوادي. أصبح هناك اختصاصيون في مثل هذا النوع من الدراسات، وأقسام في كليات الاقتصاد، وأصبح هناك تجارب عملية في العديد من الدول ، العربية وغير العربية، وفي شركات عالمية كبرى عبر أرجاء الأرض، في مجال إشاعة السعادة ، واتخاذ ما يلزم من تدابير لضمان وجود الحد الأدنى منها في الوسط المستهدف خاصة إذا كان وسطا كثيف العمالة! ، لكن أحدا لم يدرس بشكل كاف ، ومن باب أولى، في تقديري الحكمة واقتصادياتها، وما توفره على البلد المعنى أو المؤسسة أو الشخص ، من وقت وجهد وراحة بال حال وجودها ، وما يضيع بفقدانها من موارد وعلاقات وربما خرائط وتاريخ وحياة وعمران، ولا يوجد وقت أكثر من الذي نعيشه حاليا تتعزز فيه الحاجة إلى الحكمة والحكماء ، ويتعين على كل الأطراف فيه التحصن بالحكمة، واللوذ بها عند كل منعطف ، وفي أي قرار أو رد فعل. من أراد أن يستلهمها من التراث أو الدين أو السير أو الواقع أو الفكر العالمي والخبرة الدولية ، أو..أو.. ، فليفعل ، ومن لديه مصادر أخرى يستلهم منها فله ذلك ، فالمهم ألا يهملها ، حيث لا يمكن لأحد أن يرتكن إلى ترف الإهمال وسط الحرائق الاقتصادية والسياسية والتجارية التي تهدد العالم والمنطقة. قد لا يحتاج القارئ لبذل أي جهد ليستنتج أن مناسبة هذا الكلام هي قرار الرئيس الأمريكي ترامب بإلغاء الاستثناء الذي كانت الإدارة الأمريكية قد منحته إلى ثماني دول لتتمكن من استيراد النفط من إيران مع فرض عقوبات على الأخيرة اثر إعلان أمريكا /‏‏ ترامب منفردة في مايو 2018 الانسحاب من خطة العمل المشترك من أجل برنامج إيران النووي. ولد القرار دوائر مخيفة من التوتر، وزاد النار اشتعالا أن صحبه توضيحات إضافية لإبعاده من بومبيو وزير الخارجية الأمريكي تؤكد أن هدفه تصفير صادرات إيران النفطية لحرمانها من مليارات الدولارات التي تنفقها - كما قال - على برامج الصواريخ الباليستية ودعم الإرهاب وتقويض الاستقرار في المنطقة والتدخل في شؤون الآخرين. انطلقت من إيران في المقابل تهديدات مرة بغلق مضيق هرمز أو حرمان العالم من كل النفط الخليجي أو إجبار أمريكا على الاتصال بالحرس الثوري - الذي صنفته منذ أسابيع كمنظمة إرهابية - لتستأذنه في دخول الخليج ، أو حتى التلويح بحرب هنا أو هناك. لم يكن كل ما يصدر عن إيران من تلك النوعية فقد مالت أصوات أخرى إلى خطاب عقلاني ، أو أقرب إلى أن يكون كذلك ، لكن المحصلة في النهاية ارتفاع ثم ارتباك في أسعار النفط ، ومخاوف من تأثر الأسواق ونقص الإمدادات ، وارتفاع المخاطر على كل الأصعدة ، وتزايد القلق من أن يؤدي أي خطأ ولو غير مقصود إلى ما لا تحمد عقباه، وأدى القرار أيضا إلى ضبابية عالية وصعوبة شديدة في التنبؤات، فلا أحد يعرف المدى الذي يمكن أن تصل فيه الإدارة الأمريكية للضغط على إيران بعد تلك الخطوة ، أو متى يتوقف الضغط ؟ أو ما هي المرحلة المقبلة ، وهل ستقبل إيران بالمطالب الاثني عشر التي طلبتها الولايات المتحدة للعودة إلى مائدة التفاوض ؟ وهل هناك ما يضمن أن يتم أي تفاوض بالأصل في أجواء كتلك؟ أو يضمن نتائجه والالتزام بها إن حدث؟

أعود إلى موضوع المقال، فلست معنيا بالتوقف الطويل عند قرار ترامب الخاص بنفط إيران ، خاصة وقد حلله الكثيرون ، وإنما أتخذه سببا للحديث عن منافع الحكمة وعوائدها التي لا تقدر بثمن اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا . هناك سيل من الأمثال عن الحمق والحمقى ، ويقابله تيار كبير عن الحكمة وأثرها وكيف أنها ضالة المؤمن ، لكن نادرا كما قلت ما نتوقف عند العائد الاقتصادي بالتحديد لهذا الأمر. سنفترض مثلا أن متخذ القرار بشأن أي عقوبات اقتصادية تفرضها دولة من الدول على أخرى ، أو على تجمع دول ، كان حكيما ، ويعرف بدقة أفضل السيناريوهات التي يحقق بها أهدافه وأقلها كلفة وأعلاها مردودا ، ويعرف أيضا أين توجد مصالح بلاده ومتى يتوقف ومتى يرفع « التون» أو يخفضه ، وكيف يفسح المساحة الأكبر للعقل ومنطقه مهما كانت مغريات الاندفاع أو ضغوط المندفعين ومن ورائهم. تخيلوا مدى المكاسب التجارية والاقتصادية والمعنوية التي يمكن أن يجنيها بلد كذلك وتجنيها معه أمم أخرى كثيرة على كوكب الأرض . إن ذلك نفسه يطرح سؤالا : هل هو حتمي أن يكون الساسة في القوى الكبرى الإقليمية أو الدولية غير حكماء؟ هل تستهين المطابخ السياسية في الدول التي لديها طموحات ولها أدوار كبيرة في النظام الاقتصادي العالمي ، بالحكمة وبالحكماء ولا ترى فيهما سوى أنهما تعبير عن العجز في زمن القوة هذا؟ . هل انتهى زمن الحكمة ولم يعد لدى مطابخ القرار ومطابخ رد الفعل سوى العنف أو التهديد به ؟ . انتقل إلى الجانب الآخر وهم الذين يتلقون القرارات غير الحكيمة هل يصنع فارقا أن يتحلوا بالحكمة في الرد عليها والتعامل معها وامتصاص آثارها أو تغيير دفتها؟ هل إذا طلبنا منهم ذلك نكون بمثابة من يطلب من المظلوم أو يدعى المظلومية أن يكون مطواعا أكثر لظالمه ، أو من يرى انه ظالمه ، أم ننصح بما يفيد الواقع عليه القرارات بأكثر مما يتصور هو أو بمعنى آخر نضعه في الموقف الذي لم يكن من يعاديه يتمنى أن يراه فيه ... موقف المحنك الذي يعرف كيف يفلت من المأزق أو يحول الخطر إلى فرصة أو حتى ينجح بهدوء في تشتيته واستيعابه. ماذا كان سيكون عليه الأمر في هذه الدنيا لو اتسم صناع السياسة في مثل تلك الدول بالحكمة التي نتحدث عنها ؟ وهل تعني الحكمة التنازل أو التفريط في الحقوق؟. أيهما أجدى لأي سلطة تواجه مأزقا عصيبا الصوت العالي والاندفاع الانفعالي والتهويشات البلاغية أم العقل والتروي والتأني. على المستوى الشخصي لم أدرك إلا متأخرا أهمية الحكمة التي تقول « عد إلى ثلاثة قبل أن ترد على خصمك»؟. يبقى سؤالي الأخير هل تعالج الحكمة كل مشاكل الدنيا ؟ لا أستطيع أن أدعي هذا ولكن صاحب العقل « ما بيغلبش» كما كانت أمي رحمها الله تقول ، وكم رأينا في حروب وأزمات وصدمات وأوضاع قاسية كيف أن التصرف الحكيم انقذ الكثير أو منع الكثير من المصائب أو حقق الكثير من المنافع. حماية حقوق الجوار واحترام السيادة وعدم التدخل في شؤون الدول والانتصار للقانون الدولي وللمبادئ الأممية والسعي المخلص لزيادة المصالح المشتركة بين الدول بل وبين مجمل الكوكب الأرضي يمكن توفر منافع أعلى بكثير لكل الدول في رأيي مما يمكن أن توفره الحروب والصواريخ والقاذفات والإرهاب والدجل السياسي والأحادية والتطرف، هذا بافتراض أن كل تلك الأدوات تنجح طوال الوقت أو حتى تنجح من المبدأ.

أشرت كثيرا ، وأشار غيري، إلى أن سلطنة عمان تمثل صوتا حكيما في

السياسة الدولية ، والآن نحتاج ذلك الصوت وكل صوت حكيم بشدة هذه اللحظات .الحكمة يلزمها كل الصدق وكل الشفافية والشجاعة الهادئة حتى تنال الموثوقية والنجاعة. فمن لها؟ .