azza-al-qasabi
azza-al-qasabi
أعمدة

متغيرات الفكر الإنساني ... وظهور الحداثة

10 أبريل 2019
10 أبريل 2019

د.عزة القصابي -

شهد العالم بعد سقوط الاتحاد السوفييتي الكثير من المتغيرات السياسية والاقتصادية التي أثرت في إنتاج المعرفة والثقافات المختلفة في العالم أجمع، وتبلور عن ذلك ظهور النظام العالمي الجديد والتكتلات الإقليمية الكُبرى التي أدت إلى خلل في التوازن الاقتصادي والسياسي والمعلوماتي بين شعوب العالم، وظهور ما يسمى بالدول النامية، وشكّل ذلك ثقافة معلوماتية وإخبارية وفنية جديدة تحكمت في العالم بحسب مصالحها الاقتصادية والمالية، واستطاعت أن تقسمه إلى دول منتجة وأخرى استهلاكية، وأصبح الإعلام والتقنية أداتين مفضلتين لدى السياسيين للسيطرة على المجتمعات الحديثة.

وفي السياق ذاته أثرت تداعيات النظام العالمي الجديد الاستهلاكي في الفنون البصرية التي ساهمت في تشكيل خطاب صوري جديد يمجد ثقافة الاستهلاك، ويسعى إلى طمس هوية الدول التي لها تاريخ وعمق زمني وحضاري.

كما ظهر عدد من المصطلحات الحديثة بفعل التداعيات السياسية والاقتصادية خلال القرن الماضي، أبرزها مصطلح الحداثة وهو واحدٌ من المفاهيم التي استقطبت اهتمام الباحثين في مجالات الأدب والعلوم الإنسانية، ونجم عن ذلك الاهتمام ظهور أفكار وتجارب كثيرة جعلت مفهوم الحداثة محورًا للبحث والدراسة.

وتعود بدايات الحداثة إلى عصر النهضة الأوروبي إلى القرن السابع عشر مع الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت الذي يُعدُّ المؤسس لفكرة منهج مشروع الأزمنة الحديثة علميًّا، والمؤسس للحداثة ذاتها من خلال الكوجيتو «أنا أفكر إذن أنا موجود».

وهناك إشارة إلى أن كلمة «حديث» أقدم من تاريخ «الحداثة»، والمتتبع للتاريخ يجد أن هناك تعاقبًا دلاليًّا بين«القديم» و«الحديث». ولقد أشار موريس باربيي إلى أن كلمة حداثة ظهرت عام 1923م، وتعني كل ما هو حديث.

وبالرغم من أن جذور الحداثة في أوروبا تمتد إلى قرون مضت، إلا أنها لم تأخذ معناها الكامل إلا ابتداء من القرن التاسع عشر. ولقد ساعدت ثورة 1789م على تكوين أسس الدولة البرجوازية الحديثة التي قامت على المركز والديمقراطية ونظام الدولة الدستوري والتنظيم السياسي والبيروقراطي، وكان بمثابة الركيزة التي شكلت مناخات الحداثة عالميا فيما بعد.

هناك ثلاثة أزمنة للحداثة الغربية الحديثة، منها زمن العقلنة السعيدة الذي تحرر الإنسان فيه من هيمنة التقاليد السائدة بهدف نشر العقل والعقلانية على المستوى الكوني. وزمن انبثاق الحداثة الذي يخضع الأفراد فيه لمقتضيات وقوانين ومعايير المؤسسة الحديثة. إضافة إلى زمن عدم اكتمال العقلنة التي يبحث الإنسان فيه عن سبل جديدة لبلوغ المعنى وتحقيق الغايات.

أشار شوبنهاور عام 1818م إلى أهمية الفصل بين العلم والعقل، وأن هناك فجوة أو مساحة بين التقنية والعلم، جعلت الفرد يعمل مستقلا، وهذا بدوره كان سببا كافيًّا لتحلل الأعراف الاجتماعية والأخلاقية والدعوة إلى إطلاق الرغبات، نقرأ: «يجب هدم الأنا ووهم الشعور، ويجب الحذر من وهم النظام الاجتماعي الذي يحمي فقط شهية الإنسان الأنانية».

ويشير مفيد الحوامدة في كتابه «التجريب ومفهوم الحداثة» إلى أن كوت تحدث عن إرهاصات الحداثة التاريخية المتعددة منها: استحداث الأساليب العلمية في القرن السابع عشر، وظهور نظرية داروين العلمية التي قوّضت الفكرة الدينية في القرن التاسع عشر. وما تبع ذلك من ثورات علمية وتقنية، أصبح الإنسان فيها عاملاً مهمًا مع تغير مفهوم الصراع الطبقي في البلدان المتقدمة صناعيًّا.

وأثرت كافة التقنيات العلمية والتقسيم العقلاني للعمل الصناعي في مشروع الحداثة، وأسهمت بوضوح في تفكك العادات وذوبان الثقافة التقليدية، ما أضفى بُعدا جديدا على الصراعات الاجتماعية والأزمات التي توالت خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.

وقد أشار عالم الاجتماع الفرنسي آلان تورين، المهتم بدراسة الحركات الاجتماعية إلى أن الحداثة انتصرت للعقل الإنساني، وهي تؤكد أن قيمة الإنسان فيما يفعله، مع ضرورة وجود توافق وثيق بين إنجازات العلم والتكنولوجيا المرتبطة بالمصالح العُليا.

بشكل عام، تزامنت مراحل الحداثة مع كثرة الحروب الدموية والصراعات القومية والوطنية، وأصبحت الأنا خاضعة لأربع أزمات عميقة هي: «الجناسة، والوطنية والقومية، والاستهلاك، والعمل» التي نخرت نسيج الشعوب والأمم، وكانت سببا في تشظّي المجتمعات في زمن العقلنة التي امتزجت بالنص الفلسفي القائم على الوجود واللوغوس، وهو « لفظ يوناني يعني الكلمة أو العقل أو القانون؛ ويعني عند هرقليطس القانون الكلي للكون، أما عند أفلاطون وأرسطو فهو قانون الوجود وأحد المبادئ المنطقية».

هرولنا سريعا، بغية اللحاق بركب الحداثة، ومحاولة التعرف على نشأتها وتشكلها وانغماسها في بوتقة المتغيرات السياسية والاقتصادية العالمية، والعلوم والمفاهيم الإنسانية والفنية التي تأثرت بها وأثرت فيها. ولا يزال للحديث بقية عن الحداثة وما بعدها. والذي يقودنا إلى فهم الرؤى والأفكار التي يخضع لها الفكر البشري، دون أن يدرك انه واقع فيها في ظل الأنظمة التي تتحكم بحياته وتدير توجهاته.