الملف السياسي

الانتخابات تدخل في الملف الكوري

11 مارس 2019
11 مارس 2019

يسرا الشرقاوي -

ولكن مع هذه الثوابت كلها، ما كان يمكن لترامب أن يقبل بفكرة رفع العقوبات أو حتى تقديم تنازلات من دون التزامات واضحة وسريعة التنفيذ من جانب كيم.

عقب الفشل المدوي للقمة الثانية بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وزعيم كوريا الشمالية كيم جونج أون، تم طرح السؤال المنطقي، ماذا بعد؟ ثم تمت إعادة طرح السؤال ذاته مع مزيد من التوتر عقب كشف صور الأقمار الصناعية عن نشاط في أحد المواقع النووية، ما يعني أن بيونج يانج بدأت أو تحاول أن تبدو أنها بدأت في استئناف نشاطها النووي لمرحلة ما قبل تقارب ترامب- كيم.

هل يمكن للسياسة الترامبية التي اتسمت بكثير من المرونة والتعقل في التعامل مع الملف النووي لكوريا الشمالية أن تنقلب ؟ هل يمكن أن يتحول التقارب الذي أسفر عن قمتين أولهما في سنغافورة يونيو الماضي والثانية التي انتهت بالفشل في هانوي الفيتنامية، إلى مقدمة لمزيد من العقوبات أو حتى مواجهة عسكرية محتملة؟

الإجابة المختصرة، لا. والإجابة الوافية تستوجب مراجعة الثوابت الفكرية والمنهجية التي تقوم على سياسة «أمريكا الترامبية» إزاء كوريا الشمالية وملفها النووي، لفهم «لماذا الإجابة ستكون دوما استبعاد التصادم، مع الإبقاء على احتمال المناوشات العنيفة بين الحين والأخر؟».

أولى الثوابت التي تقوم عليها سياسة أمريكا «الترامبية» هو الانتخابات ثم الانتخابات. فملف كوريا الشمالية والتوصل إلى اتفاق رسمي لإنهاء الحرب في منطقة شبه الجزيرة الكورية التي توقفت معاركها عام 1953 من دون اتفاق نهائي، ويبدو أنه «إرث السياسة الخارجية» الأساسي والمضمون الذي يستهدف ترامب تحقيقه ليكون «رمز» عهده، وذلك على عادة الرؤساء الأمريكيين في التعامل مع قضايا السياسة الخارجية. فمنذ قمة سنغافورة يقوم خطاب الإدارة الأمريكية على تأكيد أن اتفاقا قد تم التوصل إليه، وأن السلام الرسمي وشيك في منطقة شبه الجزيرة الكورية، وأن كوريا الشمالية مقبلة على الانفتاح وأن تصبح « قوة اقتصادية» دولية على حد آخر ما ذكره ترامب في بداية قمة فيتنام الأخيرة.

هذه التأكيدات تقابلها انتقادات مستمرة من جهتين. الجهة الأولى المعارضة الديمقراطية التي ترى أن قمة سنغافورة لم ينتج عنها جدول زمني أو اتفاق مرحلي واضح يمكن القياس عليه لبيان مدى التزام بيونج يانج بمتطلبات التقارب الأمريكي والسلام الوشيك. وزادت من قوة شوكة هذه الجهة، سلسلة التصريحات «المائعة» التي خرجت عن مسؤوليين أمريكيين يتقدمهم وزير الخارجية مايك بومبيو من دون توضيح ما تم إنجازه وما بقي على صعيد نزع سلاح كوريا الشمالية. فرغم تعليق بيونج يانج تجاربها الصاروخية والنووية منذ قمة سنغافورة، إلا أن أي أدلة لم تتوفر على بدء المرحلة الثانية بالوقف الكامل لنشاطها النووي وتفكيك برنامجها بهذا الخصوص.

والجهة الثانية تتمثل في أجهزة المخابرات الأمريكية التي أكدت مرارا على خطورة « التسطيح» في التعامل مع الملف النووي لدى كوريا الشمالية. فمثلا، خلال شهادته المكتوبة حول «التهديدات الدولية» التي تقدم بها نهاية يناير الماضي أمام مجلس الشيوخ الأمريكي، أكد دانيال كواتس، مدير المخابرات الوطنية الأمريكية أنه من المستبعد أن تتنازل بيونج يانج عن برنامجها النووي، موضحا: أن البرنامج يعتبر «ضرورة من أجل بقاء النظام» هناك. وأكد كواتس في شهادته « نرجح أن كوريا الشمالية لن تتنازل بالكامل عن أسلحتها النووية وقدراتها الإنتاجية، وإن كانت قد تواصل التفاوض من أجل النزاع النووي الجزئي بهدف الحصول على امتيازات من جانب أمريكا والعالم الغربي».

مثل تصريحات كواتس تتعارض مع توجه إدارة ترامب لاعتبار التقارب مع كوريا إنجاز متحقق بالنسبة للسياسة الخارجية الأمريكية، ويفترض أن يكون من أبرز الإنجازات التي سيستند عليها ترامب خلال حملته لإعادة الانتخاب في الاقتراع الرئاسي 2020. الاختيار الانتخابي لكوريا أيضا يأتي مقصودا ليتضارب مع إرث السلف الديمقراطي باراك أوباما، الذي من المفترض أنه يتمثل في اتفاق النووي الإيراني مع القوى الدولية الكبرى 2015، الذي انقلب عليه ترامب بإعلان انسحاب أمريكا منه. ونقطة الانتخابات تفضي إلى نقطة التمايز.

جزئية التمايز في تعامل أمريكا الترامبية قائم على أن الملف النووي لكوريا الشمالية يختلف كليا عن غيره من الملفات المشابهة، ما يشجع على سياسة مختلفة عن تلك القائمة على التصادم والعقوبات من دون تفعيل فكرة «الجزرة» للإغواء والترغيب في التصالح. وتلك الرؤية بالتمايز تقوم على ما لخصه، مثلا، وزير الخارجية بومبيو في تصريحه خلال مقابلة مع محطة «سي.بي. أس» الأمريكية منتصف فبراير الماضي، قائلا: « كوريا الشمالية تتعامل بشكل مختلف تماما».

ولكن جهات عدة آخرها منظمة الأمم المتحدة أكدت خطأ أمريكا في التزام مبدأ « التمايز» عند التعامل مع الحالة النووية لكوريا الشمالية. فقد أكد تقرير سري صدر عن الأمم المتحدة، وقامت دورية «فورين بوليسي» بنشر بعض محتواه في23 فبراير الماضي، أن بيونج يانج متورطة في مهام تدريب وتسليح ومتاجرة في المواد النووية. وأن هذه المهام تضمنت عددا كبيرا من الدول بالشرق الأوسط وأفريقيا. لكن صقور الإدارة الترامبية يتعاملون مع هذه الأنشطة من جانب حكومة بيونج يانج على أنها «وجودية» تستهدف الاستمرار وتحصيل دخل مادي على خلفية العزلة المفروضة على بيونج يانج. وأن الحاجة لمثل هذه الأنشطة سيتراجع، إن لم ينته تماما، في حالة التوصل إلى اتفاق وتحرير التعاون الاقتصادي والتجاري بين بيونج يانج والعالم من ثقل العقوبات. فتلك الأنشطة بالنسبة لكوريا الشمالية ليس محركها «إيديولوجي»، أو لتعضيد مركز إقليمي أو دولي بعينه.

وهناك ثابت آخر يساهم في دعم فكرة التقارب مع كوريا الشمالية وتغليبها على فكرة التصادم. وهو دور «المحيط». فالمحيط في حالة كوريا الشمالية لا يحبذ فكرة التصادم ووقوع مواجهة عسكرية. فرغم أن اليابان خرجت في أعقاب إعلان الانتهاء الفاتر لقمة هانوي بمدح ترامب ورفضه التنازل أمام كيم، إلا أن أغلبية القوى الإقليمية مثل كوريا الجنوبية والصين لا تحبذ فكرة العودة للتصعيد. وذلك عامل مهم في توجيه السياسة الأمريكية.

ولكن مع هذه الثوابت كلها، ما كان يمكن لترامب أن يقبل بفكرة رفع العقوبات أو حتى تقديم تنازلات من دون التزامات واضحة وسريعة التنفيذ من جانب كيم. فالمعارضة للمقاربة مع كوريا الشمالية كانت لتتزايد في واشنطن، وكان ترامب ليبدو متساهلا مع أحد العناصر الأساسية في التقارير المخابراتية حول التهديدات الأمنية المتربصة بأمريكا وحلفائها.

لكن فشل قمة هانوي، ثم ورود أنباء حول إعادة النشاط في موقع نووي لكوريا الشمالية يضعف أكثر فأكثر التوجه التصالحي لإدارة ترامب إزاء بيونج يانج. فتصريحات ترامب حول شعوره بـ «خيبة الأمل» ليست هي الأزمة الحقيقة، الأزمة تكمن في ما قاله جون بولتون، مستشار الأمن القومي الأمريكي وصقر الصقور بالتيار اليميني في أمريكا. فقد أكد بولتون أن إعادة النشاط النووي الكوري شمالي لمرحلة ما قبل سنغافورة، قد تعني تصعيدا أكبر لمنظومة العقوبات المفروضة على كوريا الشمالية. الصقور قد يتجدد اهتمامهم بملف كوريا الشمالية، والمعارضة قد تستغل فشل قمة هانوي، وما أعقبها من أزمات في النيل من سياسة ترامب إزاء بيونج يانج. لكن يبقى احتمال مواصلة التباحث وتغليب الخيار الدبلوماسي في إدارة ملف كوريا النووي قائما بفضل مجموع الثوابت المذكورة والتي توجه ترامب أكثر فأكثر مع قرب موسم الانتخابات. قد تستدعي الأوضاع تصعيدا مؤقتا للهجة الرسمية، لكن استئناف بشكل أو بآخر لسياسة التقارب مع كوريا الشمالية مرجح جدا.