أفكار وآراء

روسيا الجديدة والشرق الأوسط القديم

08 مارس 2019
08 مارس 2019

إميل أمين - كاتب مصري -

[email protected] -

واحدة من أهم معالم وملامح التغيرات الجيوبوليتيكية في العالم في أوقاتنا الحاضرة تلك التي تتصل بالنفوذ المتسارع والمتصارع بين القوى الكبرى على منطقة الشرق الأوسط، هذه الرقعة الجغرافية التي كانت وستظل مطمعا للعديد من القوى الكبرى من زمن الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية، وصولا إلى السوفيتية والأمريكية.

والشاهد انه ومنذ سايكس بيكو بدا وكأن الفرنسيين والبريطانيين هم سدنة معبد الشرق الأوسط ، غير أن الوضع تغير بعد الحرب العالمية الثانية، وحتى أوائل سبعينات القرن العشرين، فقد بقى الصراع محصورا بين الروس والأمريكيين، غير انه كذلك وبعد حرب السادس من أكتوبر 1973، بدا وكان حظوظ الروس قد تراجعت وملات الولايات المتحدة غالبية أن لم يكن كل مربعات القوة شرق أوسطيا، ودام الوضع حتى زمن ما اطلق عليه الربيع العربي، وقد كانت نقطة تحول تاريخية في مواقع ومواضع النفوذ الشرق أوسطي.

باختصار غير مخل أظهرت الولايات المتحدة الأمريكية تغيرا مفاجئا تجاه حلفائها التاريخيين، تغيرا أدهش الجميع، وبات السؤال كيف يمكن التخلي عن رفاق درب عاشوا سويا تحالفات استراتيجية عبر أكثر من ثلاثة عقود، وفي وسط وخضم الأزمة، كان الرفيق الروسي يبدو وفيا إلى أبعد حد ومد لأصدقائه القدامى في الشرق الأوسط، الأمر الذي دعا الجماهير العربية لعقد مقاربات أيديولوجية بين الصداقة والتحالف مع واشنطن، والحال مع موسكو، وبلا شك كانت النتيجة تصب في صالح عاصمة القيصر.

هل نحن إذا أمام عودة روسيا إلى الشرق الأوسط من الباب الكبير كما يقال؟

ربما ينبغي الإشارة بداية إلى بعض الجزئيات المهمة في تلك العودة، وفي المقدمة منها أننا في مواجهة روسيا متغيرة غير تلك التي عرفها العالم في سنوات المد الشيوعي .. ماذا يعني ذلك؟

يعني أول الأمر أن روسيا لم تعد تلك الدولة المهمومة والمحمومة بالأيديولوجيا الشيوعية، وتصديرها إلى العالم، أو الدعوة الأممية للثورة كما وضع لبناتها ماركس وانجلز ومن لف لفهم.

الأمر الآخر هو أن روسيا هذه المرة ليست الدولة الكبرى الملحدة التي تعادي الإيمان، وتناصب المؤمنين العداء، لا سيما الأديان الإبراهيمية التوحيدية، فالمسيحية الروسية كانت الحاضنة التي حفظت لروسيا القيصرية قوامها الفكري والتاريخي والأخلاقي، وبالقدر نفسه يعيش نحو 20 مليون مسلم روسي في حرية تامة لمباشرة دينهم وشعائرهم، الأمر الذي تجلى في افتتاح بوتين منذ بضع سنوات أكبر مسجد في تاريخ البلاد على نفقة الدولة.

ولعل ما تقدم يفيدنا بأن الروس كشأن بقية الدول العظمى لا تمضي في دروب الحياة على غير هدى بأن لديها استراتيجيات واضحة يمكن من خلالها التدقيق في سطورها وإدراك اتجاهات الرياح الروسية في الأراضي الشرق أوسطية.

ولأن كل ما تقوم به روسيا يهم الولايات المتحدة الأمريكية بدرجة فائقة؛ لذا كان مركز راند، أكبر وأهم مركز أمريكي يدعم ويزخم وزارة الدفاع الأمريكية، في مقدمة المهتمين بتلك الاستراتيجية، وقد صدر عنه مؤخرا ورقة كبيرة شارك فيها عدد من كبار باحثيه من الخبراء في شؤون المنطقة.

الورقة التي في أيدينا تبين لنا أنه منذ العام 2005 زادت روسيا من انخراطها في الشرق الأوسط بشكل ملحوظ، ففي الفترة ما بين عامي 2005 و2007 زار الرئيس فلاديمير بوتين مصر وإسرائيل والمملكة العربية السعودية والأردن وقطر وتركيا وإيران والإمارات العربية المتحدة.

هذه الزيارات جاءت مخالفة للهمود والجمود النسبيين لسلفه بوريس يلتسين الذي لم يقم بزيارات رسمية للمنطقة، وقد كانت زيارات بوتين لاسرائيل، وقد كانت جهوده أيضا لبناء علاقات مع إسرائيل مؤشرا على تغير كبير عن السياسات السوفيتية السابقة.

لم تكن المسألة الروسية قاصرة فقط على الزيارات الدبلوماسية الرئاسية الروسية، إذ ترافقت الزيارات مع انخراط روسي متزايد في المفاوضات الإقليمية، ويشمل ذلك عملية السلام في الشرق الأوسط، ومفاوضات مجموعة «الدول الخمس زائد واحد» مع إيران والسعي وراء المصالح الروسية الاقتصادية، وتلك التي تتعلق بمجال الأعمال.

يلاحظ المحلل السياسي المحيط تاريخيا بمجريات تلك الفترة أنه في الوقت الذي كانت فيه روسيا - بوتين تعود مرة جديدة إلى الشرق الأوسط بقوة، كانت العلاقات العربية الأمريكية تشهد حالة من الفتور غير المسبوق مع إدارة بوش الابن، حيث كانت وزيرة خارجية الرئيس الأمريكي قد روجت طويلا لمشروعها الذي عرف وقتها باسم «الفوضى الخلاقة»، وهو الذي أدرك الجميع لاحقا أنه الرحم غير البريء الذي تكون فيه لاحقا جنين الفوضى العربية التي انطلقت في تونس في يناير 2011، ولا تزال نيرانها مشتعلة حتى الساعة.

في هذا التوقيت بدا واضحا أن روسيا واعية جدا لما يحدث في الشرق الأوسط؛ لذا فإن التغييرات السريعة والعنيفة التي أدى إليها الربيع العربي في عام 2011، قادت موسكو نحو التخوف من أن تؤدي موجة الثورات الشعبية إلى تغييرات عميقة، يمكن أن تؤثر على مصالحها في المنطقة، ووفقا لما قاله محللون روس، فإن سلوكيات روسيا ومقاربتها تطورت مع الزمن، واستجابة للأحداث في كل بلد، لم تنظر روسيا إلى الربيع العربي على أنه حدث متكامل على امتداد المنطقة، بل عوضا عن ذلك قيمت موسكو التأثير في كل بلد على حدة، مستندة إلى حد كبير إلى كيفية تأثير الاضطرابات على المصالح الروسية.

والشاهد أن الأمريكيين يذهبون إلى أن الحكومات الشرق أوسطية حذرة من النوايا الروسية، ولكن على الرغم من هذه المخاوف، هي تنظر إلى روسيا على أنها بديل مفيد للولايات المتحدة، ويرون أيضا أن الحكومات الشرق أوسطية تستخدم الصفقات السياسية والاقتصادية مع روسيا في المقام الأول كوسيلة لإرسال إشارات إلى الولايات المتحدة، بأنهم يملكون خيارات أخرى.

هل يعني ذلك أن موسكو ساعية إلى تقويض النفوذ الأمريكي مرة وإلى الأبد في الشرق الأوسط ؟

بعيدا عن تقرير راند يمكننا أن نقرر أن هناك حالة من حالات الوعي السياسي العربي عالية المستوى لدى حكومات عربية وشرق أوسطية، حكومات تعلمت درس عدم الاعتماد على حليف واحد مرة وإلى الأبد.

والثابت كذلك أن روسيا مدركة بالفعل تلك التوازنات بشكل جيد، ومن الصحيح أنها قد لا تكون بالضرورة تسعى إلى سلب سلطة الولايات المتحدة في المنطقة، غير أنها تكسب يوما تلو الآخر مربعات قوة جديدة مع دول الشرق الأوسط، وهي دول مركزية وقوية في حد ذاتها، تدفع بالخيارات والمنافع المفتوحة أمامها إلى الحد الأقصى.

يلفت النظر في توجهات روسيا الجديدة لجهة الشرق الأوسط القديم أن الترويج لمصالح روسيا الاقتصادية في الشرق الأوسط وحمايتها هو أحد أكثر أغراض سياسات موسكو في المنطقة اتساقا، ومع ذلك لا بد من الإشارة إلى أن النطاق والسياق مهمان، فالشرق الأوسط يمثل نسبة مئوية صغيرة من مجموع الصادرات الروسية، وليس سوقا مهما بالنسبة للاقتصاد الروسي، ومع ذلك فإن أنشطة موسكو الاقتصادية الإقليمية يقصد منها تحقيق ما يتجاوز الكسب المالي، إن الفرصة الاقتصادية تزود روسيا بحضور ونفوذ إقليمي.

والمؤكد أن التفاعل الاقتصادي بين روسيا وبلدان الشرق الأوسط في تنام، وروسيا هي القوة الدافعة، وهي تدرك مكامن القوة لدى دول المنطقة والفوائض المالية لديها الساعية إلى مساقات استثمارية متوازنة، فقد كانت الإجراءات المالية والبنكية الأوروبية والأمريكية في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر 2001 على سبيل المثال جرس إنذار، استدعى تدخلا لإحداث توازنات في توزيع الاستثمارات، ولتفادي أية ضغوطات سياسية لاحقا.

يعن لنا أن نترك تقرير راند إلى ما كتبته الأستاذة الجامعية «انجيلا ستينت» عبر صحيفة الوول ستريت جورنال الأيام القليلة الفائتة حول روسيا المشغولة بتعزيز علاقاتها بدول الشرق الأوسط، بما فيها حلفاء الولايات المتحدة، وبعد تحرر الروس من الحقبة السوفيتية، وفي ظل الفراغ الذي تتركه الولايات المتحدة في المنطقة.

لم تتعلم أمريكا وإدارة ترامب في تقدير «ستينت»، من دروس إدارة أوباما، وقد نصح هنري كيسنجر ثعلب السياسة الأمريكية، اوباما بألا يفرغ مربعات القوة الأمريكية، أو يخليها من النفوذ الأمريكي سيما أن كل خطوة أمريكية للخلف، يقوم بوتين بملئها إلى الأمام.

في هذا النطاق والسياق أيضا كان لا بد لبوتين أن يعرب عن سروره عندما أعلن نظيره الأمريكي ترامب في ديسمبر الماضي عزمه على سحب القوات الأمريكية من سوريا.

وفي كل الأحوال فإن الخطوة التي يعتزم ترامب القيام بها المتمثلة في الانسحاب من سوريا تعتبر انتصارا كبيرا للرئيس بوتين؛ لأنها تعزز جهوده لجعل روسيا الوسيط القوى الجديد.

تطابق التحليلات السابقة واقع الحال، فقد أضحت روسيا هي القوة الأجنبية الكبرى الوحيدة التي تتحدث إلى جميع الأطراف الفاعلة الرئيسية في المنطقة، مثل إيران ودول الخليج، وإسرائيل وتركيا، والأكراد، والسلطة الفلسطينية، وحركة حماس، وحزب الله اللبناني وسوريا.

منذ أيام قليلة لفتت صحيفة الاندبندنت البريطانية الشهيرة إلى أن روسيا باتت تنافس واشنطن، القمة بالقمة، والمؤتمر بالمؤتمر، وأن العالم بات يشبه ما كان قبل الحرب العالمية الثانية، ففي حين كانت أمريكا وراء مؤتمر وارسو، بدت موسكو راعية للقاء منتجع سوتشي، وأن المؤتمرات التي أقيمت في إطار الشرق الأوسط المتنازع عليه، في بولندا وروسيا، إنما تسلط الضوء على صراع النفوذ ونشاط التكتلات الجيوسياسية في مواجهة بعضها البعض، من أجل السيطرة على المنطقة المضطربة.

ما الذي يتبقى قوله قبل الانصراف؟

المقطوع به أن موسكو وواشنطن لا يزالان ينظران للشرق الأوسط على أنه منطقة نفوذ، وفي كل الأحوال وفي ظل حالة السيولة الأممية الآنية، فإن الصراع مرشح لأن يتزايد، وإن كانت روسيا قد حققت منجزات أكثر، وكسبت مربعات قوة أوسع في حين يتقلص نفوذ واشنطن يوما تلو الآخر، ويفقد الحلم الأمريكي بريقه لصالح روسيا القيصرية.