أفكار وآراء

أوروبا والعالم العربي.. لا للنزاع نعم للتعاون

02 مارس 2019
02 مارس 2019

د. عبد العاطى محمد -

أن يجتمع الطرفان العربي والأوروبي بهدف تعزيز التعاون في كافة المجالات ومواجهة التحديات المشتركة ليس أمرا جديدا، فما أكثرها اللقاءات التي جرت في هذا الإطار على مدى عقود طويلة مضت، وخلالها كان الإنجاز جيدا أو مرضيا على الأقل، ولكن السنوات العشر الأخيرة لم تستمر على هذا الحال، بل شهدت تراجعا بفعل خلافات في المواقف والرؤى حول الأزمات السياسية والأمنية التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط. وفي ظل هذه الخلافات بدت العلاقات وكأنها تتجه إلى النزاع وليس التعاون، الأمر الذي لم تعتد عليه العلاقات العربية الأوروبية في الماضي.

القمة العربية الأوروبية التي احتضنتها مدينة شرم الشيخ مؤخرا لم تكن تتويجا لجهود امتدت طويلا لرفع سقف التعاون بين الجانبين، بقدر ما كانت تعبيرا من كلا الجانبين عن اقتناعهما بأن شرخا قد حدث في جدار التعاون القديم، وأن المخاطر أصبحت مشتركة ولا يمكن تحمل استمرارها؛ ومن ثم يتعين مراجعة المسار لوقف توجه العلاقة من التعاون إلى النزاع، والبحث عن رؤية جديدة للتعاون على أسس من الواقع المعاصر، وليس بتكرار القواعد القديمة.

على غير المعتاد لم يسبق انعقاد هذه القمة زخم إعلامي وتصريحات من المسؤولين في الجانبين تمهد الرأي العام العالمي لأهميتها ولما هو معقود عليها من آمال، وذلك كعادة القمم التي من هذا النوع الموسع. وقد كان ذلك مؤشرا على الصعوبات التي تواجه انعقادها وما يمكن أن تتوصل إليه من قرارات، وعزز من تخفيض سقف الاهتمام والتوقعات أن الاجتماع الوزاري الذي سبق القمة بالتنسيق بين الجامعة العربية والاتحاد الأوروبي لم يصدر بيانا ختاميا فيما كان يشير إلى أن هناك خلافات في كثير من القضايا بين الجانبين، ومن الأفضل ترك تحديد ما هو متفق عليه وما هو موضع خلاف للقمة ذاتها. يضاف إلى ذلك أن فكرة القمة كانت قد ظهرت في القمة العربية الثامنة والعشرين التي عقدت بالبحر الميت بالأردن مارس 2017، ومنذ ذلك الوقت لم ترد أخبارها في وسائل الإعلام لا العربية ولا الأوروبية مما كان يشير إلى فتور الاهتمام بها، إلى أن دبت فيها الحياة سريعا وعلى نحو مفاجئ فالتأمت فعالياتها في شرم الشيخ بناء على ما توصل إليه الاجتماع الوزاري السابق لانعقادها. لا يعني ذلك التقليل من أهمية هذه القمة، بل على العكس تأكيد أهميتها، من منطلق أن كلا الجانبين العربي والأوروبي استشعر ضرورتها بفعل مستجدات سياسية وأمنية طرأت على العلاقات القديمة بينهما بشكل يهدد مسار التعاون ويجعل هذه العلاقات تنزلق إلى مجالات النزاع المختلفة، وبما أن الاجتماع الوزاري كشف وجود خلافات، وبما أن المستجدات تهدد فعليا مصالح الجانبين، فإنه من الضروري عقد القمة على الأقل للحفاظ على الحد الأدنى للتعاون بينهما. فلولا أهمية هذه القمة لجدواها ما جاءت دول الاتحاد الأوروبي (28 دولة) لتلتقي مع الدول العربية، وما كانت قيادات أوروبية بارزة توافق على الحضور، وذلك في قمة هي الأولى من نوعها في تاريخ العلاقات العربية الأوروبية.

ومن أبرز هذه المستجدات ما طرأ على العلاقات الأوروبية الأمريكية بعد وصول الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض سواء فيما يتعلق بتأثير ذلك على العلاقات المباشرة بين الطرفين، أو فيما يتعلق بالسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط. وفي كليهما كان التأثير سلبيا للغاية على مصالح ووجود الدور الأوروبي جنوب البحر المتوسط حيث يشغله عدد مهم من الدول العربية. فمع الوقت شعرت أوروبا أنها تخسر تأثيرها على مجريات الأحداث في المنطقة العربية وأن جنوبها في خطر حقيقي ويتعين وقف هذا الخطر باستعادة علاقات قوية ومتميزة مع المنطقة العربية. لوقت طويل اعتمدت أوروبا على الولايات المتحدة في الحفاظ على مصالحها في المنطقة وذلك بعد أن تخلت عن دورها المستقل. لقد تركت مصير قضايا المنطقة لما يمكن أن تقوم به الولايات المتحدة بدلا منها. حدث ذلك في الأزمة السورية، ومن قبل بالنسبة للتطورات التي لحقت بالعراق، وكذلك فيما يتعلق بقضية السلام في الشرق الأوسط. ولكنها اكتشفت، وفي وقت متأخر، فشل الولايات المتحدة في إحراز أي نجاح في مثل هذه القضايا، بينما كان اللوم يتزايد لأوروبا من الجانب العربي لتأخرها أو تقاعسها عن القيام بدور مهم في أحداث المنطقة، وإلا كيف تطالب العرب دائما بأن يكونوا المبادرين دوما بالتعاون معها. وجاء موقف ترامب الأخير بخصوص سحب القوات الأمريكية من سوريا مع الإبقاء فقط على نحو 200 فرد من هذه القوات ليؤكد أن أوروبا خسرت رهانها، والأخطر أنها فقدت تأثيرها السياسي في ملفات المنطقة الساخنة. ولم تجنِ أوروبا سوى المشاكل التي بات عليها أن تواجهها نتيجة المراهنة الخاسرة على الدور الأمريكي، وكان من أبرز هذه المشاكل الهجرة غير الشرعية إلى أراضيها (ثلثها يأتي من المنطقة العربية)، وكذلك امتداد شر تنظيم «داعش» إلى أبنائها.

ومن جهة أخرى اهتزت العلاقات العسكرية بين أوروبا والولايات المتحدة بعد أن طلبت الثانية من الأولى أن تتحمل تكاليف حمايتها أمنيا، والنتيجة أن أوروبا باتت مترددة إن لم تكن غير قادرة فيما يتعلق بإمكانية قيامها بدور مؤثر في استتباب الأمن جنوب المتوسط.

لم يكن الفراغ الأمني والسياسي الذي حدث جنوب المتوسط نتيجة فشل ثم تراجع الدور الأمريكي فعانت منه أوروبا الكثير من المخاطر هو وحده السبب الذي جعلها تراجع مسار العلاقات مع الجانب العربي وتسعى إلى تعاون مشترك جديد معه، وإنما لأنها قرأت مستجدات الوضع العالمي في مجمله من حيث صعود أدوار دول مثل روسيا والصين والهند وباكستان، فيما يشير إلى تعددية في نظام عالمي لم تتبلور معالمه بعد ولكنه في طور التكوين.

ورأت أن دولا كهذه تفتح مسارات للتعاون مع المنطقة العربية والإفريقية لم تكن واردة من قبل، بينما هي التي ظلت لعقود الطرف الدولي الأكثر جاذبية لدول المنطقتين تفقد فرصها عندهم. والمعروف للكافة أن دول المنطقتين خصوصا العربية اتجهت في السنوات الأخيرة إلى تعزيز أوجه التعاون مع الدول الآسيوية المذكورة سلفا، الأمر الذي بدا وكأنه بديل للتعاون القديم مع أوروبا ردا على تخاذل الأخيرة في مساندة الجانب العربي. وإن لم يكن الأمر على هذا النحو، فإنه على الأقل مؤشر على تنوع قنوات التعاون العربي مع العالم الخارجي وليس التركيز فقط على أوروبا. وضع كهذا يقلق القارة العجوز ويجعلها تفكر على وجه السرعة في ترميم علاقات التعاون مع الجانب العربي على الأقل إن لم تتمكن من استعادة زخمها القديم. من يتوقف عند العناوين الكبرى التي اعتنت بها قمة شرم الشيخ، وعند أبرز ما جاء في البيان الختامي قد يرى أنهما من تحصيل الحاصل بمعنى أنهما لم يشكلا جديدا في متابعة الرأي العام للقضايا التي شغلت الجانبين العربي والأوروبي، وحتى بالنسبة لما صدر من قرارات عن هذه القمة، فيستطيع المرء أن يضع كلمة تعزيز التعاون أمام القضايا المعروفة سلفا وأهمها تعددية النظام الدولي ومكافحة الإرهاب والتطرف والدعوة إلى التسامح ونبذ الحض على الكراهية والعنصرية، ومكافحة الهجرة غير الشرعية، وزيادة التجارة، وحماية المناخ، وصولا إلى تحقيق السلام في الشرق الأوسط من خلال حل الدولتين.

وواقع الأمر لن يتوقف القارئ العربي كثيرا عند بنود القمة أو بيانها الختامي، لأنها بنود وقرارات موسعة وفضفاضة، وغالبا ما لا تكون مقرونة بمواقف عملية يجرى تنفيذها في التو واللحظة، فتلك عادة القمم الموسعة دائما التي تهتم بالأجواء الإيجابية التي تسود اللقاء وبالتفاعل بين القيادات المشاركة، وقد كان ذلك جانبا من النتائج الإيجابية لقمة من هذا النوع تعقد للمرة الأولى (ستعقد الثانية في بروكسل 2022).

ولكن ما لا يمكن إغفاله أن القمة كشفت عدة حقائق، أولها أن أوروبا تجد نفسها اليوم الأكثر احتياجا للتعاون مع الجانب العربي، فلم تأتِ بقادتها إلى شرم الشيخ للمجاملة وإنما لعمل مشترك ولو في حده الأدنى لوقف كل ما من شأنه تعكير الاستقرار في المنطقة العربية، وعليه فإنها ملزمة بتحركات فعلية نحو هذا الهدف. وثانيها عدم الإفراط في التفاؤل، فما لا يمكن إغفاله أن أوروبا منقسمة وكذلك المنطقة العربية ومن الصعب الحسم بأن كل العناوين العريضة التي تضمنها البيان الختامي من المقدر لها أن تتحقق. وليس سرا أن عددا من الدول العربية طالب باقتراحات ولم يتضمنها البيان الختامي مما يعني تحفظها عليه. وثالثها أن القمة نأت بنفسها عن الخلافات رغم إقرارها بها حتى لا تزيد الوضع سوءا وركزت على ما لا خلاف عليه، ولكي تحقق لنفسها المصداقية فإنها مطالبة من الآن وحتى العام 2022 أن تحرز نجاحا، لا نقول كليا بل جزئيا مرضيا للشعوب العربية والأوروبية.