1144926
1144926
إشراقات

جمادى الآخرة.. أحداث تاريخية صـــــاحبت الدعوة الإسلامية

28 فبراير 2019
28 فبراير 2019

عمر بن الخطاب... القائد المربي -

د. صالح بن سعيد الحوسني -

«ينبغي لأجيال اليوم أن تقف مع هذه الشخصية الإسلامية العملاقة متأملة سجاياه الكريمة وصفاته الراقية وأخلاقه العالية فتنتفع من سيرته العطرة ومن أخباره الزاكية ما تحتاجه من قيم لترمم وتعالج ما يكون عندها من انحراف وبعد عن القيم السمحة فإن الأخلاق والقيم هي أساس رقي المجتمعات كما قال القائل: وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا».

بعد وفاة سيدنا عيسى ابن مريم خفت نور الوحي عن البشرية وأصبح العالم في ظلام دامس لا يطاق، ودخلت الوثنية بمختلف أشكالها وألوانها أصقاع الأرض وتوجه الناس لعبادة البشر من دون الله تعالى وأصبح الشيطان فرحا جذلانا يرى نتاج غرسه واجتهاده في الإضلال والإفساد، وتطلع العقلاء للربان المنقذ الذي يمسك زمام البشرية التائهة الحائرة ويردها إلى جادة الصواب ويأخذ بيدها إلى بر الأمان وشاطئ السلامة، ويجمع المؤرخون والكتاب أن الفترة التي سبقت مبعث النبي صلى الله عليه وسلم هي أسوأ الفترات انحرافا وظلما وطغيانا في تاريخ البشرية؛ ولما أراد الله للبشرية الخير والسعادة والهداية بعث عبده ونبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالدعوة السمحة والتعاليم الراقية والمعاني السامية فتبدلت النفوس وتغيرت المعالم وارتدت البشرية حلة الكرامة من جديد وعاد لها اعتبارها ومكانتها اللائقة بها.

ولم تكن مهمة النبي الخاتم سهلة ميسورة لأن تغيير النفوس وتبديل العادات أمر في غاية الصعوبة ومع ذلك تكللت تلك الجهود العظيمة بالتوفيق والتأييد من لدن المولى الكريم فكان نتاجه جيلا قرآنيا فريدا استحق الثناء والذكر من عند الله تعالى كما قال تعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا، سيماهم في وجوههم من أثر السجود، ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل..)، ومن أولئك الرجال العظماء الذين تخرجوا من مدرسة النبي الخاتم سيدنا عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبدالعزى القرشي، وأمه هي حنتمة بنت هاشم المخزومية، وهي أخت أبي جهل، وكناه النبي صلى الله عليه وسلم بأبي حفص، وقد لقب بالفاروق لأنه فرق بين الحق والباطل، وكانت ولادته بعد حادثة الفيل بثلاث عشرة سنة، وقد أعز الله به أمة الإسلام ودخل في دين الله تعالى بعد ست سنوات من مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن سبع وعشرين سنة، وكان رضوان الله عليه طويل القامة أبيض البشرة ذا صوت عال من رآه هابه لقوة شخصيته.

وقد نشأ سيدنا عمر منذ طفولته وصباه على معالي الأمور فعمل برعاية الأغنام في سنيه الأولى لوالده وخالته، وتعلم الفروسية، والمصارعة، وركوب الخيل، وكان ممن يجيد القراءة، كما أنه تعلم التجارة في أسواق عكاظ، وذي المجاز حتى جنى منها مالا وفيرا أهلته أن يكون من أثرياء مكة في حينها.

وتعددت الروايات التي تصف ظروف دخوله في الإسلام؛ ومما جاء أنه كان شديد البغض للدعوة الجديدة وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أن ينصر الإسلام بإسلام أحد الرجلين عمر بن الخطاب أو أبي جهل، فكان دخوله في دين الله تعالى نصرا وعزة ومنعة للإسلام وأهله، ونكبة ونكسة للشرك وحزبه حتى إن قائلهم يقول حينما أسلم عمر: الآن انتصفنا لشدة شكيمته وقوته في المبدأ وعزيمته التي يعجز عنها أشاوس الرجال والأبطال؛ والناس ألف منهم كواحد وواحد كالألف إن أمر عنا.

وإن أردنا أن نقف مع هذه الهامة العظيمة والشخصية الإسلامية الرصينة فإن أول ما يستوقفنا من شخصيته هي أخلاقه الكريمة وسجاياه النبيلة وشمائله الطيبة، كيف لا وقد استقى كل ذلك من بحر أخلاق النبوة الذي وصفه العليم الخبير بقوله: (وإنك لعلى خلق عظيم)، فتبدلت تلك الغلظة والشدة بالإسلام العظيم وتهذبت تلك الصفات فكان معدودا من أفاضل الصحابة خلقا وورعا وتقىً، فكان مضرب المثل في الإيمان بالله تعالى والخوف منه، فما يكاد يستمع آي القرآن إلا وتتحدر الدموع من عينيه خشية وخوفا من جلال الله تعالى وتأثرا بما يكون في تلك الآيات من وعد ووعيد وقصص وأمثال وأخبار وأوامر ونواهٍ، بل كان كما يقال إن كثرة البكاء قد أحدثت أثرا في وجهه، ولم يكن إيمانه إيمان الغافلين المشتتين وإنما كان إيمانا راسخا يزيد على رسوخ الجبال حتى إن الشيطان كان يفر من المكان الذي يمر فيه عمر رضوان الله عليه.

وأما عن أخلاقه مع الناس فكان متواضعا عزيز النفس بل وصل به الحال أن يعمد إلى تذكير نفسه أمام الناس بحالها، وقيامه ببعض المهن والأعمال التي قد يأنف منها بعض الناس مع كونه خليفة المسلمين ومن ذلك ما يرويه الزبير بن العوام أنه قال: رأيت عمر بن الخطاب على عاتقه قربة ماء، فقلت يا أمير المؤمنين لا ينبغي لك هذا، فقال: لما أتتني الوفود سامعين مطيعين دخلت نفسي نخوةٌ فأردت أن أكسرها، بل كان لا يستنكف عن خدمة المسلمين لما ولي الخلافة فقد كان يباشر بنفسه أحقر المهن ومن ذلك علاجه لإبل الصدقة والتي هي توضع في بيت مال المسلمين وينفق منها على الأيتام والمساكين والأرامل فكان عمر يدهنها بنفسه وطلب من الأحنف بن قيس معونته فسأله الأحنف أن يترك هذا العمل لأحد العبيد فلم يقبل عمر رضي الله عنه وقال: وأي عبد هو أعبد مني ومن الأحنف؛ إنه من ولي أمر المسلمين يجب عليه لهم ما يجب على العبد على سيده، وهكذا كان شأنه رضوان الله عليه في تهذيب نفسه وتقويمها حتى عندما يكون في غفلة عن أعين الناس ومن ذلك ما يرويه أنس بن مالك أنه قال: سمعت عمر بن الخطاب يوما وخرجت معه حتى دخل حائطا، فسمعته يقول وبيني وبينه حائط وهو في جوف الحائط: عمر بن الخطاب أمير المؤمنين.. بخ بخ، والله لتتقين الله يا ابن الخطاب أو ليعذبنك، وبلغ من زهده وقناعته وعفافه رغم أن الأموال تساق إليه أنه كان لا يلبس أفضل مما يلبسه عامة الناس بخلاف ما جرت عليه عادة الملوك والحكام بل كان كما يروى عنه يلبس المرقع من الثياب حتى قال أنس بن مالك في ذلك: رأيت عمر بن الخطاب وهو يومئذ أمير المؤمنين، وقد رقع بين كتفيه برقاع ثلاث؛ لبد بعضها فوق بعض.

وأما عن عدالته ورحمته بالرعية فله مواقف كثيرة منها ذلك لأن العدل هو أساس الحكم وشعار دوامه ومتى ما اختل ركن العدل انتثر عقد الدولة وانفرط شأنها وتداعت أحوالها، ومن هنا فإن عمر بن الخطاب قبل خلافته وأثناءها كان مضرب المثل في العدل والإحسان بين الرعية لا فرق عنده بين شريف وحقير أو حر وعبد أو كبير وصغير والشواهد على هذا كثير جدا منها أنه كان يحاسب الأمراء والعمال والولاة على الأمصار والمدن فلم يكن يسمح بالظلم أبدا بل كان شديدا في العقوبة لمن يعتدي ويظلم الناس من الولاة فقد روي عنه قوله: أيما عامل لي ظلم أحدا فبلغتني مظلمته فلم أغيرها فأنا ظلمته، ومن ذلك أيضا تلك القصة المشهورة عندما تسابق ابن عمرو بن العاص والي مصر مع أحد أبناء مصر فضربه ابن عمرو بن العاص فجاء إلى المدينة يشتكي ابن عمرو الذي ضربه، لأمر عمر بحكمه العادل بأن يقتص من ابن عمرو وضربه المصري كما فعل به حتى قال عمر تلك المقولة العظيمة: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا.

وكان من شأن عمر في دعوته إلى الخير أنه لا يقتصر على دعوة عامة الناس ويهمل أهل بيته فقد كان متابعا لهم حريصا على استقامتهم فعندما يأمر عامة الناس بشيء أو ينهاهم عن شيء يأتي إلى أهل بيته ويجمعهم ويشدد عليهم ويقول: إني نهيت الناس عن كذا أو أمرتهم بكذا، وإن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، وأيم الله لا أجد أحدا منكم فعل ما نهيت عنه أو ترك ما أمرت به إلا أضعفت له العقوبة مرتين.

ومع تلك الصفات العظيمة والنوايا المخلصة والهمة العالية كانت سنوات حكمه فتحا عظيما للإسلام وأهله فقد تم في عهد إنشاء الدواوين ويقصد بها هنا أجهزة الدولة الإدارية التي تتكفل بالقيام بالأعمال الإدارية والمالية والعسكرية والتي لم تكن موجودة سابقا؛ كديوان الجيش الذي يحفظ فيه سجل أسماء الجند وديوان العطاء وديوان الجباية وبيت المال، ونحوها والذي دفع لذلك نمو الفتوحات واتساعها وكثرت الغنائم التي تساق إلى بيت مال المسلمين، ومن تلك الفتوحات العظيمة في عصره فتوح بلاد فارس وغيرها.

والذي ينبغي لأجيال اليوم أن تقف مع هذه الشخصية الإسلامية العملاقة متأملة سجاياه الكريمة وصفاته الراقية وأخلاقه العالية فتنتفع من سيرته العطرة ومن أخباره الزاكية ما تحتاجه من قيم لترمم وتعالج ما يكون عندها من انحراف وبعد عن القيم السمحة فإن الأخلاق والقيم هي أساس رقي المجتمعات كما قال القائل: وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا.