أفكار وآراء

الصين منافس قوي وعنيد في الحرب التجارية

27 فبراير 2019
27 فبراير 2019

رشا عبدالوهاب -

أن الوضع المالي للصين أكثر قوة ويمكنه تعويض الشركات والأعمال التي تخسر بسبب الحرب التجارية، على العكس من الحكومة الأمريكية التي تواجه عجزا ماليا كبيرا تصل نسبته إلى حوالي 4 بالمائة من إجمالي الناتج القومي، والذي من المتوقع أن يزداد خلال السنوات المقبلة. الصين أيضا أكبر «دائن» للولايات المتحدة، فهي تستطيع تقليص حيازاتها الضخمة من سندات الخزانة الأمريكية التي تبلغ حوالي 10 تريليونات دولار، مسجلة أعلى مستوياتها منذ أكتوبر 2017.

«تظاهر بالضعف عندما تكون قويا، وبالقوة عندما تكون ضعيفا».. هذه إحدى نصائح المعلم الصيني صن تزو في كتابه «فن الحرب»، الذي يعتبر مرجعا وملهما لقادة العالم، وفي مقدمتهم الزعيم الصيني ماو تسي تونج، ومن تلاه في سلم القيادة حتى الرئيس الحالي شي جين بينج.

شي يواجه حاليا حربا شرسة مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، قرر الأخير إشعالها عن سبق إصرار وترصد، فمنذ 2014، هاجم قطب العقارات الصين على تويتر قائلا إنها «ليست صديقة للولايات المتحدة»، ومع صعود أسهمه كمرشح الجمهوريين في انتخابات الرئاسة الأمريكية في 2016، وضع ما وصفه بانتهاكات الصين التجارية كأولوية حيث أكد أنه لن يسمح لبكين «بسرقة بلاده»، وذلك على حد تعبيره.

وفي يناير 2018، اشتعلت حرب «التعريفات الجمركية»، وعندما يتعلق الأمر بالحرب التجارية ضد الصين، فإن الرئيس الأمريكي يلوح بالعصا الغليظة، ويستخدم تشريعا يسمح له بعمل أحادي الجانب بدون أن يضطر إلى الخضوع لقيود المعاهدات أو اتفاقات منظمة التجارة العالمية، وهو البند 301 من قانون التجارة لعام 1974، والذي يعتبر واحدا من أشرس أسلحة الضغط على بكين. واستغل ترامب تقرير روبرت لايتهايزر المفوض التجاري الأمريكي، الملقب باسم جنرال الحرب التجارية، من أجل إطلاق الرصاصة الأولى في هذه الحرب. وقال لايتهايزر، في تقريره المكون من 53 صفحة، إن الصين لم تغير سياساتها غير العادلة والتمييزية. ترامب وصف نفسه بأنه «رجل الرسوم الجمركية» من أجل إجبار هؤلاء الذين «ينهبون الثروات الكبرى لأمتنا» على «دفع الثمن».

لكن موقف الصين كان ذكيا دائما، فهي ليست خصما ضعيفا بل منافسا قويا وسياسيا عتيدا. لجأت بكين إلى سياسة «الشد والجذب»، وبدأت تطلق رصاصاتها في وجه ترامب، فلكل فعل رد فعل، فبمجرد إعلانه عن تعريفة على الخلايا الشمسية وأنواع معينة من الغسالات، احتجت بكين، وبعدها اتخذ قرارا بتعريفة بنسبة 25% على الصلب و10% على الألمنيوم باعتبار أن الصناعتين مهمتان بالنسبة للأمن القومي الأمريكي، فردت بكين بفرض تعريفة على ما قيمة ثلاثة مليارات من البضائع الأمريكية، وهكذا.

وبين هذا الشد والجذب حتى مرحلة إعلان هدنة التسعين يوما التي توصل ترامب وشي بعد «عشاء رائع» على هامش قمة العشرين في بوينس آيريس، تواصلت الاجتماعات والمفاوضات بين الجانبين على مدار 7 أشهر، حتى تم التوصل إلى ملامح عريضة للتخفيف من حدة النزاع التجاري، كما تحب أن تسميه الصين.

«لا يوجد فائز في هذه الحرب».. جملة اعتاد المسؤولون الصينيون على تسويقها من أجل التحذير من خطورة هذه الحرب التجارية الأقوى في الألفية الثالثة، وحذر وزير التجارة الصيني تشونج شان من أنها «لن تجلب سوى كارثة للصين والولايات المتحدة والعالم».

بينما أطلق جاك ما رئيس مجموعة علي بابا، الشركة الآسيوية المدرجة الأعلى قيمة في العالم، صيحة تحذير كبرى من هذه الحرب، ووصفها بأنها «أغبى شيء في هذا العالم». وفند جاك ما العلل التجارية التي يشكو منها ترامب، والتي دعته إلى إطلاق هذه الحرب، فقال إن العجز التجاري الأمريكي مع الصين ساهم في خلق وظائف في الولايات المتحدة، ولولاه لوقعت البلاد في مشكلات كبيرة.

الرئيس الصيني شي جين بينج طالب مسؤولي الحزب الشيوعي إلى اليقظة في مواجهة «البجع الأسود» أو التأثيرات الاقتصادية السلبية غير المتوقعة، وكذلك إلى الحذر في مواجهة «وحيد القرن الرمادي» أو ما يعرف بالأخطار التي يتم تجاهلها إلى اللحظة التي تتضخم فيها ولا يمكن احتوائها. ودعا إلى مساعدة الأعمال الصغيرة ودعم الشركات لحماية الوظائف، وترك «الشركات الزومبي» الخاسرة لتوجه مصيرها. شي شدد على أن موقف الصين قوي، وأن باستطاعتها التعامل مع أي تحديات، وإنها ستحمي بقوة مصالحها، لكن لم ينس أن الحوار يمكن طرحه أيضا كحل بديل على الطاولة.

وفي 24 سبتمبر 2018، أصدرت الصين الورقة البيضاء تحت عنوان «الحقائق وموقف الصين إزاء النزاع التجاري الصيني - الأمريكي» ذكرت فيها أن الولايات المتحدة اتخذت إجراءات حمائية تجارية متشددة قوضت النظام الاقتصادي العالمي.

وعددت الورقة البيضاء أضرار الحرب الأمريكية منها أنها تسببت في حدوث أضرار للعلاقات التجارية والاقتصادية بين البلدين والعلاقات التجارية حول العالم، كما عطلت سلسلة القيمة العالمية والتقسيم الدولي للعمل، وأربكت توقعات السوق، وأدت إلى تقلبات عنيفة في الأسواق المالية وأسواق السلع على المستوى الدولي. لقد باتت هذه الإجراءات المصدر الأكبر لعدم اليقين والخطر الذي يواجه تعافي الاقتصاد العالمي. وحذرت من أنه بفضل العولمة الاقتصادية، فإن الاقتصادات، لا سيما الكبيرة منها، مترابطة إلى حد كبير. وفي نهاية المطاف، فإن الحروب التجارية التي بادرت بها الإدارة الأمريكية من جانب واحد لن تؤذي فقط الاقتصادات الأخرى بل ستقوض المصالح الأمريكية كذلك.

وعلى الرغم من هذه الحروب الضروس، إلا أن الصين ما زالت أقوى ثاني اقتصاد في العالم، و«وحش» الأسواق الناشئة. بكين وضعت خطة «صنع في الصين 2025» من أجل الهيمنة على سوق التكنولوجيا المتقدمة خلال السنوات الخمس المقبلة، الصين ما زالت الأولى في تحديث وتصنيع التكنولوجيات المتقدمة، وفي مقدمتها الجيل الخامس أو G5، والذي يعتبر ثورة حقيقية في اتجاه الاقتصاد الرقمي عبر تنفيذ تقنيات حديثة مثل السيارات ذاتية القيادة وإنترنت الأشياء، الجيل الجديد من الاتصال اللاسلكي التي يمتلك إمكانات تغير كل أشكال الحياة من الأنظمة البنطية إلى مجال الأدوية إلى المدن الذكية. وباستغلالها فن الحرب، تسعى الصين إلى الفوز عبر تنويع البدائل للسوق الأمريكية، فهي تكون تحالفات مع أعداء أمريكا، مثل روسيا، وتتزعم الدول الناشئة في تحالفات مثل «بريكس»، التي تضم البرازيل وروسيا والهند وجنوب أفريقيا، ورابطة دول جنوب شرق آسيا «آسيان».. إلى جانب إحيائها مشروع «طريق الحرير» الذي يربط قارات العالم القديم، وبعد تولي ترامب السلطة، سعت الصين إلى إبهار الأوروبيين من ساسة وشركات عبر تحسين إمكانات الوصول وشروط الاستثمار في سوقها. وذلك في وقت، يواصل فيه الرئيس الأمريكي نسف الاتفاقات الأمريكية الراسخة، وسياسته الانعزالية وفروض شروطه بحثا عن اتفاقات ليحقق وعده الانتخابي الذي رفع شعارات «أمريكا أولا» و«صنع في أمريكا».

ويعتقد الرئيس الأمريكي أنه سوف يفوز في حربه التجارية مع الصين، لكن الحقيقة أن بكين هي الرابحة خصوصا أنها تبيع للولايات المتحدة أكثر مما تستورد منها، وهكذا فإن موقفها اقتصاديا وسياسيا أقوى مما قد تشير إليه الحسابات البسيطة للبيت الأبيض. وبلغ حجم الواردات الأمريكية من الصين حوالي 506 مليارات دولار، وهو ما يعادل 4 أضعاف الواردات الصينية من أمريكا (131 مليار دولار). الأهداف الصينية من الحرب ستكون أفضل، فهي تتضمن في البداية صادرات الطائرات المدنية الأمريكية التي تقدر بقيمة 16 مليار دولار، وانخفضت أسهم شركة بوينح الأمريكية حوالي 7% في بعد أن ردت الصين على الرسوم الجمركية التي فرضتها واشنطن بفرض رسوم مماثلة على عدد من الواردات القادمة من الولايات المتحدة من بينها الطائرات، لكن خطوط الطيران الصينية تتوسع بسرعة لدرجة أن بوينج الأمريكية ربما ترغب في خفض الأسعار اعتمادا على المبيعات هناك، لدرجة أن تكاليف أيا من هذا الرسوم لن تقع على الصين، وإذا تواصلت الأزمة فإن الصين لديها بديل أوروبي موثوق فيه، ألا وهو شركة «أيرباص» الأوروبية.

الصين لديها مساحة أكبر لتخفيف أي تأثير اقتصادي سلبي أكثر من إدارة ترامب، فعلى العكس من بنك الاحتياطي الفيدرالي «المركزي الأمريكي»، فإن البنك المركزي الصيني ليس مستقلا، ويمكنه خفض سعر الفائدة لدعم الطلب المحلي في حالة الضرورة. ورفعت الصين سعر عملتها بشكل كبير منذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض، ويمكنها أن تخفض سعر الرينمبي «وحدته اليوان»، لتجعل الصادرات الصينية أكثر تنافسية.

كما أن الوضع المالي للصين أكثر قوة ويمكنه تعويض الشركات والأعمال التي تخسر بسبب الحرب التجارية، على العكس من الحكومة الأمريكية التي تواجه عجزا ماليا كبيرا تصل نسبته إلى حوالي 4 بالمائة من إجمالي الناتج القومي، والذي من المتوقع أن يزداد خلال السنوات المقبلة. الصين أيضا أكبر «دائن» للولايات المتحدة، فهي تستطيع تقليص حيازاتها الضخمة من سندات الخزانة الأمريكية التي تبلغ حوالي 10 تريليونات دولار، مسجلة أعلى مستوياتها منذ أكتوبر 2017 . ترامب لا يمتلك استراتيجية للتعامل مع الصين، فالمسؤولون الصينيون أكثر ذكاء من ترامب، فهم بلا شك سوف يقدمون تنازلات شكلية من أجل إنهاء هذا النزاع.