أفكار وآراء

منظمة الآسيان نموذج للتكامل الاقتصادي

26 فبراير 2019
26 فبراير 2019

عوض بن سعيد باقوير -

صحفي ومحلل سياسي -

الجامعة العربية وهي المنظمة الإقليمية الأقدم في العالم لم تستطع إيجاد ذلك التكامل الاقتصادي خلال مرحلة ما بعد الاستقلال والتحرر وانسحاب الاستعمار البريطاني والفرنسي من المنطقة، ولعل ما شهدته دول جنوب شرق آسيا من حروب مدمرة وضحايا يفوق كثيرا ما حدث في المنطقة العربية، ورغم ذلك فإن النموذج العربي لم ينجح من خلال المنافسة على النفوذ ومحاولة فرض السياسات لكل بلد على الآخر وعدم وجود رؤية ملموسة لإيجاد التطور الحقيقي.

منذ قيام رابطة دول جنوب شرق آسيا في الثامن من أغسطس عام 1967 في العاصمة التايلاندية بانكوك والمنظمة رسمت لنفسها أهدافا واضحة تركز على التعاون الاقتصادي والتنمية والتبادل الثقافي وإيجاد آليات محددة لفض النزاعات، من خلال الحوار والمفاوضات، ووضعت القضايا السياسية بعيدا عن الهموم الأساسية وهي نهضة دول الرابطة خاصة وان معظم دول إقليم جنوب شرق آسيا خرجت من حروب مدمرة وانقسام سنغافورة وماليزيا الى دولتين والحرب في الفلبين وكمبوديا ولاوس فيما ظلت الحرب المدمرة مستمرة في فيتنام حتى النصف الأول من عقد السبعينات من القرن الماضي.

كان الوضع الاقتصادي لدول الرابطة عام 1967 مزريا وضعيفا ومن الصعب تخيل تلك الحالة الصعبة التي كانت عليها دول مثل تايلاند وسنغافورة والفلبين واندونيسيا وماليزيا وهي الدول المؤسسة لرابطة جنوب شرق آسيا، ورغم ذلك فقد حققت تلك الدول ومن خلال رؤية منظمة الاسيان خلال خمسة عقود ما يمكن تسميته بالمعجزة الاقتصادية والتي نراها الآن رأي العين.

بعيدا عن السياسة

تضم رابطة جنوب شرق آسيا عشر دول وكانت أهدافها واضحة وهي الدفاع عن القومية الآسيوية والتعاون الحكومي الدولي وتسهيل التعاون الاقتصادي والسياسي والأمني والعسكري والتعليمي والاجتماعي والثقافي بين أعضائها وبين الدول الآسيوية الأخرى وعلى الصعيد العالمي أيضا.

وعلاوة على الدول المؤسسة الخمس المشار لها انضمت دول أخرى مثل بروناي وكمبوديا ولاوس وماينمار وفيتنام، ولعل الأهداف الكبرى للرابطة كان إيجاد رؤية واضحة للازدهار الاقتصادي من خلال جملة من الأهداف التي تم التركيز عليها وتنمية دول لا تمتلك الموارد الطبيعية الكبيرة ودول أصبحت مدمرة من جراء حروب جنوب شرق آسيا بسبب الدول الاستعمارية آنذاك مثل بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، ومن هنا كان التركيز على الاقتصاد والتنمية والتعاون في المجالات الإنسانية والثقافية وإعطاء ملمح إيجابي لدول الرابطة حول العالم كدول محبة للسلام بعيدا عن الصراعات وان تكون هناك آليات تفسح المجال لحل النزاعات بين الدول الأعضاء والتي جاءت نتيجة تلك الحروب القاسية.

كانت الأولوية للاقتصاد والتكنولوجيا والتعليم والصناعات المختلفة وتدريب الملايين من الأجيال الجديدة على التقنية ورفع الإنتاجية والمثابرة في العمل والابتكار من خلال رؤية تبنتها دول الرابطة خلال الخمسة عقود الأخيرة، ولعل ما حدث كان أمرا غير متوقع حيث توجد الآن النمور الاقتصادية الآسيوية والتي خرجت منتصرة على التخلف والدمار من خلال أراده جماعية وتصميم على الانتقال بهذا الإقليم أو الجزء الأكبر منه الى حالة من التطور الاقتصادي ومرحلة التكامل والذي أصبح الآن حقيقة واقعية، ومن هنا فإن تجربة رابطة دول جنوب شرق آسيا هي تجربة ونموذج يحتذى للمنظمات الإقليمية الرائدة.

ومن خلال عدم الاستغراق في الهموم السياسية والانطلاق نحو تحقيق الرؤية الاقتصادية التكاملية أصبحت دول الرابطة تنافس الاقتصاديات المتقدمة، ولعل دول مثل سنغافورة وماليزيا وتايلاند وفيتنام حاليا هي نماذج في هذا الإطار ولن يتأخر الآخرون كثيرا في هذا المسار .

التكامل الاقتصادي

منذ قيام رابطة الآسيان قبل خمسين عاما والرابطة كانت لها رؤية حيث شملت أهدافها الرئيسية تسريع النمو الاقتصادي والتقدم الاجتماعي والتطور الاجتماعي والثقافي بين أعضائها الى جانب حماية الاستقرار الإقليمي وتوفير آلية للدول الأعضاء لحل الخلافات بطريقة سلمية.

الأرقام والإحصائيات تشير إلى تقدم ونمو اقتصادي كبير بعد نصف قرن من العمل الجاد، بعيدا عن الشعارات، فهناك عدد سكان دول الرابطة الذي يزيد عن 640 مليون نسمة أي يقترب من 9 في المائة من سكان العالم أي اكثر من سكان دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة، أما مساحة دول الرابطة فتقترب من 4 ونصف مليون كيلومتر مربع أي تقريبا 3 في المائة من مساحة العالم، كما تغطي المياه الإقليمية مساحة أكبر بنحو ثلاثة أضعاف مساحة أراضيها مما يجعلها ذات أهمية خاصة من حيث الممرات البحرية ومصائد الأسماك، أما فيما يخص نمو الناتج المحلي الإجمالي فالأرقام تقول بأنه في عام 2015 أصبح يقترب من 3 تريليونات دولار وهو رقم كبير ومذهل وإذا استمرت رابطة جنوب شرق آسيا بنفس معدلات النمو الحالية وهي متباينة بين الدول الأعضاء وإذا أصبحت الرابطة كيانا اقتصاديا واحدا على غرار النموذج الأوروبي فإنها سوف تصبح سادس اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة والصين واليابان وألمانيا وفرنسا، وتعد عدد من موانئ الرابطة من الموانئ العالمية واهمها ميناء سنغافورة والذي يعد من أهم الموانئ العالمية بعد ميناء روتردام الهولندي من خلال حركة البضائع والحاويات والتبادل التجاري عبر البحار.

كما أن النشاط الاستثماري الصيني والياباني والكوري في دول الرابطة كان له دور مؤثر من خلال تنشيط اقتصاديات تلك الدول خلال السنوات الماضية، وأصبحت المنظمة من خلال قممها السنوية وأمانتها العامة نموذجا لتنفيذ القرارات وبفترات زمنية دقيقة، ومن خلال ما حققته الرابطة فإنها أصبحت جاذبة لدول أخرى في آسيا كاستراليا، كما أصبحت دول تيمور الشرقية وبابوا غينيا الجديدة دول مراقبة وهي مرحلة تسبق العضوية الكاملة.

نموذج يحتذى به

تعد رابطة جنوب شرق آسيا نموذجا ناجحا للمنظمات الإقليمية حتى القمم والاجتماعات تحدث دون ضجيج إعلامي، كما يحدث في الحالة العربية، حيث عشرات القمم والتي لم تسفر عن شيء سوى تعميق الخلافات والحملات الإعلامية المتواصلة حتى بين دول الإقليم الواحد كما هو الحال مع الأزمة الخليجية.

الرابطة ومن خلال رؤية وأهداف واضحة انتشلت الدول المدمرة الى دول مزدهرة اقتصاديا وتنمويا وتكنولوجيا وهي لا تزال تعمل بكل قوتها للوصول الى مستويات اكبر من النمو الاقتصادي والاجتماعي، ويرى عدد من المراقبين بأن الذي حدث من تقدم مذهل في دول رابطة جنوب شرق آسيا يقترب من المعجزة من خلال التباين الصريح حيث تعدد القوميات والأعراق واللغات والأديان وما خلفته الحروب من مشاكل نفسية لا تساعد على التكامل والجلوس على طاولة واحدة، ورغم ذلك كان هناك شعور بأهمية نفض غبار الماضي الأليم والسير نحو عالم يتسم بالتفوق والانطلاق.

كما تم إيجاد آليات محددة لاستغلال طاقات الموارد البشرية وتحويلها الى طاقة مبدعة رغم ارتفاع عدد السكان في عدد من دول الرابطة كفيتنام واندونيسيا وتايلاند، وليس هناك شك أن دول مثل كمبوديا ولاوس سوف تواصل نفس النهج، كما حدث مؤخرا مع فيتنام والتي اعتبرت النمر الاقتصادي الصاعد وهي تحقق 7 في المائة في معدل النمو ووجود اكثر من 100 مليار من الاستثمارات الأجنبية وتحولت الى سوق مفتوح وقاعدة لكبرى الشركات الصناعية في العالم، وبالتالي فان رؤية الآسيان تتكرر من جديد بين أعضائها، ولا شك أن انضمام استراليا وبقية دول الإقليم سوف يضيف قوة كبيرة للرابطة واندفاعها نحو تحقيق المزيد من الأهداف الكبرى.

الجامعة العربية وهي المنظمة الإقليمية الأقدم في العالم لم تستطع إيجاد ذلك التكامل الاقتصادي خلال مرحلة ما بعد الاستقلال والتحرر وانسحاب الاستعمار البريطاني والفرنسي من المنطقة، ولعل ما شهدته دول جنوب شرق آسيا من حروب مدمرة وضحايا يفوق كثيرا ما حدث في المنطقة العربية، ورغم ذلك فان النموذج العربي لم ينجح من خلال المنافسة على النفوذ ومحاولة فرض السياسات لكل بلد على الآخر وعدم وجود رؤية ملموسة لإيجاد التطور الحقيقي.

رابطة دول جنوب شرق آسيا هي نموذج ناجح في إطار المنظمات الإقليمية والتي تستحق الدراسة والتأمل، كما أن وجود النماذج الاقتصادية الكبرى في آسيا كالصين واليابان وكوريا الجنوبية كان له دور معنوي للانطلاق إلى ذلك التطور الاقتصادي وتعزيز منظومة التقنية والصناعات وإيجاد منظومة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة بشكل صحيح وتحويل المجتمع الى خلية نحل من العمل المتقن والإنتاجية العالية والمساهمة في الناتج المحلي الإجمالي لدول الرابطة والذي وصل الى أرقام مذهلة، ومن هنا فإن النموذج الآسيوي ينبغي أن يحتذى ويكون هناك تعاون حقيقي بين الجامعة العربية ورابطة دول جنوب شرق آسيا.

وندعو من خلال هذه السطور إلى قمة آسيوية - عربية للمنظمتين وان يستفيد العرب من هذا النموذج الآسيوي والذي أخرج لنا دولا تتمتع بتطور اقتصادي كبير وتنسيق سياسي جنّب المنطقة الصراعات والخلافات وإرساء قاعدة الحوار والتي عجز العرب عن إيجادها لحل خلافاتهم التي يصعب في أحيان إيجاد مبررات لتفسيرها.