1142974
1142974
المنوعات

توماس فريدمان في حوار مع «عمان»: صغت المبادرة العربية.. ولا أعرف شيئا عن صفقة القرن

25 فبراير 2019
25 فبراير 2019

حاوره: عـاصم الشــيدي ــ قام بالترجمة: قاسم مكي -

كيف يمكن أن تحاور الصحفي الأمريكي صاحب النفوذ والتأثير الكبيرين توماس فريدمان في ثلث ساعة! هالني الأمر عندما أخبرني مرافقه من وزارة الإعلام أن هذا هو الوقت المخصص للحوار فجدول الرجل مزدحم جدا. لم يكن ثمة متسع من الوقت من أجل إضاعته في نقاش حول فكرة الزمن، فهذا الأخير يمضي سريعا خاصة أن الثلث ساعة ستقسم على اثنين فإذا كان نصفها لفريدمان فإن نصفها الآخر سيكون للمترجم الفوري. كنت قد أعددت مجموعة كبيرة من الأسئلة، ووضعت الكثير من الملاحظات حول تشابكات فريدمان مع السياسة في الشرق الأوسط ليس بدءا من مقالاته بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي دعت إلى ضرورة التغيير بقوة الحرب في العراق من أجل بناء ديمقراطية وتعددية سياسية، أو صياغته لمبادرة السلام العربية التي أعلنت في قمة بيروت، وليس انتهاء بمواقفه الداعمة لإسرائيل على حساب الفلسطينيين.

جلس فريدمان وقلت له إنك محاور كبير وإشكالي ونحن نتعلم منك أنّ «لا ممنوعات في الحوارات والمحاور مفتوحة» نظر لي بابتسامة وقال: بالطبع بالطبع. تفضل.

قلت له: تحدثت في المحاضرة التي ألقيتها مساء الجمعة الماضي، وفي كتابك الذي قدمت له في المحاضرة، عن مجموعة القيم التي على الكاتب تبنيها من أجل نجاح كتاباته وتقبلها من الناس .. هذا جيد، ولكن أنا أتساءل عن نوعية القيم التي كنت تعتنقها وأنت تدير الحملة الإعلامية للتغيير في العراق بقوة الحرب والسلاح عام 2003؟

عاد ليبتسم ثانية وبدأ يرد بكل هدوء، وقال:كان هذا الأمر في ذهني في ذلك الوقت، وكنا ما نزال نعيش تأثير أحداث 11 سبتمبر، لم يكن هناك ما هو أكثر أهمية من ذلك الحدث، وكنا نبحث حينها عن طريقة للدخول في شراكة مع بلد مهم في الشرق الأوسط لنبحث معه عن إمكانية إنشاء مركز للتعددية والحكم بالتراضي في قلب العالم العربي. لكن كما تعلم فشلت الفكرة.

سألته لماذا فشلت؟ فرد سريعا بالقول: فشلت لأننا لم نكن نعلم ما نفعل، كنا تحت سطوة ما حدث في نيويورك. ثم إن الفكرة فشلت؛ لأن العراق كان منقسما، وفشلت الفكرة؛ لأن البلدان المحيطة العراق لم تكن تريد للفكرة أن تنجح، لأنها دول لا تريد التعددية السياسية .. أنا أشعر بحزن كبير لفشل المشروع. لكن سأقول لك شيئا، ليس علينا اليأس، في اعتقادي أن العرب سيجدون في يوم طريقا لإنشاء نظام تعددي، سياسيا وحزبيا.

عند هذه النقطة توقف فريدمان عن الكلام، وقال: أريد أن تسألني عن كتابي وليس عن مواقفي السياسية، فأنا هنا في المعرض للحديث عن الكتاب!

استغربت الأمر، ولكن حفاظا على الوقت قلت له: ولكنك تحدثت كثيرا عن الكتاب في المحاضرة الماضية ونشرنا في جريدة عُمان عن ذلك ما مساحته نصف صفحة، ونحن لدينا تساؤلات حول مواقفك السياسية الآن، كما اتفقنا في البداية أن يكون الحوار مفتوحا.

زم فريدمان شفتيه وقال: نعم، نعم. عندها عدت وسألته: هل فشلتم في تطبيق ما وعدتم به من ديمقراطية في العراق بسبب أنه منقسم كما تقول أم لأن العراقيين قاوموكم، قاوموا تدميركم لبلدهم وقاوموا الثقافة التي بشرتم بها؟

كان رده مقتضبا جدا: بعض الناس قاوموا لا شك في ذلك، ولكن بعض الناس، وخصوصا الشيعة والأكراد، رحبوا بالأمر؛ لأنهم رأوا فيه خلاصا لهم، ولكن الفكرة الأساسية أنه لم يكن لديهم توافق.

بقيت في نفس الفكرة وسألته: هل ندمت على دعواتك للتغيير بالقوة في العراق خاصة بعد أن رأيت ما آل إليه؟

قال لي: عليك أن تراجع ما كتبت بعد ذلك. نعم شعرت بالأسى. ولكن لو لم أكن قد كتبت ما كتبت هل كان الرئيس الأمريكي بوش سيوقف الحرب؟! كان سيخوض الحرب قبلت أنا ذلك أم لم أقبل. ولكن عليّ القول الآن: إن بوش كان بإمكانه دخول الحرب دون مبرر البحث عن أسلحة الدمار الشامل، كان يمكن أن يقول إن الحرب من أجل الديمقراطية. اليوم أنا أشعر بالتعاسة، ولكن السؤال هل كان العراق سيكون أفضل حالا من سوريا اليوم؟ اليوم العراق على الأقل أجرى انتخابات وأسس حكومة شرعية! ثم هل كان الشيعة في الجنوب والأكراد في الشمال سيكونون أفضل حالا اليوم مما كانوا فيه أيام صدام حسين؟!

قلت له على الأقل ستكون خياراتهم وليست خيارات أمريكا. وعندما لم يعلق عدت مرة أخرى للحديث عن القيم التي يتحدث عنها شرطا لنجاح الكتابة .. قلت له: تحدثت في المحاضرة عن أن البشرية تخلصت في عام 1945 ممن كان يمكن أن يبيد نصف البشرية، لكن ألا ترى أن إسرائيل تمارس اليوم فعلا مشابها عندما تحاصر غزة وتجوعها؟ أليس عمق الفكرة واحدا؟

تنهد قبل أن يجيب. الأمر مختلف كثيرا، لا لا. ثم إن المسألة معقدة جدا. سأقول لك أمرا، يمكن أن نقضي كل الوقت المخصص لهذا المقابلة دون أن نصل إلى نتيجة. أعتقد أن علينا تجاوز هذا الأمر.

نظرت في عينيه وكأنها تقول: لن أستطيع أن أكمل في هذا السياق.

ابتسمت له وقلت: لنذهب إلى بلادك .. ألا تعتقد أن أمريكا كإمبراطورية بدأت تفقد موقعها وتتراجع كثيرا ويفقد العالم ثقته بها؟

قال فريدمان بكثير من التّحفز ولكن بحسرة أيضا: نعم، نعم. أعتقد أن هناك الكثير من تفاصيل سياستنا الخارجية الآن لا تمثل ولا تعكس أفضل القيم الموجودة في أمريكا، وإذا كنت تريد الحديث عن أشياء محددة في أوروبا أو الصين أو الشرق الأوسط، ستجد الكثير مما يدلل على كلامي. لدينا رئيس يتحدث أن في أفريقيا، مثلا، بقايا البشر، أو يتحدث عن المكسيكيين باعتبارهم مغتصبين، ترامب يتحدث بطريقة شاذة على غير المعهود في السياسة الأمريكية.

بقينا في أمريكا وسألته عن رؤيته لأسباب صعود الشعبوية التي جاءت بالرئيس ترامب إلى حكم أمريكا؟

صمت فريدمان لبرهة ثم بدأ يرد ببطء وبجمل قصيرة: منذ أربعين سنة، كانت الأمور راكدة عند الطبقة الوسطى،هذا أولا، ثم حصل ارتفاع عال في الواردات من الصين بعد انضمام الصين لمنظمة التجارة العالمية، أثر ذلك على الوظائف، كما أثر ذلك على الأجور التي تدنت كثيرا، صاحب كل ذلك زيادة في أعداد المهاجرين، كانت هجرة لأشخاص من مختلف الأعراق والألوان، والتوجهات الثقافية والفكرية، صاحب ذلك أيضا ما تحدثت عنه في كتابي «شكرا لأنك تأخرت» تغير سريع في التكنولوجيا ووسائل الاتصال والتواصل، وأيضا شهد المجتمع تغيرات اجتماعية مثل الحقوق المثلية. يعني حصل تغيير سياسي واجتماعي وثقافي واقتصادي في وقت واحد، هذا الأمر أوجد رغبة لدى الناس لوصول قائد يستطيع السيطرة على كل هذه التحولات التي تحدث في أمريكا، كأن يوقف الهجرة، ويزيد من مستوى الدخل .. كل هذا أظهر الشعبوية وما جاءت به.

قلبت أوراق الأسئلة أمامي محاولا المفاضلة بينها رغم أنني وضعتها في سياق متصل يؤدي كل محور فيها إلى المحور الآخر لكن الزمن الذي خصص لي انتهى .. وكان علي أن ألمم محاوري سريعا. سألته: سأعود إلى الحديث عن إسرائيل ولكن عبرك هذه المرة .. إذا كنت أنت من صاغ مبادرة السلام العربية، وأنت المقرب من إسرائيل، فلماذا رفضتها تل أبيب إذن؟

ضحك فريدمان قبل أن يجيب: ليست إسرائيل من رفضها فقط، حتى أمريكا رفضتها. رغم أن الحكومة الإسرائيلية أرادت في وقت من الأوقات أن تنعشها وتعيد لها الحياة. لكن حتى العرب رفضوها. سأقول لك أمرا: كل من أعلن أنه قبل المبادرة كان يقول: نقبلها ولكن .. ما بعد لكن هو من أمات تلك المبادرة. ولكني ما زلت أعتبرها أفضل إطار حتى الآن لتحقيق السلام في الشرق الأوسط.

بما أنك من صاغ تلك المبادرة فما المرجعيات التي اعتمدتها في ذلك؟

قال فريدمان: جرى ذلك بعد أحداث نيويورك. كنت كاتب عمود في نيويورك تايمز، وكنت حينها أتصور أنني جورج بوش أو بيل كلينتون وأنا أكتب تلك الأعمدة، وكان الأمر ممتعا رغم أنه لم يخل من الهزل. بعد أحداث 11 سبتمبر بدأت ألحظ أن العلاقة بين الغرب وبين العرب المسلمين بدأت تتفكك وتتحلل، وكنت أفكر فيما يمكن تقديمه لوقف ذلك التفكك، وكتبت خطابا، عبر عمودي الصحفي، من جورج بوش موجها إلى رؤساء الدول في جامعة الدول العربية، وكان الأمر من اختراعي وحدي، واقترحت في ذلك الخطاب/‏‏ المقال سلاما كاملا مقابل انسحاب إسرائيلي كامل، ونشر المقال في نيويورك تايمز.

في ذلك الوقت صادف أن دعتني المملكة العربية السعودية لزيارة الرياض، لم تكن تلك الدعوة بسبب المقال، ولكن من أجل تقديم وجهة نظرهم فيما حدث بعد 11 سبتمبر. ذهبت إلى الرياض، والحديث ما زال لفريدمان، وقابلت الملك عبدالله بن عبد العزيز، الذي كان وقتها وليا للعهد، ودار بيني وبينه حديث طويل، على العشاء، استمر لثلاث ساعات في بيته. كنا أنا وهو والجبير الناطق الرسمي باسم السفارة السعودية في واشنطن.

عندما تحدثت عن المبادرة قال: أنت اقتحمت وكسرت درج مكتبي. لدي نفس هذه الأفكار لمبادرة عربية، بالضبط هذه هي خطتي للسلام في الشرق الأوسط. قلت له: إذن حدث عنها العالم، تقاسمها مع العالم وشاركهم فيها. قال: لا قم أنت بذلك، قلت له: بل قم به أنت، فقال قم أنت به، فرددت عليه: لا لا قم به أنت. في النهاية قرر الأمير أن يشارك العالم في تلك المبادرة ويطرحها عليهم وحدث ذلك، كما تعرف، في قمة بيروت.

ضحك فريدمان وقال: كنت أعتقد أنني أتحدث باسم بوش.

قلت له: فشلت المبادرة، ولكن العرب اليوم يتجهون في السر والعلن إلى إسرائيل، هل هذا ضمن متطلبات صفقة القرن التي نسمع عنها كثيرا ولكن لا أحد يعلم تفاصيلها؟

ابتسم فريدمان قبل أن يقول: هذا سؤال جيد جدا. سأقول لك: إنني لا أعرف أي شيء عن صفقة القرن، كوشنر سيكون غدا في المنطقة للحديث عنها، ربما يعرض تفاصيلها .. لا نعرف، فقط نسمع عنها.

صمت ثم عاد ليقول: لكن المسألة ليست الخطة/‏‏ الصفقة، المسألة الحقيقية هي هل عند القادة في الشرق الأوسط الشجاعة والإرادة لتنفيذ الخطة؟

قلت له: ربما، ولكن المهم أيضا هل هناك صفقة قرن فعلا، أم أن الأمر نوع من الإلهاء وكسب الوقت لتحقيق مكاسب في المنطقة عبر هذا التسويق الإعلامي؟

قال فريدمان: لا أعرف حقيقة.

انتهى الوقت تماما وأخذنا بعضا من وقت المقابلة الآتية: قلت له سريعا: إذا طلب منك أن تسدي نصيحة لصحفي شاب ماذا ستقول له؟

قال: هذا سؤال جاد جدا. سأقول لك. أنا لا أصحو صباحا وأنظر في المرآة وأشاهد عضلاتي، هنا تحدث المشكلة .. كن صحفيا متواضعا، وستستطيع تأسيس أفكارك، وهذا يساعدك على كتابة تقرير أو مقال صحفي قوي وثابت ومتين. في الماضي كنت أكتب، بما في ذلك رؤيتي لموضوع العراق، كنت أتحدث فيما كان يجب عليّ أن أصمت وأسمع.

انتهت المقابلة. وقام توماس فريدمان لكن أسئلتي بقيت حائرة، أما فريدمان فسيواصل مسيرته وأفكاره التي آمن بها، وقيمه التي يعتنقها، وهي التي نختلف مع الكثير منها، ولكن هذا لن يلغيَ أنه من أكثر الصحفيين تأثيرا في العالم ومن أكثرهم قدرة على الولوج إلى دهاليز السياسة وخبايا السياسيين.