tunis
tunis
أعمدة

تواصل: جزء من الصورة مفقود!

19 فبراير 2019
19 فبراير 2019

تونس المحروقية -

hlaa202020 @ -

مشهد أول :

خرج من مؤسسة خدمية بعد يوم دوام كامل دون أن ينهي المعاملة التي جاء لإنهائها التي بحسب رأيه لا يستلزم أكثر من نصف ساعة، كان غاضبًا ثم بدأ في شتم كل من مر به خلال ذلك اليوم، نصحه صديقه بأن يكتب قصته تلك في إحدى منصات التواصل الاجتماعي التي تشهد حراكًا وتفاعلا بين المستخدمين والمؤسسات الرسمية، كتب ما حدث مع زيادة في بعض التفاصيل اللازمة؛ لأن يتحول موضوعه خلال ساعات إلى وسم متصدر لقائمة الوسوم الأكثر تداولا في بلده، اختار عنوانا «7 ساعات في المؤسسة الفلانية ومعاملتي البسيطة لم تنته»، أسعده التفاعل ونسي وهو يستمتع بقراءة الردود المتفاعلة معه أن يذكر أنه قد تم إبلاغه بعد ربع ساعة من وصوله لتلك المؤسسة أن أوراقه غير مستوفية وأنه وحده من كان يحاول أن يحصل على استثناء كي لا يقدم كل الأوراق المطلوبة بحجة أنه سيحضرها في وقت لاحق، نسي أيضًا أن يذكر أنه حظي بترحيب جيد ممن تعامل معه هناك في تلك المؤسسة، وعندما رفض المغادرة لإحضار الأوراق المطلوبة تحدث معه مدير إحدى الدوائر المعنية وأوضح له أسباب طلب كل تلك المستندات، نسي ذكر كل ذلك في منشوره واستمتع فقط بكونه الضحية وموضوعه متصدر النقاشات الأكثر تداولا في منصات التواصل الاجتماعي في بلده.

مشهد ثانٍ:

لم يتم منحها بعثة دراسية للحصول على درجة الدكتوراه من الجهة المعنية بالابتعاث في دولتها، قررت أن تكتب في حسابها في تويتر أنها ظلمت، وأن من هم أقل منها في المعدل الدراسي في شهادة الماجستير قد تم ابتعاثهم لكنها لن تحصل عليها أبدًا؛ لأنه لا ظهر لها يساعدها في الحصول على تلك البعثة، فهي من أسرة بسيطة، ووالدها غير معروف، و و و، أمعنت في عيش دور المظلومة في منشورها ليتفاعل معها المستخدمون ويلومون جهة الابتعاث ونسيت أو تناست أن تخبر هؤلاء المتفاعلين أن طلبها رفض؛ لأن شهادة الماجستير الخاص بها لم تحصل على التصديق من المؤسسات المعنية وأنه بدون ذلك لا تعتبر شهادتها معتمدة وأن جهة الابتعاث قد قامت بإخبارها بذلك صراحة من قبل، لكنها كتبت فقط ما أرادت وتركت الباقي!

مشهد ثالث:

استغنت عنه جهة عمله بعد أربعة أعوام من بدئه العمل فيها، صدمه القرار وشعر بالحزن العميق، لم يعرف كيف سيخبر المحيطين به بالأمر، ثم بعد تفكير عميق قرر أن يكتب عما حدث له في حسابه في إحدى منصات التواصل الاجتماعي، استهدف الكتابة في وسوم الباحثين عن عمل، وجد أن حكايته ستنتشر بسرعة هناك وسيجد من يتعاطف معه ويطالب بإعادته لعمله، حكى أن جهة عمله تفضل الأيدي العاملة الأجنبية وأنه يعيل أسرته الكبيرة وأنه محبط ويشعر بالاكتئاب، وأنه يفكر في الهجرة، تفاعل معه الكثيرون وطالبوا بإرجاعه لوظيفته مع أنه لم يخبرهم كل الحكاية وتحديدا ذلك الجزء المتعلق بإهماله للعمل وعدم انتظامه في ساعات العمل وكثرة الإنذارات التي حصل عليها وعدد المرات التي تعلل بظروف أسرية وتفهمت الإدارة تلك الظروف قبل أن تيأس من محاولة إصلاحه وتقرر الاستغناء عنه !

تأتي وسائل التواصل الاجتماعي بأدوات متعددة تسهم في انتشار المنشورات المكتوبة في مختلف الحسابات لأكبر عدد ممكن من مستخدمي هذه المنصات وذلك في زمن قياسي، وهذا الأمر جعل من بعض المستخدمين يبدأون في سرد بعض تفاصيل حياتهم التي يرغبون في أن يحظوا فيها بقدر من التفاعل من بقية مستخدمي هذه المنصات خصوصًا تلك المواقف التي يشعرون فيها بالحزن أو الظلم أو حتى الرغبة في لوم الآخرين، وهنا قد تظهر سلوكيات بعض المستخدمين الذين قد يستغلون حالة الاستياء العامة من الجمهور تجاه المؤسسات الرسمية في سرد مواقف حدثت معهم مع تسليطهم الضوء على ما قد يدفع المستخدمين للتعاطف معهم، متغافلين الأسباب الكاملة لحدوث تلك المواقف والتي قد تدينهم هم أنفسهم أمام جمهورهم إن هم قاموا بسردها كما هي في حقيقتها، يدفعهم في ذلك الرغبة في إحداث إثارة ربما تقود روايتهم لتصدر الروايات المحكية في ذلك اليوم أو حتى الحصول على التعاطف من عدد كبير من البشر حتى لو كانوا هم أنفسهم يدركون أنه في غير محله أو ربما الحصول على مزايا من الجهة التي كتبوا عنها ، فتلك الجهة ربما عندما تدرك حجم تأثيرهم وإن كانوا عاديين فربما تمنحهم مستقبلًا اهتمامًا أكبر وتحقيقًا لمطالبهم خصوصًا تلك الجهات التي لا طاقة لها لمواجهة السيل العارم من النقد الذي سيأتيها من الجمهور بعد سرد الحكاية من زاوية كاتبها.

ليس كل ما يكتب جديرًا بتصديقه والتفاعل معه دون فهم كل زوايا القضية، فهناك من يكذب وهناك من يفبرك في شكل الموقف الذي حدث وهناك من يخفي تفاصيل كي يرجح كفة موقفه أمام جمهوره، وهناك من يبحث عن زيادة متابعين ومن يرغب في تصدر روايته لمشهد الحوارات ومن يتسلى فقط ، لذا قبل أن ننهمر بعواطفنا وتبدأ دموعنا في إغراقنا ،وقبل أن نقرر أن نساند من حكى موقفًا نراه فيها مظلومًا ونتهم الطرف الآخر دون أن نسمعه ونطالب بمحاسبته ينبغي أن نضع في أذهاننا افتراضا ولو مجرد 1% أن جزءًا كبيرًا من الصورة الكلية للموضوع قد يكون مفقودًا!