الملف السياسي

الثورة الصناعية وصناعة المستقبل

18 فبراير 2019
18 فبراير 2019

عوض بن سعيد باقوير  -

صحفي ومحلل سياسي  -

مع انطلاق ملامح الثورة الصناعية الرابعة وبداية التطور التكنولوجي المصاحب لمفهوم الذكاء الاصطناعي بدأت التساؤلات حول صناعة المستقبل والصراع الرقمي والمعرفي في ظل امتلاك البعض لتلك الأدوات وتخلف البعض الآخر عن مواكبة تلك التطورات الإنسانية المذهلة.

العلاقات الدولية التقليدية بين الدول ومسألة النفوذ سوف تتغير لصالح الذين يمتلكون عالم ما بعد التقنية الرقمية الحالية، كما أن الاستعداد الأممي لانطلاق تلك الثورة الصناعية الرابعة سوف يصاحبه اتساع الفجوة في مجال التقدم العلمي والتقني، وبالتالي فإن امتلاك القوة الناعمة من العلوم الحديثة سوف يؤدي إلى تعميق النفوذ خاصة بين الغرب الصناعي والشرق المستهلك.

التحولات التاريخية

منذ الثورة الصناعية الأولى وقوة البخار والطاقة التقليدية من الفحم، والعالم يشهد تحولات تاريخية على صعيد الاختراعات الحديثة، وخلال مائة عام تصدر المشهد الدول التي تميزت بالتعليم المتميز والتخطيط لصناعة المستقبل، كما يحدث الآن من استعداد منهجي للثورة الصناعية الرابعة ومرحلة الذكاء الاصطناعي، ومن هنا فإن العالم العربي الذي يشهد صراعات وخلافات كبيرة سوف يجد نفسه متخلفا مرة أخرى عن الركب الحضاري الجديد، وهو ما حدث خلال المائة عام الأخيرة.

الذي يمسك بأدوات العصر الجديد المتوقعة هو الذي سوف يسيطر على قوة النفوذ السياسي والاقتصادي، ومن هنا تكمن أهمية التخطيط للأمم والشعوب لمواجهة تلك الموجة العارمة من توهج العلوم التطبيقية خاصة في مجال الذكاء الاصطناعي والابتكار وضرورة إيجاد جيل قادر على مسايرة الركب في مجالات سوف تكون انطلاقتها سريعة ومؤثرة على صناعة مستقبل الأمم في هذا القرن.

العلاقات الدولية في المستقبل سوف تكون ذات صبغة وتأثير رقمي وتكنولوجي، وحتى مسألة الحروب القادمة إن حدثت سوف تكون مختلفة، وقد لا يكون للجيوش أهمية كبيرة في ظل التقنية واختراعات متوقعة مذهلة للجيوش الإلكترونية وأسلحتها المختلفة لمواجهة الأخطار والعدو المفترض على أي جغرافيا محتملة، وعلى ضوء تلك التطورات التي بدأت ملامحها في الغرب وجنوب شرق آسيا فإن أمام الدول النامية في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية تحديات حقيقية في ظل مشاكلها السياسية وعدم استطاعتها الخروج من مرحلة التأزم إلى مرحلة الانطلاق

بعيدا عن الصراعات.

الدول المستقرة سياسيا وأمنيا سوف يكون أمامها فرصة للحاق بالركب ولو نسبيا في ظل ظروفها المجتمعية والطاقات والأدوات التي من خلالها قد تحقق قفزة نوعية في مجال الابتكار والذكاء الاصطناعي ومواكبة الثورة الصناعية، وهي في ذلك تحتاج إلى تغيير كبير في مفاهيم الدولة الحديثة وتغيير الكثير من التشريعات وأهمية الحكم الرشيد وتعميق الشفافية ومحاربة الفساد والقضاء على البيروقراطية.

فالغرب بعد الحرب العالمية الثانية أدرك أهمية تغيير المسار من خلال دساتير راسخة ومن خلال نظم ديموقراطية تقيس أهمية المواطنة بالإنتاجية والإبداع، ومن خلال وجود ذلك المناخ كانت الانطلاقة العلمية وإعطاء البحث العلمي مساحته الواسعة من خلال توفير الأموال الكبيرة ودور الجامعات ومراكز البحوث، وحتى استقطاب العقول المهاجرة وكثير منها من المنطقة العربية.

دول جنوب شرق آسيا أدركت الحقيقة بعد انتهاء حروب القارة الآسيوية التي كان آخرها الحرب المدمرة في فيتنام وكان أمامها النموذج الصناعي الياباني العملاق، فانطلق الجميع وراء ذلك النموذج، ومن هنا فإن الدول المنشغلة بالصراعات العسكرية والخلافات السياسية سوف تستنزف مواردها ووقتها في مجال لا يجدي، وهي بذلك تتراجع أمام ما يحدث في العالم من ترقب لأدوات القرن الواحد والعشرين الجديدة، وهي الثورة الصناعية الرابعة والذكاء الاصطناعي.

وسوف يكرر العرب نفس المشكلة وبعد سنوات طويلة من خلال استهلاك تلك التقنية الجديدة التي سوف تكون مكلفة وتصبح الطاقة البديلة هي محور الاهتمام ومعها تتدنى أهمية الطاقة الحالية خاصة النفط، ومن هنا فإن إنهاء التوترات والحروب يعد من الخطوات الأساسية لإيجاد البيئة المناسبة لمواكبة الثورة العلمية الحديثة التي تتطلب فكرا مغايرا وتحتاج إلى استعداد من خلال الورش العلمية والمختبرات وتهيئة الجيل الجديد الذي سيكون هو الأداة الأساسية لانطلاق الدول في عالم الثورة الرقمية والصناعية، ولعل الدبلوماسية الجديدة سوف يكون لها دور على صعيد التعاون العلمي والتكنولوجي وفي مجالات متعددة وحتى في مسألة استغلال اقتصاد المحيطات، وهو المؤتمر الدولي الأخير الذي استضافته السلطنة والذي يجمع بين القوة الاقتصادية وأهمية العلاقات الدولية في تحقيق تلك الأهداف التنموية.

الدبلوماسية الجديدة

في ظل تعقد العلاقات السياسية وفي ظل احتدام الصراعات خاصة في الشرق الأوسط فإن ثمة تحولات أساسية لا بد من ملاحظتها من خلال الرؤى المختلفة لصناعة المستقبل وشعور عميق لدى الدول بأهمية التخلص من الإرث السياسي التقليدي والانطلاق نحو عالم التنمية المستدامة وصناعة المستقبل القائم على السلام والعدالة الاجتماعية، ولعل دور الدبلوماسية الجديدة سوف ينصب على تكريس مفاهيم السلام والتعاون التكنولوجي وتعميق الشعور بأهمية أن تعيش الإنسانية بعيدا عن الصراعات على الموارد التي ميزت القرن العشرين والسنوات الأولى من القرن الحالي خاصة من قبل الدول الاستعمارية التقليدية.

ولعل المفهوم من خلال العلاقات الدولية الجديدة هو مفهوم يتبلور ويركز على أهمية إنهاء الصراعات وأن تكون هناك مفاهيم جديدة للتعاون والتعايش بين الشعوب في ظل حلول عادلة للقضايا على رأسها القضية الفلسطينية التي بدون حلها حلا عادلا ومنصفا لن يتمكن إقليم الشرق الأوسط من أن يعيش بسلام وأمن حقيقي، وعلى إسرائيل أن تدرك هذه الحقيقة.

دبلوماسية الدفع بالعلوم والتعاون لخدمة الإنسانية سوف تعطي زخما للتطور الإنساني المذهل الذي يندفع نحو تطور العلوم والتقنية والثورة الصناعية التي سوف تغير من ملامح التطور الإنساني في عالم اليوم.

ولعل المستفيد الأكبر من مواكبة التطور العلمي هو الدول النامية بشكل خاص في ظل المشكلات التنموية التي تواجهها خاصة على صعيد إدخال التكنولوجيا لحل عدد من أزماتها المتفاقمة وإنعاش اقتصادياتها والرقي بالإنسان فيها في مجالات التعليم والصحة والخدمات ليواكب المرحلة في عالم اليوم.

الكثير من المؤتمرات والندوات التي تعقد في العالم ومن خلال الدبلوماسية الجديدة فإن مجالات التعاون بين الدول والشعوب في مجال التقنية والذكاء الاصطناعي سوف يشكل نقلة نوعية تساعد على الانتقال من مرحلة الصراع إلى مرحلة السلام والحوار والتركيز على ما يفيد البشرية وأن تكون هناك مفاهيم عالمية تحترم الثوابت الوطنية وخيارات الشعوب والبعد عن الهيمنة والإملاءات.

الذكاء الاصطناعي

يدخل العالم مرحلة جديدة خلال السنوات العشر القادمة من خلال التطورات العلمية المذهلة التي سوف تطور الحياة الإنسانية بإيجاد اختراعات تساعد الإنسان في مجال معالجة الأمراض والإنتاج الزراعي الوفير والاستخدام الأمثل للمياه ومحاربة التصحر والحد من الانبعاثات والاحتباس الحراري والمحافظة على البيئة.

هذه التقنية الجديدة سوف يكون لها نتائج إيجابية، ومن المهم أن تكون هناك شراكات بين الدول النامية منها والمتقدمة بهدف تحقيق الأهداف الإنسانية والتركيز على عالم ينعم بالأمن والاستقرار بعيدا عن الحروب وتفشي الكراهية وحل المشكلات بطريقة عادلة كما تمت الإشارة،

فأولى مراحل استقرار العالم هو القناعة من الساسة بأن كوكب الأرض يتسع للجميع، وهناك موارد كافية لأكثر من ستة مليار إنسان على هذا الكوكب، وأن استئثار الأقلية بمعظم الموارد والمقدرات الاقتصادية بطرق غير مشروعة لا يخلق عالما ينعم بكل تلك التطورات العلمية التي ينبغي أن يستفيد بها كل البشر. قد تكون هذه النظرة فلسفية ولكن التطور الإنساني في مجمله خلال القرون الأخيرة جاء من خلال أفكار فلسفية وتصورات منهجية أصبحت واقعا.