الملف السياسي

الذكاء الاصطناعي والسياسات الدولية: المقدرات والسياسات والمخاطر

18 فبراير 2019
18 فبراير 2019

د. صلاح أبو نار -

تشير المعلومات المتوفرة بشأن الاستثمارات الموجهة إلى الذكاء الاصطناعي خلال الفترة القادمة، إلى مواصلته للتطور بالإيقاع نفسه وربما أعلى، فيما يتعلق بالاستثمارات الحكومية، وفقا للتخطيط الصيني سيستثمر بحلول عام 2030 حوالي 59 بليون دولار في منتجات الذكاء الاصطناعي.

في معرض حديث عن الثورة الرقمية القادمة في مجال الذكاء الاصطناعي، ذكر بيل جرات مدير برنامج «داربا» وقائد ما يعرف الآن باسم «تحدي داربا الروبوتي»، أن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي ستشهد خلال السنوات القادمة ما يشبه «الانفجار الكامبري»، مشبها الطفرة الرقمية القادمة بالنقلة التي عرفتها الحياة منذ خمسمائة مليون عام، وأطلقت طفرة جديدة من تطور الأحياء العضوية، ظهرت فيها أنواع عضوية فائقة التقدم قياسا على السابقة وانتشرت على نطاق شديد الاتساع، وربما كان في الأمر درجة من المبالغة، لكنها إن حدثت تتعلق بإيقاع التقدم وليس بوجه التقدم نفسه.

ومن المؤكد أننا بحاجة للإلمام الدقيق بإبعاد مفهوم الذكاء الاصطناعي نفسه، هناك المحور الكمي لتحليل الذكاء الاصطناعي، ويتعلق بالتطور الهائل في القدرة على استيعاب المادة وتصنيفها واستدعائها، عبر عمليات شبكية تربط بين وحدات مختلفة وتمارس تغذية متبادلة، طفرة كمية تتيح مثلا إدخال نتائج مئات الأبحاث المتعلقة بمرض معين وتحليلها واكتشاف روابطها الداخلية.

وهناك البعد الكيفي ويتعلق بالقدرات العقلية للأجهزة الرقمية، ويمكن هنا أن نشير إجمالا إلى وظائف الإدراك العقلي والتعلم الذاتي وطرح الحلول، وكلها وظائف تحاكي جزءًا أساسيًا من ملكات التفكير الإنساني، ولكن مع التعامل مع مصادر معلومات عالية التنوع والكثافة، وبمعدل إنجاز أسرع كثيرا، ومع إمكانية أداء متزامن لحزمة مركبة من الوظائف.

عبر وظيفة الإدراك في بعدها المادي يمكن التعرف على الأشكال والألوان والأحجام والمسافات والأصوات، وعبر الوظيفة ذاتها في بعدها الكيفي يمكن التعرف داخل المادة المحتواة على العلاقات وتصنيفها في مجموعات وترتيب علاقات سببية وبناء سلاسل زمنية. ومن خلال وظيفة التعلم الذاتي يكتسب الذكاء الاصطناعي آلية مستقلة للتعلم لا تحتاج إلى تدخل منتظم من العنصر البشري، عبر التراكم والتحليل الآلي للخبرات وإضافة وتحليل خبرات جديدة، ومن خلال وظيفة وضع الحلول يمتلك الذكاء الاصطناعي القدرة على مواجهة المواقف بحلول سريعة أو فورية، والتنبؤ بالمشاكل وردود الأفعال وبناء سيناريوهات متعددة وبديلة للمواجهة.

تكاثف إيقاع هذا التطور خلال الأعوام الخمسة الماضية، وجاء ذلك نتيجة عدة عوامل: تراكم التطورات المتسارعة عبر العقود الماضية، وتوافر قواعد معلومات واسعة يمكن استخدامها كمادة للتعلم، والتقدم في تطبيق تقنيات التعلم الاصطناعي، والزيادة الهائلة في الاستثمار التجاري.

وتظهر كثافة تطورات تلك الأعوام في عدة وقائع، يهمنا منها ثلاث وقائع ذات أهمية رمزية.

صمم برنامج ممتاز لدخول الحاسب الإلكتروني في مباريات مع أبطال لعبة تسمي «جو»، تحتاج لمهارات تخطيط ومناورة أعلى كثير من الشطرنج. وبعد التجارب الناجحة صرح المصمم انه خلال عشر سنوات سيصل لبرنامج يمكنه هزيمة بطل العالم، ولكن البرنامج أنجز خلال عام واحد فقط. وابتكرت تقنية التعرف علي الصوت والصورة البشرية بكفاءة تفوق قدرة الإنسان على التعرف عليهما، وأقيمت محاكاة لمعركة، بين طائرة بلا طيار وطيار أمريكي محترف، انتهت بانتصار الطائرة.

وتشير المعلومات المتوفرة بشأن الاستثمارات الموجهة إلى الذكاء الاصطناعي خلال الفترة القادمة، إلى مواصلته للتطور بالإيقاع نفسه وربما أعلى، فيما يتعلق بالاستثمارات الحكومية، وفقا للتخطيط الصيني سيستثمر بحلول عام 2030 حوالي 59 بليون دولار في منتجات الذكاء الاصطناعي، وعلى مدى الأعوام الخمسة القادمة ستستثمر كوريا ما يقرب 863 مليون دولار في أبحاث الذكاء الاصطناعي، واستثمرت كندا بليوني دولار عام 2017 فقط، وفيما يتعلق بالاستثمارات الخاصة يقدر أن شركات آبل وأمازون والفا بايت وميكروسوفت العملاقة، استثمرت خلال عام 2016 فقط ما بين 20 بليونا و30 بليون دولار.

ويمكننا تحليل تأثير الذكاء الاصطناعي على العلاقات الدولية عبر بعدين أساسيين.

يتعلق الأول بالقدرات، تفيدنا التحليلات أن طفرة الذكاء الاصطناعي ستضيف للقدرات الاقتصادية، اكثر كثيرا مما أضافته الطفرة الناتجة عن استعمال البخار ثم الكهرباء كقوى محركة، وهناك توقعات مختلفة تجمع على ضخامة هذه الطفرة، توقع بنك أمريكا مريل لينش عام 2015، أن ينتج الذكاء الاصطناعي قيمة مضافة على مدى السنوات العشر القادمة بما يتراوح بين 14 تريليونا و33 تريليون دولار، وتوقع معهد ماكينزي عام 2017 مساهمته في رفع معدل النمو العالمي فيما بين 0,8% و1,4% سنويا.

وذكر تقدير آخر لمؤسسة مالية أنه بحلول 2035 سيكون معدل النمو السنوي قد تضاعف في 10 دول أوروبية واليابان وأمريكا، وفي أمريكا مثلا سيرتفع من 2,6% إلى 4,6% عام 2035 أي ما يوازي 8,3 تريليون دولار سنويا.

ولكن هناك تأثيرات اقتصادية أخرى لثورة الذكاء الاصطناعي، فمن المتوقع أنها ستعيد رسم تراتبية عناصر قدرات الدولة، بما يقلل من أهمية ملكية الموارد الطبيعية واتساع القاعدة السكانية، ويرفع من أهمية النظم التعليمية وإنتاج المعرفة وعقلانية التنظيم الاجتماعي، وبالتالي ستجد دول كثيرة نفسها قادرة على تحقيق قوة استثنائية مع تمايزها النسبي في تلك العناصر، وستفقد دول أخرى الكثير من قوتها رغم وفرة عناصر قوتها التقليدية.

ومن المتوقع أن تعيد تشكيل التوازنات والتحالفات والاستقطابات والصراعات الدولية وفقا لقواعد جديدة، حيث تبرز عناصر التنافس على المعرفة والعقول وتتراجع مكانة الموارد والأسواق والجيوبولوتيكيا، وحيث يبرز أمن المعلومات والحروب السيبرناطيقية وتتراجع مفاهيم أمن الأقاليم والموارد والحروب العسكرية.

ويقودنا بعد القدرات إلى بعد السياسات، وهنا يمكننا التمييز بين ثلاثة مستويات للتأثير.

سنجد الأول في التقدم المنتظر والمتصاعد لاستخدام الأسلحة الذكية، هذا التطور ظهرت مقدماته في الحرب على العراق ولكننا الآن على أعتاب طفرة نوعية، ما يهمنا أساسا التطور النوعي الذي ستحمله تلك الطفرة، تبدو تلك الأسلحة في طريقها للاستغناء بدرجة أساسية عن الإنسان كمقاتل، لصالح أسلحة وأنظمة دفاعية وهجومية ذاتية التوجيه، مثل العربات والطائرات والروبوتات المقاتلة، هذه الأسلحة تستشعر أهدافها ذاتيا، وستمتلك آليات تصحيح ومناورة ذاتية، ولديها إمكانية التعلم الذاتي المستمر، ولديها قدرة تدمير هائلة، والأخطر أنها معزولة تماما عن الخصائص الإنسانية، مثل الإجهاد الجسماني والنفسي ومدى الالتزام بالأوامر والانتقائية والمخاطرات.

ويتعلق المستوى الثاني بالإدراك والتوقع، والثالث بعملية بناء السياسات واتخاذ القرارات، وسنتعامل مع المستويين كموضوع واحد لأغراض وحدة التحليل، تقوم عملية صناعة السياسة الخارجية على بناء مدركات وتصورات ذهنية وتوقعات سياسية، بالنسبة للذات أو الخصم أو سياقات العمل السياسي الخارجي، وتقوم أيضا على بناء سياسات طويلة الأمد واتخاذ قرارات لحظية، هذه العملية كانت ولا تزال تنجز بشكل أساسي وفقا لمجموعة من المحددات، النخب السياسية والتفاعلات المؤسسية داخل النظام السياسي، وما يمكن دعوته الإجماع الاستراتيجي الوطني، والدور المتصاعد للتكنوقراطيين، والثوابت الجيوبولوتيكية. وسيؤدي صعود الذكاء الاصطناعي إلى تعديل آليات وتوازنات تلك القوى الفاعلة، فسوف يزداد ثقل عنصر المعرفة، فتصبح المادة اكثر وفرة، وتتوافر إمكانيات استشعار مبكر للخطر، ومستويات للمعرفة أكثر تعددا وأعمق، وإمكانيات لبناء نماذج وبدائل مختلفة للقرارات والسياسات، فماذا سوف يترتب على ذلك؟ مزيدا من العقلانية الناتجة عن حياد مفترض في الذكاء الاصطناعي؟ وتوافر نماذج معرفية بعيدة عن التحيزات السياسية والأهواء الشخصية والحكمة التقليدية؟ هذا هو الافتراض المتسق مع منطق الظواهر، لكنها مجرد إمكانية لا نعرف مدى قابليتها للتحقق، فكل هذا سيجري في سياق سياسي من السذاجة تصور إمكانية تحييده، فنحن أمام عالم جديد قيد الولادة لا نعرف شكل تبلوره وفعله النهائي، وكل هذا سيحدث في سياق نظم موزعة بين تسلطية قديمة تجدد نفسها، وديمقراطيات قديمة تنزع للتسلطية متخفية بالقناع الشعبوي، سياق انقسامات اجتماعية لا تقل حدة عن السابقة.

ولكن الذكاء الاصطناعي يحمل معه أيضا مخاطرة. يحمل خطر نمط جديد من الاستقطاب السياسي والاجتماعي قائم على امتلاك المعرفة، داخليا ستوفر التكنولوجيات الجديدة أدوات جبارة للمراقبة الداخلية وصناعة العقول، في ظل أزمة الديمقراطيات الليبرالية، وهو ما يعني عمل الثورة الرقمية في سياق مركزي لا رقابة شعبية كافية عليه، الأمر الذي يرفع من احتمالية الشطط والعدوانية في السياسة الخارجية.

وخارجيا قد يوجد الإحساس بالقوة المفرطة روح المغامرة والشطط، التي تدفع للتعامل مع الجنوب كمجال لتجريب الأسلحة الذكية، ومادة لاختبار وتحسين سياسات تبتكرها آلات مفكرة لإدارة الصراع، وتحمل الأسلحة الذكية معها عدة مخاطر. قابليتها للاختراق والتشويش والتعطيل، وافتقادها للحس الإنساني والأخلاقي الذي لا يغيب عن المقاتل البشري وهو في أقصى عدوانيته، وقابلية بعضها للانتقال إلى الجماعات الانفصالية والإرهابية مع التدني المطرد في أسعارها، وسهولة استخدامها بدون حسابات لغياب أو ضعف الخسائر البشرية التي سيتحملها المهاجم.

وفي النهاية يحمل الذكاء الاصطناعي معه كما لاحظ أكثر من مراقب، خطر تصعيد وتفاقم الصراعات العالمية، لاحظ هؤلاء أمرين. الأول أن منظومة المؤسسات والمعاهدات الدولية والعسكرية، على الأخص في مجال الرقابة على التسلح، التي أنجزت خلال القرن الماضي، تمت في عالم لا يحكمه الذكاء الاصطناعي وبالتالي غير مهيأة للتعامل معه بكفاءة، الأمر الذي قد يهدد بانهيار بعضها وتفاقم الصراعات.

والثاني أن المنظومة تتطور بمعدل أسرع من تطور السياق المؤسسي والعقلي والأخلاقي الضروري لها. فحتى الآن لم تتكون الخلفية المعرفية المناسبة للتعامل الناجح معها، ولم تتبلور المنظومة الأخلاقية الضابطة لاستخدامها.