أفكار وآراء

الجانب القبيح في المشهد العالمي المعاصر !!

16 فبراير 2019
16 فبراير 2019

د. عبدالعاطي محمد -

هذه ليست دعوة للتشاؤم أو ادعاء صورة قبيحة لعالم اليوم على عكس الحقيقة، فأي متأمل محايد وموضوعي لا يستطيع إنكار أن المواقف والأفكار السائدة في عالم اليوم تفتقر إلى الرشد والعقلانية والأخلاق التي استقرت لدى البشرية، وكانت حاكمة لإقامة علاقات طيبة ليس فقط بين الدول، وإنما بين الشعوب كافة.

مبدئيا، وتأكيدا لهذه الملاحظة العامة، لم تخلُ كلمات قادة الدول على تنوعها وتباين مصالحها، ولا كلمات المسؤولين في مختلف المنظمات الدولية، في أي تجمع عالمي أو إقليمي، من تحذيرات،بل ومن صرخات، تقر بالواقع المرير والمزري الذي وصل إليه حال عالم اليوم تحت وطأة أزمات عديدة، وتطالب بالعودة إلى عالم تسوده قيم الإنسانية والحوار والتوافق والعدالة والسلام. وتحاول هذه الدعوات أن توجد آليات جديدة لاستعادة هذه القيم.

لا يتسع المقام للاستفاضة في توضيح ملامح الصورة القبيحة لعالم اليوم، ولا لتفسير ذلك من خلال طرح الأسباب التي قادت إلى تشكيل هذه الصورة، ولا إلى العوامل المساعدة في هذا الإطار. ولكن من الممكن التوقف عند بعض الجوانب وردود الأفعال عليها وعواملها المساعدة، على أمل أن يكون ذلك جهدا مفيدا للاستنارة ومن ثم الإفاقة.

ولنبدأ من أقرب المشاهد زمنيا وتحديدا من جلسة الكونجرس الأمريكي حيث كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يلقي خطاب الاتحاد. وبعيدا عن مضمون الخطاب خصوصا أنه إجراء شكلي في المقام الأول باعتباره من تقاليد العمل الرئاسي مع بداية كل عام، ونقف عند لغة الجسد التي ظهرت على السيدة بيلوسي زعيمة المعارضة (الديمقراطية) في مجلس النواب، حيث بدت هذه اللغة تجسيدا لمظهر عام من مظاهر الوجه القبيح لعالم اليوم. ووضح ذلك من طريقة بيلوسي في التصفيق والإيماءات بالوجه وحفز النائبات الديمقراطيات اللاتي ارتدين كلهن ملابس بيضاء كلما قال ترامب شيئا في خطابه ليس على هوى الديمقراطيين، والطريقة المعاكسة كلما بدا الرجل متقاربا مع مواقف المعارضة!!.

ربما حدث ذلك في حالات سابقة من تاريخ العلاقة بين الرئيس الأمريكي والكونجرس، ولكن هذا الموقف لم يكن يوما مشهدا عاما بل استثنائيا ولم يستدعِ أي اهتمام إعلامي. هذه المرة توقف عنده الإعلام لأنه كان دليلا إضافيا على سلوك معين تكرر منذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض، إلا وهو السخرية كمظهر للتعبير عن الخصومة بين الرجل ومؤسسات الدولة الأمريكية ومنها الإعلام بالطبع.

هذه السخرية لا تقف فقط عند الوضع الأمريكي، وإنما تتعداه لمعظم الساحة العالمية حتى بين من يعدون في حكم الحلفاء والأصدقاء!

ولنا أن نتذكر بعض اللقاءات التي جمعت ترامب بقادة دول أوروبية كبار مثل الرئيس الفرنسي والمستشارة الألمانية ورئيسة الوزراء البريطانية، وظهرت على شاشات الإعلام. هذا فضلا عن أن التراشق بالكلمات الهجائية أحيانا أمر معتاد بين مسؤولين وقادة بعض الدول الذين في خصومة مع بعضهم البعض.

شيء من هذا السلوك (أي السخرية من الآخر) لم يكن قائما من قبل في العلاقات الدولية طوال فترة الحرب الباردة وبعد انتهائها بسقوط الاتحاد السوفييتي. فقط كان محصورا في العلاقة بين السوفييت والأمريكان كجزء من الحرب الباردة بينهم، وكان محدودا، وأما الآن فيكاد يكون أمرا معتادا بين غالبية الخصوم، بما يعكس بكل تأكيد تدنيا في السلوك الدبلوماسي وفي العلاقة بين القوى السياسية المحلية ذاتها هنا أو هناك!.

وهناك أيضا ما يمكن تسميته بتغييب المصداقية أي تعمد عدم المصداقية في تحديد المواقف، والمعنى هنا أن الرأي العام يجد نفسه أمام رؤية معينة تبعث فيه التفاؤل وهو يتابع أزمة ما، ولكنه على أرض الواقع سرعان ما يجد فعلا مختلفا أو عكسيا، حتى بات الرأي العام لا يصدق ما يسمعه وترسخ لديه الشعور بالشك الدائم في كل صغيرة وكبيرة حتى لو كانت صادقة حقا. هنا مثلا نتذكر ازدواجية المعايير، بمعنى أننا نجد معالجة بشكل معين تجاه مشكلة أو أزمة ما ونجد معالجة مختلفة تماما تجاه مشكلة أو أزمة أخرى متشابهة معها. لن نقف عند ما جرى مع العراق 2003 ولا مع ما يجري مع القضية الفلسطينية والموقف من الاعتداءات الإسرائيلية وانتهاك كل جهود إحلال السلام، فالقاصي والداني على دراية بهما.

ولكن يمكن الإشارة إلى أحدث النماذج لازدواجية المعايير وهو الموقف الأمريكي والأوروبي من التطورات الداخلية في فنزويلا حيث اتخذت الولايات المتحدة وكثير من الدول الأوروبية موقفا حادا برفض نيكولاس مادورو رئيسا للبلاد مع أنه منتخب واعترفوا برئيس البرلمان (المعارض) خوان جوايدو رئيسا، مكررين بذلك ما حدث في العراق.

وبغض النظر عن الجدل حول مدى صلاحية مادورو وتحميله مسؤولية التدهور الاقتصادي، فإن ما يتسق مع القيم السياسية الغربية هو أن يكون الشعب الفنزويلي هو صاحب الكلمة في الاعتراف بأي منهما، لا أن تكون هذه الأطراف وصية عليه كما حدث بالفعل وأشعل الأوضاع في البلاد وفتح الباب لخلافات دولية جديدة تزيد المشهد العالمي قبحا بعد أن قدمت بعض الدول الكبرى دعمها لمادورو. وهناك أيضا جانب آخر للوجه المعاصر القبيح للمشهد الدولي، وهو تزايد المد العنصري على النقيض تماما مما جاء به الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948. لقد شهد العالم مظاهر للعنصرية من قبل، ولكنها كانت محدودة خاصة بعد أن وضعت الولايات المتحدة نهاية لهذا العمل المشين منذ ستينات القرن الماضي. كما شهد العالم في السنوات الماضية القريبة حالات للعنصرية داخل أوروبا ضد المسلمين والعرب وكانت من عوامل تعكير العلاقات بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي وكانت أزمة البوسنة والهرسك مثالا حيا على ذلك، ثم هدأت هذه الموجة، لكنها عادت الآن أكثر حدة وشمولا مع انتشار تيار الشعبوية، وباتت هناك أحزاب غربية وفي أمريكا اللاتينية تتبنى شعارات عنصرية بلا مواربة وبعضها وصل إلى الحكم، بل أن أحد مشكلات ترامب مع خصومه الديمقراطيين هي موقفه المعادي للمهاجرين أيا كانت جنسياتهم فيما يعتبرونه ردة أمريكية عن إلغاء العنصرية، ولكن الرجل يجد قاعدة اجتماعية من الأمريكيين تدعم رؤيته!.

وهناك الشعور العام الذي يكتنف الجميع بلا استثناء في عالم اليوم وهو الخوف على الحياة، وهو خوف ذو شقين أحدهما أمني والثاني اقتصادي.

الأمني يتعلق بالخوف من الإرهاب والتطرف وكلاهما ضرب مساحة واسعة من عالم اليوم، ولا يحتاج هذا إلى تفصيل لأنه لسان حال الجميع في كل مكان.

وأما الخوف لدواعٍ اقتصادية فناجم عن تردي معدلات النمو في الاقتصاد العالمي والخلافات بين الولايات المتحدة والصين وبينها وبين أوروبا، فضلا عن تزايد معدلات الفقر العالمية، والاقتصاديون هم أكثر الناس دراية بواقع الأزمات الاقتصادية العالمية.

ويبقى جانب آخر من الأمثلة المؤكدة للوجه القبيح المعاصر لعالم اليوم، متمثلا في اللامبالاة بالإنسانية وتلك طامة كبرى، لأنه إذا كانت كل المواثيق الدولية التي جاء بها العالم الجديد بعد انتهاء الحرب الباردة لتشيع أجواء السلام والتقدم لكل البشر قد تحدثت باستفاضة عن حماية الإنسان وتقدمه ورفاهيته، فإن انتهاك هذه المواثيق جريمة عالمية بكل تأكيد، ولكن الجديد الأسوأ هو اللامبالاة بكل ما يجري من انتهاكات. وواضح ذلك تماما من أزمات المهاجرين من مناطق الحروب ومن الهجرة غير الشرعية ومن سقوط آلاف المدنيين الأبرياء ضحايا للحروب الأهلية وخصوصا من الأطفال وعدم قدرة منظمات الإغاثة الدولية على توصيل المساعدات الصحية والغذائية لمن يعيشون تحت وطأة الحروب.

طالما هذا هو حال السلوك فلا غرابة من ظهور الكثير من الأخطار الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية مما يلمسه الرأي العام المعاصر (داخل العالم الغني والآخر الفقير) صباح مساء كل يوم. فلا غرابة إذن أن يستمر الإرهاب أو ينتشر التطرف، أو أن تنتهك سيادة الدول دائما من خلال التدخلات الخارجية، أو أن يكون ديدن الإعلام كل يوم هو الحروب الكلامية بالحق والباطل، أو أن يجري اغتيال الشخصيات سياسيا من خلال التجريح الشخصي، أو إفساد العلاقات بين الدول من خلال ما أصبح يسمى بالتسريبات التي باتت مصدرا للمعلومات بدلا من المصادر الدقيقة الرسمية، وغالبا ما تكون هذه التسريبات خاطئة أو مجتزئة.

وقد ساعدت على ذلك عوامل كثيرة لم تكن قائمة من قبل، مثل وسائل التواصل الاجتماعي، والخلل الاقتصادي سواء على المستوى الوطني أو العالمي، وتنازع الهويات بعد انتشار النزعات القومية والتنافس الحاد على سباق التسلح. وقد يطول هذا التشنج في المواقف في عالم اليوم أو قد يقصر، لا أحد يستطيع على وجه أقرب لليقين بتأكيد هذا أو ذاك بسبب ضبابية الأوضاع الناجمة أصلا عن خلل كبير أصاب بنية النظام الدولي المعاصر. وإلى أن يجري إصلاح الخلل،لا تملك النظم الناجية سوى التشبث بقدراتها الوطنية وتعظيمها.