أفكار وآراء

فنزويلا.. المصلحة الوطنية أم الاحتراب الأهلي؟

01 فبراير 2019
01 فبراير 2019

إميل أمين - كاتب مصري -

[email protected] -

هل حدث انفجار الأزمة الفنزويلية مرة واحدة أم انه كانت هناك جذور تاريخية قادت إلى المشهد الحالي؟ ثم وهذا هو الأهم إلى أين يمكن أن تمضي الأزمة وهل يمكن لها ان تتسع عما هو الحال حاليا؟ أسئلة عديدة تواجه الناظر لما يجري في تلك الدولة الأمريكية اللاتينية وكلها تستدعي علامات التعجب والاندهاش، وتجعلنا نتساءل عن غياب انساق الحكومة ، في بلد غني جدا بالموارد النفطية، ويصل دخله السنوي الى قرابة نصف التريليون دولار سنويا، ولا يزيد تعداد سكانه عن 30 مليون نسمة.

ذات مرة في تسعينات القرن الماضي تحدث الرئيس الأمريكي بيل كلينتون بالقول: « إنه الاقتصاد، ويبدو ان التطورات أو على الأصح التدهورات الاقتصادية، التي شهدتها البلاد هي التي دفعت رئيس البرلمان الشاب « خوان غوايدو » لإعلان نفسه رئيسا مؤقتا للبلاد، مبديا بذلك وجه المعارضة لرئيس الدولة نيكولاس مادورو وليحصل سريعا على اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية، وما يشبه الضوء الأخضر من غالبية دول أوروبا، فيما الرئيس مادورو لا يزال يلقى الدعم من تركيا وروسيا والصين وإيران، أما بالنسبة لدول أمريكا اللاتينية فلا تزال المكسيك وكوبا وعدد من دول القارة اللاتينية تدعم مادورو، فيما البرازيل ذات الرئيس اليميني المنتخب والأرجنتين وكولومبيا تدعم غوايدو، في مشهد انقسامي واضح للغاية، وربما يعيد سيرة الأيام الأولى بعد الاستقلال لدول القارة اللاتينية.

والشاهد ان الأزمة التي تضرب فنزويلا سياسيا اليوم، ليست إلا رجع صدى لا يتلكأ ولا يتأخر للأحوال الاقتصادية المتأخرة، والتي أشار اليها تقرير لقناة سي ان ان الإخبارية الأمريكية اكد على ان المواطنين في فنزويلا، وعوضا عن ان يعرف الرخاء طريقه اليهم، باتوا يعانون شظف العيش بشكل كبير بسبب التضخم الاقتصادي الذي اثر على العملة البوليفارية، وتراجع الثقة بها منذ سنوات طويلة، فالبنك المركزي الفنزويلي توقف عن إصدار التقارير الدورية المتعلقة بالتضخم منذ عام 2014.

يمكن القطع ان الفنزويليين كانوا من أكثر شعوب القارة اللاتينية تأثرا بانخفاض أسعار النفط في الأعوام الأخيرة، فمن مائة دولار مع نهاية صيف 2014 إلى 30 دولارا في مطلع العام 2016، ما جعل معدلات التضخم في البلاد ترتفع في الفترة نفسها من 64% في سبتمبر 2014 إلى أكثر من 180 في يناير 2016، وهو رقم وصل في نهايات العام الماضي إلى 80 ألف بالمائة، ما جعل البحث عن رغيف الخبز في سلات المهملات شأن اعتيادي بين صفوف شعب يمتلك طاقة نفطية أكبر من مثيلاتها في العالم.

الاقتصاد أم السياسة؟

من ترك تأثيره السلبي على الفنزويليين: الاقتصاد أم السياسة ؟

حكما إن الدائرتين متصلتان اتصالا وثيقا جدا، ولفنزويلا توجهات سياسية واضحة، وتميل في سياساتها جهة اليسار، ومنذ زمن زعيمها الراحل هوجو تشافيز، والخلافات مع الجار الأكبر أي الولايات المتحدة الأمريكية تؤثر بشكل كبير على الأوضاع الاقتصادية.

عرفت دول أمريكا اللاتينية دائما وأبدا بانها الخلفية اللوجستية والجيواستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية، وشهدت في زمن الحرب الباردة وانقسام العالم الى معسكرين من حول حلفي الناتو ووارسو حالة من الاستقطاب غير المسبوق، بين دول يسار دارت في فلك الاتحاد السوفييتي، وأخرى حاولت الولايات المتحدة جعلها تابعة لها، وقد كانت فنزويلا في واقع الأمر ولا تزال عصية جدا على الطاعة الأمريكية.

اليوم تقوم الولايات المتحدة بدعم « غوايدو »، ومحاولة إزاحة مادورو، سيما وانه يناصب واشنطن العداء الأيديولوجي على الأقل، الأمر الذي جعل الروس يقولون إن واشنطن تقوم الآن بمحاولة أخرى لإشعال ثورة ملونة في فنزويلا من أجل الإطاحة بالرئيس الشرعي نيكولاس مادورو، وأنها هي من يقف خلف هذا الاستعراض الذي يحمل اسم « احتجاجات شعبية »، ضد ديكتاتورية مادورو، سيما وأنها لم تستطع تقبل فكرة وحقيقة أن الاشتراكيين ظلوا لسنوات عديدة في السلطة في فنزويلا، وحرموا واشنطن من السيطرة على الثروة الفنزويلية الرئيسة أي النفط، وتكتمل التراجيديا الآن في ان الأمريكيين لا يخفون تدخلهم الكبير في شؤون فنزويلا في الأيام الأخيرة. هل نحن في مواجهة لعبة شطرنج إدراكية جديدة بين واشنطن وموسكو؟

بالقطع في عالم السياسة الدولية فانه لا مجال لحسن النية، وفيما الصراع يشتد مرة جديدة، فان الروس بنوع خاص وهم الذين جربوا التدخلات الخارجية وبخاصة الأمريكية في الجمهوريات السوفيتية السابقة، مقتنعون بان هناك سيناريو تم وضعه مسبقا من قبل الولايات المتحدة، ولم يكن عفويا فقد اعلن الأمريكيون على مختلف المستويات دعمهم لزعيم المعارضة، وربما يطلب من مادورو والحديث هنا لخبير المعهد الروسي للأبحاث الاستراتيجية « ايغور بشنيتشكوف » ان تتجنب سفك الدماء، ومغادرة البلاد، وإذا ما رفض، فان فنزويلا مهددة بحرب أهلية وإدخال لاحق لقوات حفظ السلام.

سيناريوهات الحالة

إلى أين تمضي السيناريوهات بفنزويلا؟

يبدو ان هناك اكثر من سيناريو، في المقدمة منها إصرار الرئيس مادورو على البقاء في السلطة، مع ما يعنيه ذلك من تواصل الاحتجاجات، سيما وان الرجل لا يزال يرى في نفسه الرئيس الشرعي المنتخب في مايو الماضي كرئيس للبلاد، ومادورو رغم ان الولايات المتحدة تناصبه العداء، إلا أن هناك قوى داخلية وخارجية لا تزال تدعمه، ما يمكن ان يجعل من أراضي فنزويلا لاحقا ساحة لحروب بالوكالة، وفي مقدمة داعميه الجيش الفنزويلي الذي أكدت قيادته مرات عديدة ولاءها للرئيس مادورو، ووصفت ما قام به « غوايدو » بانه انقلاب على الشرعية.

ومعروف ان رجالات الجيش الفنزويلي لهم نفوذ وحضور كبير في داخل البلاد، ذلك انه من أصل 32 وزيرا، ينتمي 9 وزراء للمؤسسة العسكرية، ويشغلون حقائب بارزة مثل الدفاع والداخلية والزراعة والغذاء، بالإضافة الى أجهزة الاستخبارات وشركة النفط الوطنية التي تؤمن 96 % من عائدات البلاد، كما أن الجيش يسيطر على محطة تلفزيون ومنصة تجميع سيارات.

هناك في الداخل الفنزويلي كذلك جهات عديدة وفاعلة لا تزال تدعم مادورو من بينها القضاء، فقضاة المحكمة الدستورية موالون للرئيس، وكذلك الجمعية التأسيسية، والمجلس الوطني الانتخابي.

وفي الخارج فإن هناك روسيا والصين يدعمان مادورو بقوة، روسيا لأسباب سياسية، والصين لأغراض اقتصادية، والأخيرة دائنة لفنزويلا بنحو 20 مليار دولار، وتريد ضمانة سلامة البلاد، ليس فقط لتحصيل ديونها وإنما لأنها تنظر لفنزويلا على أنها منصة اقتصادية رائعة يمكن ان تنطلق منها الى بقية دول أمريكا اللاتينية لتحقيق الانتشار الاقتصادي اليوم، وتاليا بلورة وجود عسكري على أراضي البلاد، ضمن مخططات الصين القطبية للقرن الحالي والذي يليه.

أما روسيا وبرغم أنها اقتصاديا ثاني اكبر دائن لفنزويلا، إلا ان اهتمامها بها مؤدلج بصورة أو بأخرى، بمعنى أنها تنظر لفنزويلا كحليف سياسي يدور في فلك التاريخ البعيد والقريب، كما أنها ملعب جغرافي خلفي تستطيع من خلاله مناورة ومناوشة واشنطن، كما تفعل معها عبر أوكرانيا، ولهذا أرسلت روسيا قاذفتين و100 عسكري في ديسمبر الماضي للمشاركة في تدريب مشترك، وقد اتصل الرئيس الروسي بوتين بمادورو أخيرا لتقديم الدعم.

ماذا عن بقية السيناريوهات؟

هناك طرح آخر يقول بان مادورو وكي يجنب البلاد الحرب الأهلية يستطيع كحل وسط ان يتخلى عن الحكم، لكن لصالح شخص يثق فيه ويدور حول نفس الأفكار الاشتراكية التي تحكم البلاد، وان كان الرجل لم يبد أي تفهم لمثل هذا الطرح حتى الآن؟

سيناريو ثالث يتمثل في ان يقوم جنرالات الجيش الفنزويلي انفسهم بالقبض على زمام الأمور في البلاد، بحجة المحافظة على الأمن والاستقرار، وإعلان فترة انتقالية قد تصل الى عام مثلا، لحين ترتيب انتخابات داخلية، الأمر الذي قد يراه البعض مخرجا داخليا وطنيا بعيدا عن سيناريوهات التدخل الخارجي لا سيما الأمريكية.

سيناريو آخر مخيف وهو دعم الجيش لمادورو، في حين تتزايد الضغوط الشعبية والأهلية، الأمر الذي يمكن ان يؤدي الى حالة من حالات الحرب الأهلية الداخلية.

رمانة الميزان

هل يفهم من هذا الحديث أن الجيش الفنزويلي هو رمانة الميزان في الداخل اليوم؟ غالبا ذلك كذلك، ولهذا نرى حالة من حالات الاستقطاب الكبرى بين مادرورو وغويدو على القوات المسلحة وولاءها، فالأول يرى ان الولاء له من صفوف القوات المسلحة أمر مشروع وثابت ولا غش فيه، فيما يسعى غوايدو الى إضعاف الجيش الأساسي للرئيس متشجعا بالدعم الدولي الذي حصل عليه، وقد عرض العفو عن الموظفين والعسكريين الذين يوافقون على دعمه، في قانون قام أنصاره بتوزيعه الأحد الماضي على مراكز الشرطة والجيش في البلاد، وقبل ذلك أعلن الملحق العسكري لفنزويلا في واشنطن ان الكولونيل « خوسيه لويس سيلفا » انه لم يعد يعترف بمادورو. وبتحليل أعمق يمكننا النظر الى المشهد الفنزويلي الداخلي على أساس وجود مجموعتين.

الأولى تضم أعضاء داخل حكومة مادورو نفسها، تفكر جديا في تنحيته، وأخرى متمثلة في الجيش تدعمه…

هل يعني ذلك ان سيناريوهات التدخلات الخارجية غير موجودة على الطاولة لا سيما التدخل الأمريكي بنوع خاص؟

بعض الذين يؤمنون بفكرة المؤامرة يرون ان واشنطن ستقوم بإشعال أعمال الشغب في الشوارع الى ان تغدو مسألة إراقة الدماء حتمية، وهذا هو الوضع المثالي بالنسبة لواشنطن، أي إيصال الأمر لحرب أهلية، ثم سيكون هناك سبب مناسب ومجرب بالفعل لإدخال قوات حفظ سلام من دول مجاورة لا سيما البرازيل وكولومبيا بحجة الإطاحة بحكومة مادورو.

هل يمكن ان تشهد فنزويلا حوارا داخليا برعاية أممية تجنب الجميع إراقة الدماء والبعد عن سيناريوهات التدخلات العسكرية الأجنبية؟

الجواب موجود عند كافة الفنزويليين شعبا وحكومة، رئيسا، ورئيس البرلمان، وبين أياديهم مستقبل أوطانهم فانظر ماذا ترى هي خياراتهم للأجيال القادمة، وهل يغلبون مصلحة الوطن على توجهاتهم ورغباتهم الشخصية، أم يقودون الدولة إلى مزيد من الانشقاق الداخلي الأمر الذي يؤدي لاحقا إلى خسائر أعمق.