أفكار وآراء

عمان المستقبل : صناعة الأمل «4/6»

25 ديسمبر 2018
25 ديسمبر 2018

يوسف بن حمد البلوشي -

إنَّ ديناميكية النظامِ الاقتصاديِّ والاجتماعيِّ العالمي الراهن ، وما أحدثته من تغيرات في ظل العولمة من خلال ترابطات وتحديات وفرص تحتاج في التعامل معها مزيدًا من التأنِّي والقدرة على المواجهة، في سياقٍ عالميٍّ يتميز بالتقلُّب والتعقيد وتبدُّلات - مُتفاوتة التأثير- في مراكز القوى، وضبابية تكتنف مؤشرات الاستشراف والتنبؤ المستقبلي. وفي المقابل أوجدت أيضًا مُحفِّزات جديدة يُمكن التأسيس عليها في رحلة «صناعة الأمل» كآلية عمل تضمن تحقيق أهداف الخطط والاستراتيجيات، تدعم الجهود الحثيثة في البناء والتطوير، وتعمل على التغلب على أوجه القصور، والتغلب أيضًا على العوائق التي تَحُوْل دون تحقيق أهداف التنمية المستدامة، والسماح للتنمية بأنْ تكون متاحة للجميع.

وعلى المستوى الوطنيِّ، يتعيَّن إدراك أنَّ تحقيق تنميةٍ شاملةٍ ومستدامة ينشدُها الجميع، أمرٌ لا تُترجمه واقعًا الاعتباراتُ الاقتصادية فحسب، بل يتجاوزها إلى ما هو أشمل وأعمق: اجتماعيًّا، وسياسيًّا، وثقافيًّا. وفي القلب منها: شريعة الإيمان بالعمل ثم الإيمان بأن هناك أملًا، ذلك أنَّ الإيمان يدفع المواطن إلى بذل مزيدٍ من الجهد لتحقيق مزيدٍ من الرفاه الاجتماعي.

فمن قَلْبِ المحن تُوْلَد المنح، وَمَنْ صَنَع هذه النهضة المباركة، قادرٌ أبناؤه وأحفاده على استثمار ما تحقَّق للبناء عليه، لا سيما ونحن اليوم ننعم بوطنٍ زاخرٍ بالمقومات التي تُمكِّن من مُواجهة التحديات والانتقال إلى طور جديد من النمو، نتحرر فيه من أَسْرِ النفط وهو مَوْردٍ ناضب. إنَّ مَشْرُوعية الأمل في تحول اقتصاد سلطنة عمان إلى اقتصاد وطنيٍّ نامي ومستدام، تقودنا إلى الحديث عن واحدٍ من أبرز النماذج العَمَلية الخالدة ، والتي تُقرِّب المسافات بين النظرية والتطبيق لفهم طبيعة الدَّورات الاقتصادية وكيفية التعامل معها، اختصارها في قرآننا الكريم (سورة يوسف) «يُوْسُفُ أيُّها الصِّدِيْقُ أَفْتِنَا»، لتَنْسِجَ من خُيوط قِصَّة الكريم دروسًا وَعِبَرًا، دروسًا تستبدل ثقافة الاستهلاك بالادخار والعمل، والإنتاج، وتحقيق التوازن بين الإمكانات والطموح، وإصلاحٌ اقتصاديٌّ جذريٌّ تدعمه إرادة جادة من القيادات العُليا، واستجابة أجهزة الدولة بمرونة وسرعة، وإفراد مساحات أمام شراكة مجتمعية حقيقية لصياغة خطط تفصيلية للمستقبل تحدِّد أهدافًا قابلة للتنفيذ والقياس، واختيار الكفاءات، وإعلاء المصلحة العامة على كلِّ الحسابات الشخصية، وتحقيق درجة أعلى من التنسيق والتناغم بين الجهات المختلفة المعنية بالتنمية، وبناء علاقات تكاملية، وتبنِّي نماذج حوكمة رشيدة أساسها النزاهة والشفافية وتكافؤ الفرص، وأن تتضافر الجهود لتحقيق الهدف، وأنْ تضطلع المؤسسات المسؤولة عن صياغة الخطط المستقبلية بمسؤوليتها في مراجعة بعض النقاط المحورية، وتطويرها لتتفق والمعايير العالمية، وبناء إنسان عُماني قادر على إحداث تنمية شاملة باعتباره حجر الزاوية في كافة توجيهات مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ. لا شك في أن تجنب الأزمات يعتمد على مدى الالتزام بتطبيق سياسات معينة في كل مرحلة، بدلًا من التصدي المرتجل والتعامل بطرق غير علمية وغير مدروسة مع ما يحدث، وهو جلي ضمن دروس قصة سيدنا يوسف عليه السلام ألا وهو وجود خطة واضحة تفصيلية لإدارة شح الموارد، كما عرضها سيدنا يوسف عليه السلام بقوله (تزرعون سبع سنين دأباً…) إلى آخر الآية الكريمة، حيث إن الوصول للهدف مع وجود الرؤية والخطة ليس بالأمر السهل، بل يحتاج الكثير من الجهد، أما بدون الرؤية والخطة فيصبح النجاح ضربًا من ضروب الخيال والتمني، فكما يُقال «إذا فشلت في التخطيط فقد خططت للفشل» ، فهذا الزمن ليس زمن التمني، وإنما زمن التفكير والعمل الجاد والابتكار للتوصل إلى أساليب جديدة للخروج من عنق الزجاجة، بجاهزية عقول وسواعد تأخذ بالأسباب والشروط السابقة لتحقيق الاستدامة.

وعلى الرغم من أنَّ مُفردات التحوُّل الاقتصادي واضحة للجميع، بما تتطلبه سواء على المستوى الحكومي، أو الفردي، أو التشريعي والقانوني، أو العملي، وسياسات التنويع والتمكين، والإنتاجية والتنافسية، وتحقيق أعلى درجات الاستقرار المالي، لتكثيف اندماج اقتصادنا في الاقتصاد العالمي، وتحديد الأولويات، وتوفير التمويل اللازم للمشاريع، والاتفاق حول المهام والمسؤوليات ومواعيد الإنجاز، وصولًا إلى زيادة الناتج المحلي الإجمالي وتعزيز استثمارات رؤوس الأموال، وجعل القطاعات المستهدفة في خططنا المستقبلية بديلًا فاعلًا عن الاعتماد «شِبه الكلي» على النفط، كخيارات استراتيجية لا بديل عنها بما يهيِّئ الظروف لانطلاقة قوية تنقل السلطنة إلى عصر الصناعات الثقيلة، وتحسين كفاءة الإنجاز ومد جسور التعاون والمشاركة بين كافة الجهات المعنية، بمسؤولية واعية كل حسب موقعه ودوره، إلا أنَّ كلَّ ذلك لن يصنع مجدًا بمفرده، دون أن تترسَّخ في النفوس صناعة حقيقية يضطلع الجميع بمسؤوليته فيها.. تلك هي «صناعة الأمل»

[email protected]