المنوعات

على مَشارِف ذكرى جبرا إبراهيم جبرا

02 ديسمبر 2018
02 ديسمبر 2018

ماجد صالح السامرّائي•

في النهايات الأخيرة من عام 1964 انسحَب من واقع الحياة الإبداعيّة الشاعر بدر شاكر السيّاب... وفي البدايات الأُولى من الشهر الأخير لعام 1994 انسحب من واقع الحياة الثقافيّة اسمٌ كبير آخر هو جبرا إبراهيم جبرا.

وكلاهما كان مؤسِّسا لحركة جديدة في الشعر والأدب وفنون الإبداع تخطّت بتأثيراتها جغرافيّة أرض العراق، إلى الوطن العربي برمّته، وما سيُراكمه من إبداعٍ مُغايرٍ وثقافة نقديّة مُختلفة.

لعلّ أوّل ما يلفت الانتباه في حياة جبرا إبراهيم جبرا الأدبيّة هو هذه التعدديّة الإبداعيّة فيها وقد توزَّعت بين الشعر، والقصّة القصيرة، والرواية، والفنّ التشكيلي، والنقد في المجالَين الأدبي والفنّي، والترجمة (التي مَنَحها روحا إبداعيّة، وخصوصا في ترجماته لأعمال شكسبير التي قال لي يوما إنّه لم يُترجمها نصّا، وإنّما عمل، في ترجمته لها، على إيجاد «نصّ شكسبيري عربي موازٍ، من حيث اللّغة وروح الإبداع، للنصّ الشكسبيري الأصل).. ويُمكن إعادة هذه التعدديّة الإبداعيّة إلى القلق الذي عاشه «حياة داخليّة» اندفعت بكثير من محرّكات التمرّد عنده لتشكِّل عنصرَ تطوّر تمثّلَ في صُور الإبداع هذه بما احتضنَت من تجلّيات اتّسمت بطابِع التنوّع.

وهو، إنْ في نقده أم في إبداعه، واجَه، وأثار أسئلة جوهريّة مُنطلقها الحداثة، وأساسها التجديد الذي كان من أبرز صانعي زمنه، مُقدِّما، بعطائه الإبداعي والنقدي، علائق متقدّمة في الفكر النقدي والعمل الإبداعي. فالإبداع عنده عمليّة إضافة قائمة على الاستمرار ـ وهذا ما نجده في رواياته التي يستحضر في كلٍّ منها بُعدا جديدا ومتقدّما، سواء بما للشخصيّة في كلّ منها من حضور، أو بطبيعة انشغالاتها، وما تتطلّع إليه من آفاق تفتحها لنفسها، ولا تَدَع للواقع إمكان مُحاصرتها، أو مُصادَرة الإرادة التي وضعتها، حتّى وهي في أشدّ الحالات وأقساها (كما في «الغرف الأُخرى»..)

في هذا المستوى الإبداعي (الذي حرص على تأكيد وجوده فيه بالرواية)، ستتَّخذ روايته بُعدَين في مستواها السردي، وهُما: السرد السِيري لشخصيّاته من خلال ربطها بالواقع، والسرد التخييلي لما يضع شخصيّاته فيه من عوالِم وأجواء تَنسج وجودها فيها/‏‏ ومن خلالها.. وكثيرا ما نجدهما يتواشجان في «توافقٍ دراميّ» يجعل للعمل بنيته العميقة التي ارتبطت بـ«الفعل» و«الحركة» - كما في «السفينة»، وفي «البحث عن وليد مسعود»- أو نجد هذا «الفعل» مُصادَرا، أو مُهيمَنا عليه، كما في «الغرف الأُخرى»، حيث يَجد البطل فيها نفسه «مأسورا» لا يملك حتّى حريّة الحفاظ على اسمه، الذي يتغيّر بإرادة «الآخر».

ولعلّ هذا هو ما جعل أسئلته أسئلة ذات طابع جذري، سواء منها تلك التي تتبادلها شخصيّاته مع الواقع في مُواجَهة تحدّياته، أو ما يفتح بها/‏‏ ومن خلالها أُفق المستقبل. فهي شخصيّات تتحكّم باختياراتها وبتعيّن مواقفها (باستثناء ما عليه الحال في «الغرف الأُخرى»..)

إنّ ما في أعماله الروائيّة هذه من استحضار واقعي لا يحول بينها وبين استجماع أبعاد التخييل ـ البُعد المهمّ في حداثة جبرا في مستوى الرواية ـ ففي «السفينة» و«البحث...» استحضارٌ للزمن بعناصره، وفي تجلّياته. إنّ «وليد مسعود» يكسر عوالِم التخييل ليرتبط بدلالات الواقع، ويثير من الأسئلة ما يُعمِّق الوعي بكلٍّ من «الذّات» و«الحريّة».

أمّا ما كَتَب في السياق النقدي، إنْ في الأدب أو الفنّ التشكيلي، فإنه يُضيف به بُعدا آخر إلى إبداعه الشخصي، فضلا عمّا نحظى به من رؤية أوضح، وأبعد، لإبداعه الشخصي. فهو لا ينظر في الإبداع نظرة «ناقد مُحترِف» بقدر ما يأخذ نفسه، في نقده هذا، بمنظور المُبدع الذي يعنيه إبداعه بما يحقِّق فيه من خلْقٍ جديد، مُعتمدا في هذا ما يُمكن أن ندعوه بـ«لغة الجذور» بما لها من «جوهرٍ تكويني».. فهي « لغة تجربة»، و«عُمق نظر» في الواقع في ما له من امتدادات طويلة، لنجده كلّما تقدَّم في ما يَكتب تعزَّزت روح الانتماء عنده إلى كلٍّ من الزمان والمكان، وكلّما واصلَ النظر النقدي في «النظير الإبداعي» تأصَّلتْ لغته، ونضج التعبير معزَّزا بقوّة الفكر، فهو لم يُعنَ بإنشاء «نظريّة» يستجيب لمحدِّداتها في ما يَكتب، بقدر ما عُنيَ بإنضاج التعبير الإبداعي في كتاباته، ما جعل من تلقائيّة الإفصاح عن أفكاره، والكشف عن رؤيته، من خصائص كتاباته، فنيّا وموضوعيّا. فالكاتِب - بحسب ما يراه - هو مَن يعي العالَم الذي يعيش فيه، ويتعاطى معه بوعي نقدي. وهذا ما جعلَ الإبداع والنقد يتناميان عنده بما يقترب بعمله من مفهوم «الوحدة العضويّة»، بُعدا ومعنى.

لم يكُن هذا الدور، الذي اضطّلع به جبرا، صغيرا أو عابرا في المرحلة التي تكوَّن فيها ثقافيا، وكَتَب ما كتب، وإنّما كان «دَورا جدليّا»، وبموضوعات كبرى خصَّت الإنسان بما ينبغي أن يكون له/‏‏ وفيه من قيَم الحياة، والحريّة.. وبذلك لم ينفصل الفكر منه عن الإنسان، ولا انبتَّتْ الرؤية عن الوجود، ولا ابتعدَ الموقف منه عن الشعور بالتحوّل.

وكان شاهد حريّة، إنْ في الإبداع بضروب التنوّع «نوعا»، وإن في المَوقف الذي بناه على قيَم التحوّل، والتغيير، والتجديد، بما يُشكِّل إضافة حيّة.. لذلك لا نجده يُناقش من القضايا إلّا تلك التي تتعلّق بالإنسان والإبداع. فهو صاحب «نَهجٍ فكري» قِوامه الإنسان والتجربة، مُدرِكا أنّ «التجربة» لا يُمكن تحويلها إلى «عمل كبير» إلّا إذا انصهرنا بها، وعشنا نتائجها، مهما كانت عنيفة وقاسية الوَقْع، لا ليعطينا أجوبة، بل ليقول لنا: إنّ طريق الإبداع، الطويل، يبدأ من هنا.

فمِن أين اجتمعَ له هذا كلّه؟

لم تكُن الطريق إلى ذلك واحدة. فإنْ كانت النشأة، قد بدأت من «الكليّة العربيّة في القدس» حيث الدروس التأسيسيّة فيها لكلٍّ من إسحاق موسى الحسيني، وإبراهيم طوقان، وعبد الرحيم محمود، فإنّها ستَجد تماسكها في «جامعة كيمبردج» في إنجلترا، ومَن كان فيها من نقّاد، هُم أساتذة النقد فيها، لينهج نهْج «مدرسة النقد الجديد»، ويعود، في عودته الثانية منها، إلى بغداد فيرفد مجدّديها، في الشعر والرسم، برؤية بلورتْها عنده تلك المفهومات الثقافيّة التي حملها في رأسه، لا في كُتب تحملها يداه. ومنها بدأ طريقه الطويل مركِّزا على الأبعاد الكليّة للرؤيا الجديدة التي راح يكرِّسها مع بدر شاكر السيّاب في الشعر، ومع جواد سليم في الرسم... ورَسَم هو الآخر، وأصبح من مؤسّسي «جماعة بغداد للفنّ الحديث» (1951) التي وضع اللّبنات الأُولى لها الفنّان جواد سليم، معزِّزا الوعي بالاثنَين: الإبداع، وطريقة تلقّيه.

وإذا كان جبرا في ما كَتَب في الفنّ، بوجهٍ خاصّ، قد عمَّق مفهوم الأصالة، التي أمكن التأسيس لها في هذا الفنّ، فذلك لأنّها كانت صفة فذّة في حياة مدينة مثل بغداد. فإذا ما ارتدَّ منها إلى القدس وجَد نفسه يعيش حياة/‏‏ تجربة مغروسة الجذور في أرضَين: الواقع والتاريخ.

وأمّا بحثه واهتمامه بـ«الأسطورة التمّوزيّة»، من بين أساطير وادي الرافدين، فهو ما جعل لها الدَّور الذي ستلعبه في الشعر بخاصّة، مُحقِّقا للقصيدة الجديدة فرادتها/‏‏ وتفرّدها الموضوعي. فالكشف عن المستوى الرمزي لـهذه «الأسطورة التموزيّة» قد جعل منها أُسطورة مؤسِّسة للرؤيا الجديدة عند شعراء الحداثة العربيّة.. فهي، بمضمونها، تُفضي إلى ما يُشكِّل «ديناميّة مغيِّرة» لكلٍّ من الواقع وأُسلوب التعبير عنه، وفي بناء رؤيا جديدة.. فهي أُسطورة تحريك لكلٍّ من الواقع والزمن. ومن هنا عمق دلالتها الرمزيّة.ومع أنّه كَتَب النقد بالتزامن مع مُمارسته الإبداع، فإنّه سيُصرّح، في ذات حديثٍ لي معه، أنّ ما كَتبه من نقد لم يكُن إلّا دفاعا عن طريقته، هو، في الكتابة.. ما يعني أنّه «صاحب مشروع ثقافي». وكما أصبح هناك إبداع قائم على وعيٍ حداثي ورؤيا متفرّدة، كان هناك نقدٌ يرفد هذه «الرؤيا الجديدة» بما يمكن أن ندعوه «وعي القراءة» القائم على ما يمثّله/‏‏ ويتمثّل فيه الوعي القادر على خلْق تصوّرات جديدة لعالَمٍ (إبداعي) يمثّل «رؤيّة جديدة» للعالَم، و«رؤيا جديدة» في العالَم.

ونعود إلى بغداد، التي كان له هذا كلّه فيها/‏‏ ومن خلالها:

فإذا كانت القدس، بالنسبة إليه، فضاء وذاكرة، فإنّ بغداد ستُمثّل نهضة أفكار ورؤى جديدة.. فهي مدينة وجدها، يوم جاءها، تَنطلق بروحٍ نهضويّة جديدة، وكأنّ «الشيخوخة العثمانيّة» التي أناخت على أرضها قرونا عديدة لم تطل روحها التي ما لبثت أن توهَّجت بتوهُّج التجديد الإبداعي فيها، لتكون منطلق الحداثة العربيّة الجديدة...

في بغداد سيحقِّق جبرا الحضور والتوازن الحقيقي لكِتاباته وتَرجماته (التي شكَّلت حالة تكامل في حياته الثقافيّة). فبدأ الكتابة والنشر باطمئنان ويُسر. لقد وجدَ نفسه في حاضرةٍ لها ثقافتها وفنونها وتراثها العريق، وقد بدأ هذا كلّه، مع سنة وصوله إليها واستقراره فيها (1948) يتحرَّك باتجاه المستقبل، فكانت شرارة التجديد الأولى في الشعر والفنّ التشكيلي، ووجَد نفسه في خضمّ ما كان يتطلَّع إلى أن يراه ويكون له إسهامه فيه، وهو الذي جاء من «كيمبردج» بفكرة أنّ التجديد، والجديد، هُما ما يؤسِّسان لمستقبل حقيقي. ووجد في بغداد مدينة الحلم، لا الحلم الذي حملته ليالي «ألف ليلة وليلة»، وإنّما هو حلم شاعر كالسيّاب، وفنّان كجواد سليم، إلى جانب مُهندسين معماريّين عملوا على إعادة بناء تراث المدينة بروح جديدة ورؤية جديدة. ولم يكُن جبرا خارج هذا الخضمّ، وإنّما كان من صلبه، وكان له إسهامه المميَّز الذي شارك به هذه النخبة قلقها الإبداعي، فإذا هو «المايسترو الثقافي» لهذه الحركة التي أقامت، بعملها المتوافق مع بعضه، ضربا من ضروب «الدراميّة الخلّاقة» وأسَّست لوجودٍ ثقافيّ جديد، مُغايِر لكلّ ما سبق، وقد جعل من بغداد المدينة واقعا يَنتظم، بإبداعه وبمُعطيات ثقافته الجديدة، في نِطاق «الخيال الخلّاق» الذي قام على اكتشاف ما لهذه المدينة من قدرات التواصل مع التاريخ والتراث، ومع معطيات الحضارة الحديثة. وكانت الدهشة في أن يتحقَّق هذا كلّه في قصيدةٍ للسيّاب، وفي لوحةٍ زيتيّة لفائق حسن، وفي عملٍ نَحتيّ لجواد سليم يجعل لأرض الواقع عُلوّها الذي لا يُطال إبداعا.

*كاتب وناقد عراقي

** ينشر بترتيب مع مؤسسة الفكر العربي