الملف السياسي

سياقان عمانيان لفهم وتحليل الحدث السياسي

05 نوفمبر 2018
05 نوفمبر 2018

د. صلاح أبونار -

طرحت زيارة بنيامين نتانياهو رئيس وزراء إسرائيل للسلطنة تساؤلات طبيعية حول أسبابها وما يمكن أن يترتب عليها. وهو ما صاحبته عدة تفسيرات، في أعقاب الزيارة، غير أنه لم ينجح اغلبها في وضع الحدث السياسي في سياقه الصحيح، بل وضعه وفسره عبر سياقات أخرى.

سياقات ذات صلة به، لكنها صلة فرعية عارضة أو افتراضية لا تسندها وقائع. وبالتالي يصعب اعتبارها معبرة عن السياق الأساسي المفسر. وسنجد السياق الأساسي داخل السياقات العمانية ذاتها، وبالتحديد داخل سياقين: السياق الخاص والمباشر للحدث السياسي، والسياق العام للسياسة الخارجية العمانية.

ماذا بشأن السياق الخاص والمباشر؟ استهدف اللقاء أساسا سبل دفع عملية السلام والاستقرار في الشرق الأوسط، في محاولة لاستكشاف طريق لإخراج مفاوضات السلام من شللها الراهن عبر الحوار مع السلطنة. وهذا الشلل مصدره «أسباب معروفة وجوهرية»، حسب توصيف معالي يوسف بن علوي بن عبد الله الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية. وقد انطلق الدور العماني بناء على طلب من الطرفين للاجتماع بصاحب الجلالة، وطرح رؤيتيهما لعقبات التقدم عليه والاستنارة بآراء جلالته - حفظه الله ورعاه - أملا في تحقيق تقارب بين رؤيتيهما. ولكن عمان في استجابتها لطلبهما لا تعتبر نفسها وسيطا للمفاوضات يطرح عليهما خطة محددة، وحسب تصريحات معالي يوسف بن علوي:« من يقول إن هناك خطة لا يلام كمراقب، لكن نحن ليس لدينا خطة محددة في هذا الشأن، إنما هم قد سمعوا آراء قد تكون مفيدة لهما». وفيما يتعلق بأسس الرؤية الذاتية للسلطنة للحل العادل للمشكلة، فهي ذات أسس الرؤية العربية العامة والفلسطينية:«إقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية في إطار حل الدولتين الذي أقره المجتمع الدولي». وذلك عبر الحوار والتفاوض والوسائل السلمية، والاعتراف والتعامل العربي مع إسرائيل كجزء من دول المنطقة، مقابل اعتراف إسرائيل بواجباتها التي أقرها القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة بشأن القضية الفلسطينية.

تكون هذا السياق الخاص عبر عدة محطات أساسية. سنجد الأولى في زيارة معالي يوسف بن علوي بن عبد الله إلى رام الله في 15 فبراير 2018. وقد جاءت الزيارة في خضم تداعيات قرار ترامب بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ووعي السلطنة بدورها في التعامل مع مثل هذا التطور . وقد زار معاليه المسجد الأقصى في القدس الشرقية المحتلة بعد اجتماعه بالرئيس عباس. والزيارة في حد ذاتها مهمة، وتمتلك دلالة رمزية وسياسية لاشك فيها، ولكن الأهم هو دلالة تصريحاته بشأن الزيارة. وجاء فيها: انه « يجب ألا يشعر الشعب الفلسطيني أنه يقف وحيدا، وأن كل الشعوب العربية تقف معه». وأضاف:«سوف نذهب إلى القدس، ويجب أن نكون هناك معهم، والمطلوب عمل جاد مع الفلسطينيين من أجل دعمهم في بناء وطنهم، وشد الرحال إلى المدينة المقدسة نصرة لأهلها المرابطين في أكنافها، ودعما لهويتها العربية والإسلامية. زيارة السجين ليست تطبيعا مع السجان». واكد أن :«قيام دولة فلسطينية ليس هبة، وإنما هي ضرورة تاريخية وحضارية وجغرافية، ولا يمكن تحقيق الاستقرار والتطور وبناء ثقافة التسامح إلا بقيام دولة فلسطين بكامل أركانها».

وسنجد المحطة الثانية في خطاب معالي يوسف بن علوي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 28 سبتمبر 2018. ففي خطابه ركز معاليه على مطالبة المجتمع الدولي بالتدخل لإنقاذ عملية السلام:«القضية الفلسطينية هي القضية المركزية لمنطقة الشرق الأوسط، واصبح تعاون المجتمع الدولي لإيجاد بيئة مناسبة تساعد الأطراف على إنهاء الصراع ضرورة استراتيجية ملحة». وأضاف: أن السلطنة تعتقد:« أن الظروف القائمة حاليا رغم صعوبتها وتوقف الحوار، باتت مواتية لإيجاد بيئة مناسبة لنقاشات إيجابية بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي للتوصل إلى تسوية شاملة على أساس حل الدولتين». ونوه إلى أن السلطنة « على استعداد لبذل كل جهد ممكن لإعادة بيئة التفاؤل للتوصل إلى اتفاق شامل». وهذا الاستعداد العماني لا ينطلق فقط من الإيمان بعدالة القضية الفلسطينية، بل أيضا من :« إيمان بلادي أن الحوار والتفاهم هما انسب الوسائل لحل الخلافات».

وجاءت المحطة الثالثة والأخيرة في زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس لمسقط واجتماعه بصاحب الجلالة السلطان المعظم - حفظه الله ورعاه - وقد جاءت الزيارة فيما بين 21 و23 أكتوبر الماضي، أي قبل زيارة نتانياهو بيومين فقط . وبعد انتهاء زيارة نتانياهو، أرسل جلالة السلطان المعظم رسالة إلى الرئيس الفلسطيني، كما قام معالي يوسف بن علوي بن عبد الله بزيارة إلى رام الله، حيث التقى مع الرئيس عباس وهو ما يكمل دائرة الاتصالات والوقوف على وجهات النظر الفلسطينية والإسرائيلية . وتشير الخطوة الثالثة إلى أن السلطنة كانت ترفق اقتناعها بضرورة إطلاق جهد تفاوضي جديد، بناء على طلب الطرفين واقتناعها الذاتي بضرورة هذا العمل، بمساع عملية للتقريب بين المواقف. ولكن وكما تشير البيانات الرسمية المعلنة عن الاجتماعين، فإن مسيرة التقريب والتقارب لا تزال بالطبع في مراحلها الأولى. وتلك هي طبيعة الأمور. يتصل السياق التفسيري الثاني بالسياق العام للسياسة الخارجة العمانية. ما الذي تخبرنا به خبرات هذا السياق الأعم؟ انطلقت السياسة الخارجية العمانية في سياق وضع ذي خصائص داخلية وجغرافية وإقليمية محددة، كان لها تأثيرها العميق على صياغتها. داخليا سنجد أمامنا دولة قديمة ذات تراث حضاري وتاريخ سياسي ممتد، يعاد تأسيسها على نموذج دولة الرفاه المركزية التنموية الحديثة، بعد فترة طويلة من الركود والعزلة، وبالارتكاز على موارد نفطية محدودة نسبيا، وعبر إيقاع سريع ومخطط يخوض سباقا من الزمن. وجغرافيا تحتل عمان موقعا استراتيجيا مهما مؤثرا، فهي تشكل جزءا كبيرا من الساحل الجنوبي للجزيرة العربية في مواجهة المحيط الهندي ومن بعده الباسفيكي، في تماس مباشر مع حركة التجارة البحرية العالمية. وتشارك إيران في الإشراف على مضيق هرمز، وتجاور الجزء الأعظم من مخزون وموارد النفط العالمي، بأهميته الاستراتيجية للأمن والاقتصاد العالميين. وإقليميا تعيش داخل نظام إقليمي شديد الاستقطاب، وزاخر بصراعات عالية الوتيرة، ومفتوح أمام أدوار إقليمية ودولية نشطة تميل لتكوين تحالفات واستقطابات دائمة، وتتغلغل فيه الصراعات المرتبطة بالتحرر الوطني والقضية الفلسطينية والتضامن العربي بتحالفاتها وصداماتها المتواصلة والعميقة.

ولقد فرضت تلك العوامل أثرها وساهمت أيضا في تشكيل السياسة الخارجية العمانية، خاصة فيما يتصل بأهمية تأمين مشروع النهضة الوطنية، وتلافي مخاطر ومزالق البيئة الجغرافية والإقليمية، وما تحمله من صراعات واستقطابات لا ضرورة لها، وفي الوقت ذاته تحمل الالتزامات والأدوار التي يفرضها الموقع الاستراتيجي العماني بإخلاص وكفاءة ، والالتزام العماني بقضايا الأمة العربية. ومن أجل النجاح في تحقيق تلك الأهداف تم تبني قيما ومفاهيم سياسية محددة . ماهي هذه القيم والمفاهيم؟ يشير الباحثون إلى عدة قيم ميزت السياسة العمانية عن بقية الدول العربية، واغلبهم يجمع على قيم الواقعية السياسية والبراجماتية والاعتدال والحياد والالتزام بالقضايا والحقوق العربية. تعني الواقعية الاعتراف بحقائق الواقع، أي بموازين القوى وطبيعة التحالفات وضروراتها، وحقائق الجغرافيا السياسية، ومنطق اللحظة التاريخية المحددة بتجلياته الصاعدة والهابطة. ولكن الواقعية لا تعني بالضرورة التسليم بأبدية الواقع، بل ترى في ذات لحظة تسليمها به إمكانية تغييره عبر الانطلاق من الاعتراف به. بينما تعني البراجماتة ضرورة الاستكشاف العملي للواقع، وضرورة تجريب سياسات جديدة للتعامل معه، والقناعة أن ثمة إمكانيات إيجابية في الواقع يمكن تنميتها، وأخرى سلبية يمكن كبحها وتهميشها عبر التعامل معه، وانه لا توجد تناقضات وصراعات دائمة وعلى درجة ثابتة من القوة، وبالتالي لا توجد تحالفات وعداوات دائمة. ويعني الاعتدال أن المواقف السياسية الحدية إذا كانت في بعض الأحيان ضرورية من اجل حسم جذري لصراعات معينة، يمكن أن تتحول في مواقف أخرى إلى وسيلة لإعاقة أي تقدم وتأجيج الصراع. وان الاعتدال يمكن أن يكون وسيلة للوصول إلى الحق الكامل عبر التدرج والتوسط وتجزئة الصراع، ويمكن أن يتحول إلى مصدر لقوة إضافية عبر حشد الموارد وتوسيع التحالفات. ولا يمكن الحديث عن الحياد بشكل مطلق، فكل حياد هو في جوهره حياد نسبي. من حيث علاقة الحياد بموضوع المشكلة السياسية، فهو لا يعني غياب الموقف من هذا الموضوع وبالتالي غياب الفعل المؤثر فيها، بل يعني عدم الاندراج في آليات الصراع والاستقطاب المتصلة بالمشكلة. ومن حيث علاقته بممارسة التحالفات لايعني مخاصمة منطق التحالفات وممارساتها فلا سياسة بلا تحالفات، بل يعني أساسا الحرص على تعدديتها ونسبيتها وتوازنها. وتأتي في النهاية قيمة الالتزام بالحقوق والقضايا العربية. فالحقوق العربية مقدسة، من استقلال الإرادة السياسية والحق في الثروات الوطنية وتحرير الأراضي المحتلة وعروبة القدس والدولة الفلسطينية المستقلة، وماهو موضع نقاش ليس الحق نفسه، بل سبل وسياسات تحقيقه. ونحن نلمس التجلي الواضح لتلك القيم في السياسات العمانية تجاه الأزمات العربية الراهنة، من أول موقف السلطنة حيال التطورات في سوريا وعدم قطع علاقاتها بنظام الحكم السوري ومحاولتها للتوسط بين الأطراف السورية، وكذلك رفضها للمشاركة في حصار قطر، وحتى السعي إلى إنهاء الحرب في اليمن ومحاولة التوصل إلى حل سلمي في اليمن الشقيق . وكلها مواقف أثبتت التطورات صحتها.

ويمكن القول إن هذا السياق العام يمنحنا إمكانية تفسيرية للتحركات العمانية الأخيرة، تستكمل دلالة التفسيرات التي يقدمها السياق الأول والخاص، وسيساعدنا على فهم ما يمكن أن تفرزه الأيام القادمة من تطورات أخرى محتملة.