أفكار وآراء

«نوبل» عربية للطاقة

31 أكتوبر 2018
31 أكتوبر 2018

مصباح قطب -

تلقيت منذ أيام رسالة تحمل نشرة شركة «ايني» الإيطالية المعروفة تقدم آخر أخبار الشركة. توقفت طويلا عند الخبر الخاص بـ«جائزة نوبل في الطاقة». هي ليست جائزة من السويد -موطن نوبل- لكن القصة هي أنه لأجل تشجيع الابتكار في مجال التوصل إلى استخدامات أفضل لمصادر الطاقة، ودفع البحث العلمي والاختراعات، وحفز جيل جديد من الباحثين الشبان في إيطاليا وحول العالم، أسست مجموعة «ايني» الإيطالية ما تعتبره جوائز «نوبل» للطاقة، وهي عبارة عن مجموعة جوائز كل واحدة في حقل ذات صلة وجائزة أخيرة يتم تقديمها إلى الشباب المجتهد.

يتم توزيع الجائزة سنويا منذ عام 2007م، وقد اجتذبت الجائزة حتى الآن ما يصل إلى 7990 مشروعا تقدم بها بهدف الفوز علماء وخبراء من جميع أنحاء العالم على مدار السنوات العشر الماضية.

ضمت جوائز إيني لعام 2018 العديد من الفائزين والمشاريع البحثية البارزة، وتم تقديم الجوائز لكل فائز من رئيس الجمهورية الإيطالية، بعد تقييم دقيق أجرته لجنة علمية، مؤلفة من باحثين وعلماء عالميين مشهورين، بما في ذلك كبار الفائزين بجائزة نوبل، وجرى ذلك في حفل رسمي أقيم في 22 أكتوبر في قصر «ديل كوير الينال الفاخر». بطبيعة الحال كان هناك حفل مكتمل عرضت فيه ايني جهودها على صعيد بناء مستقبل آمن للطاقة من حيث الإتاحة والاستدامة والتواؤم مع البيئة وجهود معاملها وباحثيها.

ذهبت جائزة نقل الطاقة إلى عمر ياغي، أستاذ الكيمياء في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، والذي ركزت أبحاثه على ما يسمى بالكيمياء الشبكية، وقد وجد أنه من المنطقي لتحقيق هدف بحثه أن يتم «اللعب» بالمادة/‏‏المواد على المستوى الذري، الأمر الذي قاد إلى إثبات كيف يمكن، بفضل إنشاء أطر معدنية عضوية وأساسية تساهمية، أن يتم تخزين ونقل الطاقة بكفاءة أعلى، وتحسين التقاط وتحويل ثاني أكسيد الكربون والماء من الرطوبة في الهواء.

أما الجائزة الثانية فذهبت إلى «سانغ يوب لي»، وهو أستاذ في قسم الهندسة الكيميائية والجزيئية الحيوية في المعهد الكوري المتقدم للعلوم والتكنولوجيا (KAIST)، فبالإضافة إلى مساهمته في العديد من المقالات في الدوريات العلمية الدولية، وعمله كأستاذ فخري في العديد من الجامعات ذات الشهرة العالمية فهو رائد في هندسة التمثيل الغذائي وأن أبحاثه الأساسية في الهندسة الأيضية (تحويل الغذاء إلى طاقة) للكائنات الحية الدقيقة هي الأساس لإنتاج أكثر استدامة من مختلف المنتجات الطبيعية والكيماويات والمذيبات والوقود والمواد من الموارد المتجددة، وذلك بفضل إحداث تطور في دورة الكائنات الدقيقة والميكروبات، ويعد هذا اكتشافًا مهمًا نظرًا للحاجة إلى منتجات ذات تأثير بيئي منخفض جدًا طوال دورة حياتها بالكامل في المستقبل القريب.

أما جائزة حدود الطاقة، ففاز بها البروفيسور «زونك لين وانج»، الرائد في مجال تقنيات النانو وتكنولوجيا النانو، والابتكار الذي جاء منه يسمح بتطوير الطاقة الهامشية التي تنتج عن حركات ضئيلة أو اهتزازات.

وكما أشرت تم في النهاية منح جائزتين لاثنين من الباحثين الإيطاليين الشباب الذين تفوقوا على أقرانهم. والفائزان لعام 2018 هما «جيانلوكا لونغوني»، من جامعة «ميلان بيكوكا»، و«ميشيل دي باستياني» من جامعة بادوفا -المعهد الإيطالي للتكنولوجيا-، الأول يقوم ببحوث يمكن أن تضع الأساس لما سيصبح الجيل التالي من البطاريات وإنتاج بطاريات قابلة للشحن من مصادر متجددة بالكامل، وركز الثاني على استقرار الخلايا الشمسية من الجيل الثالث.

ما بعد الخبر ننظر إلى زوايا الحدث، فكما نعلم إن الطبيعة التي توزع خيراتها بمقادير دبرها رب الكون، لم تكن سخية فيما يخص الطاقة مع بلدين كبار لهما إطلالة على البحر المتوسط، هما تركيا وإيطاليا، فكلتاهما تستورد معظم احتياجاتها من البترول والغاز من الخارج. وفي ظل الواقع كذلك يصبح رفع الاحتفاء بالابتكار والإبداع في مجال الطاقة إلى مقام نوبلي حدثا منطقيا تماما في بلد كإيطاليا. وفي هذا البلد بالذات عوض الإنسان باجتهاده الكثير مما لم تجد به الطبيعة، بحيث إن وجود شركة مثل «ايني» بقدراتها يعد في ذاته نوعا من أمن الطاقة لهذا البلد، وكما نعرف فـ«ايني»  من بين شركات تعد على أصابع اليد في العالم تملك آليات وتقنيات وقدرات البحث والاستكشاف عن البترول والغاز في المياه العميقة، وهي تعمل حاليا بواحد من أكبر الاكتشافات الغازية الحديثة في العالم، ألا وهو حقل «ظهر» في المياه الاقتصادية لمصر بالبحر المتوسط. ومن الطبيعي أيضا طبقا للخبر أن يكون رئيس الدولة حاضرا في حفل كذلك، وتلك إشارة إضافية ليس على قوة الجائزة وقيمتها فحسب، ولكن أيضا على الأهمية السياسية التي توليها إيطاليا للبحوث في هذا المجال. نعلم جميعا ما يدور من صراع خفي بين تركيا وكل من قبرص واليونان، حول مكامن الغاز في المياه العميقة بالمتوسط، وهو صراع لا يبدو أن منطق القانون الدولي وقانون أعالي البحار وترسيم الحدود هو السائد فيه، حيث يريد أحد الأطراف أن يضع قدمه في الاكتشافات الحديثة أو يمنح لنفسه الحق في ذلك، دون موجب أو مقتضى، ولذلك هل يمكننا أن نشير إلى أن النهج الإيطالي يمكن أن يكون درسا في التعامل مع شح موارد الطاقة .. نهج الاستدراج السلمي للعبقريات وللبحوث التي تخدم البلد -مانح الجائزة- وتخدم البشرية في العموم بدلا عن التلويح بلغة القوة.

ونأتي إلى النقطة الأخيرة وهي ماذا عنا نحن بحثيا وعلميا، وأقصد الدول العربية التي تملك قدرا وفيرا من مخزونات البترول والغاز، أو تلك التي لا تملك إلا القليل وبما لا يوفي احتياجاتها، أو لا تملك بالمطلق ؟. يوجد عدد لا بأس به من الأكاديميات والمعاهد والكليات المعنية ببحوث البترول والغاز والطاقة في الدول العربية، لكن منتجها العلمي قليل للغاية، وفى بعض الحالات - مثل حالة كليات البترول في بعض الدول - فإن خريج مثل تلك الكلية لا ينظر إليه بتقدير كبير، ويحتاج إلى أن ينتظر طويلا ليجد فرصة عمل، وقد لا يحصل عليها بالمطلق نتيجة عوامل لا دخل له بها رغم وجود الوظيفة؟. كما أن ما يتم الإعلان عنه من نتائج بحوث لمعاهد بحوث البترول لا يدل على انشغال حقيقي بالمأزق الذي تعيشه البشرية في مجال الطاقة، والأهمية القصوى للتحولات التي تجرى على هذه الساحة، والمحاولات المضنية لتنويع خليط الطاقة الآن وفي المستقبل، بما يؤمن احتياجات الدول، ويحافظ على الموارد الطبيعية للأجيال المقبلة، ويحفظ الأرض من اختلال بيئي ستكون عواقبه وخيمة.

هل انتظر مع ما قلت نوبل عربية في الطاقة من شركاتنا الكبيرة ؟. انظر بتقدير إلى محاولات عربية جادة في أكثر من بلد لتنويع مصادر الطاقة وتطوير الهيكل الاقتصادي، بما يقلل من الاعتماد على مصدر واحد - تقريبا- للدخل القومى، واعتقد أن تقديم جائزة كتلك يمكن أن يلعب دورا كبيرا في دفع تلك الجهود، بالإضافة إلى ما يعنيه على الصعيد الدولي والحضاري.