الملف السياسي

ماذا بعد تلويح ترامب بالانسحاب من المعاهدة النووية؟

29 أكتوبر 2018
29 أكتوبر 2018

هاني عسل -

ما هي الخلفية التاريخية وراء تلك المعاهدة ؟ وما هي تأثيرات تصريحات ترامب والانسحاب المحتمل على مختلف القوى العالمية؟ ومن يرحب، ومن يعارض؟ وماذا سيحدث بعد ذلك؟ وما هي تأثيرات هذا الانسحاب على المشهد الدولي، وعلى معاهدة وقف التسلح الأخرى؟

أولا، يجب التنويه أولا إلى أن هذه المعاهدة تم التوقيع عليها بعد عناء شديد، وفي فترة تؤرخ تقريبا لنهاية الحرب الباردة بين القطبين الأمريكي والروسي من 1945 إلى 1989، حيث كانت هناك مخاوف غربية طوال أجزاء كبيرة من تلك الحقبة من خطورة صواريخ إس إس 20 المتوسطة التي كانت تمتلكها روسيا، لأنها كانت تضع غرب أوروبا في مرمى النيران السوفييتية، خاصة مع امتلاك موسكو وقتها قواعد في دول قريبة في شرق أوروبا، بل وكانت هذه الصواريخ قادرة على استهداف مناطق المستعمرات البريطانية والفرنسية في شمال أفريقيا، بل وحتى ولاية ألاسكا الأمريكية.

ولم تقبل روسيا التوقيع على المعاهدة إلا بعد أن مارس عليها حلف شمال الأطلنطي «الناتو» ضغوطا دبلوماسية كثيفة، وأيضا بعد أن حصلت موسكو على تعهد بأن يكون تفكيك هذه الأسلحة متزامنا ومرهونا بخطوات مماثلة من جانب الولايات المتحدة، وهو ما حدث بالفعل.

وسميت هذه المعاهدة بـ«معاهدة القوى النووية متوسطة المدى»، أي Intermediate_Range Nuclear Forces treaty، وعرفت اختصارا بـINF.ونصت المعاهدة على ضرورة أن تبادر الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق بالتخلص من الصواريخ القصيرة ومتوسط المدى خلال فترة ثلاث سنوات من دخولها حيز التنفيذ في شهر يونيو من العام التالي ، عام 1988.والتزم الطرفان بتنفيذ بنود المعاهدة بشكل ممتاز، وبدأت الدولتان بالفعل في تفكيك الأسلحة المعنية، وقبل أول يونيو 1991، بلغ عدد الصواريخ التي تم تفكيكها من الجانبين من الأنواع المشمولة في المعاهدة 2692 صاروخا.

وقد نجحت المعاهدة في الصمود مع مرور السنوات والإدارات الأمريكية والروسية المتعاقبة إلى حد كبير، باستثناء انتكاسة حدثت في 2014 تحديدا، عندما اتهمت واشنطن الروس بتجربة صاروخ كروز، ولكنها كانت كسحابة صيف مرت بسلام، حيث اكتفت واشنطن وقتها بانتقاد موسكو، دون أن تتأثر المعاهدة، وكان ذلك في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، ولكن من الواضح أن هذه التجربة كانت بمثابة «جس نبض» مبكر من جانب الروس الذين شعروا بأن هذه المعاهدة تكبلهم، خاصة وأنها من وجهة نظر بعض الأصوات هناك تعد من «مخلفات» الإرث السوفييتي القديم، ولم تعد التغيرات الجيوسياسية الجديدة تناسبها.

من هنا، وانطلاقا من هذه الخلفية، سنجد سهولة فائقة في توقع ردود الأفعال والتأثيرات المختلفة من مختلف القوى الدولية على تصريحات ترامب الأخيرة، إذ يتبين لنا أن هناك قوى عديدة ترى أنه من مصلحتها الاستراتيجية في الوقت الحالي التنصل من هذه المعاهدة، بينما الأطراف الأخرى المتضررة ترى أن إعلان ترامب بشأن الانسحاب من معاهدة الصواريخ متوسطة المدى تحول خطير، ويقترب من أن يكون بمثابة إعلان بداية حرب باردة جديدة.

*أمريكا من جانبها أوضحت على لسان رئيسها ترامب في تصريحات منفصلة أن الولايات المتحدة سوف تكثف نشاطها على مستوى ترسانتها النووية بالفعل للضغط على روسيا والصين.

*حلف شمال الأطلنطي «الناتو» بطبيعة الحال التزم الموقف الأمريكي بنسبة 100%، قائلا عبر المتحدثة باسمه إن الحلفاء الـ29 يعتقدون بأن روسيا تنتهك معاهدة التحكم في الأسلحة - التاريخية - وحاولوا مرارا وتكرارا الحصول على أي معلومات عن نظامها الصاروخي الجديد.

وقالت أوانا لونجيسكو المتحدثة باسم الناتو إنه «في غياب أي إجابة ذات مصداقية من جانب روسيا بشأن هذا الصاروخ الجديد، يؤمن الحلفاء بأن أنسب تقييم لما يحدث الآن هو أن روسيا تنتهك معاهدة INF».

ولكن، لم تعلق لونجيسكو على تهديدات الرئيس الأمريكي ترامب بالانسحاب من المعاهدة، مشيرة فقط إلى أن «الحلفاء ما زالوا يتشاورون في الأمر».

*الاتحاد الأوروبي حذر الرئيس الأمريكي من هذه الخطوة، وناشد ترامب تقييم تأثير هذا القرار على المواطنين الأمريكيين أنفسهم، وعلى العالم بأكمله.

وقال الاتحاد في بيان له الإثنين الماضي إنه بجانب حث روسيا على الالتزام بالمعاهدة، فإن أوروبا أيضا تتوقع «دراسة أمريكا للعواقب الناجمة عن أي انسحاب محتمل مع هذه المعاهدة على أمنها الوطني، وعلى أمن حلفائها، والأمن العالمي بأكمله».

وأضاف البيان الأوروبي أن معاهدة التحكم في الأسلحة ظلت ركنا أساسيا من أركان الهيكل الأمني الأوروبي لأكثر من ثلاثة عقود، وساعدت على احتواء عملية انتشار أسلحة الدمار الشامل.

*بريطانيا أعلنت على لسان وزير دفاعها جافين ويليامسون أن بلاده تقف بحزم كامل مع الولايات المتحدة في موقفها بشأن الانسحاب من المعاهدة، ملقيا باللوم على روسيا في تعريضها هذه المعاهدة للخطر، ومؤكدا أن روسيا هي من تخرق المعاهدة، وهي من تحتاج إلى تنظيم أمورها».

*الألمان اعتبروا أن انسحاب ترامب المخطط له «أمر يدعو للأسف»، ولكنهم حملوا روسيا المسؤولية أيضا، ووصفوا المعاهدة بأنها «على جانب كبير من الأهمية خاصة بالنسبة لأوروبا».

.. وعلى الصعيد الآخر :

* رد فعل روسيا كان عنيفا، فاعتبر الكرملين أن الخطوة الأمريكية «تجعل العالم مكانا أكثر خطورة».

وقال ديمتري بيسكوف الناطق باسم الكرملين إن إبطال المعاهدة من الجانب الأمريكي سيدفع روسيا لاتخاذ خطوات للحفاظ على أمنها القومي، ولكنه في الوقت نفسه فتح باب الحوار، بقوله إن بلاده مستعدة للتعاون مع الولايات المتحدة من أجل التعامل مع «المخاوف المشتركة» بشأن المعاهدة.

وردا على سؤال من الصحفيين حول رد الكرملين يرى اتهام ترامب لموسكو بأنها تنتهك المعاهدة، أجاب بيسكوف : «رفض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مرارًا وتكرارًا جميع الاتهامات ضد روسيا فيما يتعلق بانتهاكات المعاهدة».

وشدد بيسكوف على أن روسيا «ستضطر للرد واستعادة التوازن إذا طورت الولايات المتحدة أنظمة صواريخ جديدة».

وهنا، ليس خافيا على أحد الكشف عن أن جون بولتون مستشار الأمن القومي الأمريكي تلقى تحذيرا شديد اللهجة خلال زيارته لموسكو من أن الخطوة الأمريكية ستكون «ضربة قاصمة» لنظام الحد من التسلح النووي.

*ميخائيل جورباتشوف نفسه الذي كان أحد اثنين وقعا على المعاهدة، وآخر رئيس للاتحاد السوفييتي السابق ، أكد أن الانسحاب الأمريكي المزمع يبدد الجهود المبذولة على صعيد نزع الأسلحة النووية.

*الصين أعلنت من جانبها أنها «لن تقبل أبدا أي شكل من أشكال الابتزاز»، وذلك في معرض تعليقها على قول الرئيس الأمريكي إن قراره بالانسحاب من معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى مع روسيا يتعلق كذلك بترسانة بكين، علما بأن بكين ليست طرفا في المعاهدة.

ومن أبرز التأثيرات الناجمة عن هذه الخطوة «الترامبية» أن روسيا والصين ستجدان بذلك مبررا للقيام بتحركات مضادة للتحركات الأمريكية، وأصبح في إمكان الصين الآن على سبيل المثال تطوير أسلحة نووية من الأنواع المحظورة، خاصة وأنها لم توقع على هذه المعاهدة من الأساس.

كما قد يخلق قرار الانسحاب الأمريكي حالة من عدم اليقين تجاه مستقبل باقي معاهدات الحد من الأسلحة بين واشنطن وموسكو، مثل المعاهدة الاستراتيجية الجديدة لخفض التسلح التي ينتهي مفعولها عام 2021، ولذلك، يعتقد بأن بوتين هو أكثر المستفيدين من جراء انسحاب أمريكا من المعاهدة، وقد يكون هذا الانسحاب، الذي سبقته انسحابات «ترامبية» أخرى من اتفاقيات ومعاهدة تجارية، أكثر من سيدفع له الأمريكيون والغرب بصفة عامة ثمنا باهظا في المستقبل.

ومن هنا، جاءت التجربة الصاروخية الروسية الجديدة، التي أكدها الناتو والبيت الأبيض ونفتها موسكو، كفرصة استغلها ترامب للإعلان عن رفضه لهذه المعاهدة هو الآخر، وعن رغبته في الانسحاب منها، ولو من جانب واحد، خاصة وأن ترامب هو الآخر يشعر بأن ظروف توقيع هذه المعاهدة تغيرت الآن بالكامل، وأصبحت هناك مخاوف من تحالف عسكري روسي صيني، يؤججه التنامي الواضح في القوة العسكرية الصينية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ من جانب، وأيضا النفوذ الروسي القوي في منطقة الشرق الأوسط، وبخاصة في سوريا، والتقارب التقليدي مع إيران، وعودة الدفء في العلاقات مع القاهرة على حساب الولايات المتحدة.

وثمة تفسير آخر لخطوة ترامب التي لا يمكن وصفها بـ«الفجائية»، وهو أن الولايات المتحدة تريد الانسحاب من معاهدة «تقيدها» كثيرا في مساعيها لتطوير طرز جديدة من الأسلحة النووية، ومن بينها صواريخ توماهوك، لنشرها في مناطق مختلفة من العام، ومن بينها أجزاء من آسيا، لوقف التمدد العسكري الصيني تحديدا.

وهناك تفسير آخر لما حدث، وهو أن يكون ترامب واثقا من أن قراره بالانسحاب لن ينفذ فعليا، ولكن يريد أن يكسب ، عن طريق التلويح به ، شعبية كبيرة قبل انتخابات الكونجرس المقبلة، نظرا لما هو معروف أن هذه المعاهدة صدقت عليها ثلثا أعضاء الكونجرس في 27 مايو 1988، وبالتالي، لا يمكن أن ينتهي مفعولها إلا بتصويت الثلثين أيضا، وهو ما يصعب تحقيقه الآن في ظل كونجرس منقسم، أو هو بالفعل أوشك على أن يطير من أيدي ترامب والجمهوريين إلى الحزب الديمقراطي في التجديد النصفي الشهر المقبل.

باختصار، روسيا والصين لن يوقفهما أحد عن تطوير قدراتهما العسكرية بعد خطوة ترامب، حتى وإن لم ينسحب من المعاهدة فعليا، وترامب سيخسر الكثير سياسيا في انتخابات الكونجرس الشهر المقبل، وأمن أوروبا وآسيا الأكثر تضررا من المد الروسي الصيني، في حين لا يبدو حامل شعار «أمريكا أولا» متحمسا لتأمين أي طرف آخر، بخلاف الأراضي والأهداف والمصالح الأمريكية.