أفكار وآراء

ماذا بعد انسحاب واشنطن من المعاهدة النووية؟

24 أكتوبر 2018
24 أكتوبر 2018

عبدالعزيز محمود -

بالتأكيد لم يشكل إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن اعتزام بلاده الانسحاب من معاهدة الحد من الأسلحة النووية متوسطة المدي (آي آر إن) مع موسكو مفاجأة من أي نوع، فالمعاهدة التي وقعها الرئيسان الأمريكي رونالد ريجان والسوفيتي ميخائيل جورباتشوف في واشنطن عام ١٩٨٧ لإنهاء وجود الصواريخ الباليستية النووية في أوروبا استنفدت أغراضها.

صحيح أنها ألزمت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي (روسيا لاحقا) بإزالة كل صواريخهما الباليستية (أي التي تطلق من الأرض) متوسطة وقصيرة المدى وكذلك منظومات أطلاقها، وهو ما تم ترجمته في عام ١٩٩١ بتدمير ٢٦٩٢ صاروخا باليستيا يتراوح مداها ما بين ٥٠٠ إلى ٥٥٠٠ كيلومتر من بينها ١٨٤٦ صاروخا لموسكو و٨٤٦ صاروخا لواشنطن.

كما أجبرت المعاهدة البلدين على عدم إنتاج أو تجريب أو نشر أي من هذه الصواريخ، وفي مقدمتها صواريخ إس إس- ٢٠ الروسية وبيرشينج الأمريكية ووضع نظام للتفتيش والمراقبة. لكن ذلك الوضع لم يدم طويلا، فبحلول عام ٢٠١٢ تبادل البلدان الاتهامات بانتهاك المعاهدة، حيث اتهمت واشنطن موسكو بإنتاج صواريخ كروز و سي بي إم وإجراء تجارب على صاروخ نوفاتور ونشر أسلحة نووية تكتيكية على الحدود مع دول شرق أوروبا. وفي المقابل اتهمت موسكو واشنطن بنشر صواريخ توما هوك على حدودها مع رومانيا وبولندا وجمهورية التشيك ونقل منصات صواريخ ام كيه – ٤١ من السفن إلي البر في أوروبا. ومع قرار روسي بإنتاج جيل جديد من الصواريخ التي تفوق سرعتها سرعة الصوت قررت الولايات المتحدة تطوير أجيال جديدة من صواريخ توما هوك والأسلحة النووية.

ووسط توتر غير مسبوق في العلاقات جاء إعلان الرئيس ترامب في ٢٠ أكتوبر الجاري عن اعتزام بلاده الانسحاب من معاهدة الحد من الأسلحة النووية متوسطة المدى ردا على ما وصفه بانتهاكات روسية. وجاء الإعلان قبيل أسابيع من انعقاد قمة أمريكية روسية مرتقبة في باريس يوم ٢٠ نوفمبر المقبل حيث يشارك الرئيسان ترامب وبوتين في إحياء ذكرى نهاية الحرب العالمية الأولى.

وبدا إعلان ترامب شبيها بقرار أصدره الرئيس جورج دبليو بوش في عام ٢٠٠٢ بالانسحاب من معاهدة الحد من الصواريخ الباليستية مع موسكو(ايه بي إم)، لإقامة نظام دفاع صاروخي أمريكي مضاد للصواريخ الباليستية.

لكن رد الفعل الروسي هذه المرة لم يكن بنفس الدرجة من الانزعاج، فقد اكتفت موسكو بوصف إعلان ترامب بأنه يعكس «نية مبيتة» لاستئناف سباق التسلح من أجل إقامة نظام عالمي أحادي القطب، والضغط على روسيا لتقديم تنازلات في الملفات العالقة وخاصة فيما يتعلق بسوريا وأوكرانيا.

ورغم أن سباق التسلح قائم بالفعل بين البلدين، لكن الانسحاب الأمريكي من طرف واحد من معاهدة الحد من الأسلحة النووية متوسطة المدى سوف يشعل من حدته، خاصة مع استئناف البلدين نشر صواريخ باليستية في وعلى حدود أوروبا. وهذا تحديدا هو آخر ما يريده حلفاء واشنطن الأوروبيين وفي مقدمتهم ألمانيا، فهم لا يريدون سباق تسلح من هذا النوع، مما دفعهم للاعتراض على الانسحاب الأمريكي من معاهدة الحد من الأسلحة النووية متوسطة المدي والتي يعتبرونها ضمانة لأمن أوروبا.

وهو تقريبا نفس موقف منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي أصدر بيانا في وقت سابق يعتبر المعاهدة مهمة وضرورية للأمن الأطلسي، بالنظر إلى أنها تحد من مخاطر الصراع، وتمنع واشنطن وموسكو من نشر أنظمة صواريخ مضادة للصواريخ في أوروبا.

يذكر أن الموقف الأوروبي ظل محل تقدير لسنوات من جانب إدارة الرئيس باراك أوباما، التي فضلت خيار عدم الانسحاب من المعاهدة، لكن إدارة الرئيس ترامب كان لها رأي آخر، فهي تعتبر المعاهدة بمثابة قيد يحول دون قيام واشنطن بإنتاج أجيال جديدة من الصواريخ الباليستية التي يمكن تحميلها برؤوس نووية لمواجهة إنتاج روسي مماثل.

كما تمنع المعاهدة واشنطن من مواجهة برنامج الصين لتطوير صواريخ باليستية نووية متوسطة المدى يمكنها تهديد السفن والقواعد الأمريكية في غرب المحيط الهادي، في الوقت الذي يتصارع فيه البلدان على بسط نفوذهما في بحر الصين الجنوبي.

ورغم محاولة واشنطن الضغط على بكين عبر مفاوضات التجارة لإقناعها بالتوقف عن تطوير هذه النوعية من الصواريخ لكنها لم تنجح في ذلك بالنظر إلى عدم وجود معاهدة للحد من الأسلحة النووية متوسطة المدى بين البلدين.

وهكذا فإن قرار ترامب بانسحاب بلاده من معاهدة الحد من الأسلحة النووية متوسطة المدى مع موسكو لا يستهدف فقط ردع روسيا، وإنما مواجهة ما يعتبره تهديدات صينية. وقد يكون هذا صحيحا إلى حد ما، فواشنطن سوف يمكنها وبعد الانسحاب من المعاهدة استئناف تطوير صواريخ توما هوك وبيرشينج ١١ دون قيود بهدف نشرها لأول مرة في اليابان وقاعدة جوام في المحيط الهادي.

لكن موسكو وفي المقابل سوف تصبح مطلقة اليد في إنتاج أجيال جديدة من صواريخ كروز ونوفاتور واس اس -٢٠، بينما ستواصل الصين تطوير صواريخها الباليستية متوسطة وقصيرة المدي، وهو ما سيدفع كل من اليابان وكوريا الجنوبية، إلى إنتاج أجيال جديدة من الصواريخ، وبالتالي اندفاع كوريا الشمالية وباكستان والهند في ذات الاتجاه.

ويلمح الرئيس ترامب إلى إمكانية أن يؤدي ذلك الوضع إلى دفع كل من موسكو وبكين، إلى التفاوض مع واشنطن على معاهدة جديدة بشأن الأسلحة النووية متوسطة المدي، مع أن هذا لا يبدو واردا، على الأقل في المرحلة الراهنة، نظرا للتوتر الحاد في العلاقات بين الولايات المتحدة وكل من روسيا والصين.

وهكذا فإن اعتزام واشنطن الانسحاب من معاهدة الحد من الأسلحة النووية متوسطة المدي مع موسكو بعد ٣١ عاما من التوقيع عليها، لن يترتب عليه إلا اشتعال سباق تسلح صاروخي نووي بين الولايات المتحدة وروسيا والصين، وأيضا في منطقة جنوب شرق آسيا، وهذا آخر ما تريده أوروبا والعالم.