أفكار وآراء

إنقاذ الديمقراطية الليبرالية من التطرف

21 أكتوبر 2018
21 أكتوبر 2018

مارتن وولف - الفاينانشال تايمز -

ترجمة قاسم مكي -

«تجنب الإفراط في كل شيء». كان هذا الشعار المعروف أيضا بـ «الوسط الذهبي» منقوشا في معبد دلفي القديم في اليونان. (مَيدَان آغَان باللغة الإغريقية القديمة وهو دعوة للاعتدال في مختلف جوانب الحياة وتماثله في معناه عبارة لا إفراط ولا تفريط - المترجم). مثل هذا التقييد للجموح والشطط حاسم خصوصا في الحفاظ على الديمقراطية الليبرالية التي هي توليفة هشة بين الحرية الشخصية والعمل المدني. واليوم، يجب استعادة التوازن بين هذين العنصرين. يرى البروفيسور لاري داياموند من جامعة ستانفورد أن للديمقراطية الليبرالية أربعة عناصر ضرورية وكافية (للحفاظ على قوامها) وهي أولا الانتخابات الحرة والنزيهة، وثانيا المشاركة النشطة للناس كمواطنين، وثالثا حماية الحقوق المدنية والإنسانية لكل المواطنين، ورابعا حكم القانون الملزم لكل المواطنين دون تفرقة. ويتمثل الملمح البارز لنظام الديمقراطية الليبرالية في القيود التي يفرضها على الحكومة وبالتالي على الأغلبية (التي تنتخب الحكومة). فكل انتصار (انتخابي) مؤقت. لكن من السهل إدراك السبب وراء هشاشة مثل هذا النظام. وما يدعو إلى الأسى أن هذه الحقيقة لم تعد اليوم موضع جدل نظري. فقد جاء في تقرير بيت الحرية لعام 2018 أن «الديمقراطية في أزمة. وأن القيم التي تجسدها، خصوصا حق اختيار القادة من خلال انتخابات حرة ونزيهة وحرية الصحافة وحكم القانون، تتعرض للهجوم وتتقهقر حول العالم.» هذا «الانحسار الديمقراطي» حسب تعبير البروفيسور داياموند لا يقتصر على البلدان الصاعدة أو الشيوعية سابقا مثل المجر وبولندا. فالالتزام بقواعد الديمقراطية الليبرالية بما في ذلك حق التصويت والحقوق المتساوية لكل المواطنين يتراجع حتى في بلدان الديمقراطيات الراسخة بما في ذلك الولايات المتحدة. لماذا؟ في كتابه الذي صدر حديثا تحت عنوان «الشعب في مقابل الديمقراطية» وفي مقال سابق له، يرى «ياشا مونك» المحاضر بجامعة هارفارد أن «الليبرالية اللاديمقراطية» «والديمقراطية اللاليبرالية» كلتيهما تهددان الديمقراطية الليبرالية. ففي الأولى (الليبرالية اللاديمقراطية) تكون الديمقراطية بالغة الضعف ويُضَحَّىَ بالأواصر الاجتماعية والأمن الاقتصادي على مذبح حرية الفرد. وفي الثانية (الديمقراطية اللاليبرالية) تكون الليبرالية بالغة الضعف حيث يستولى على السلطة الديماغوجيون (المهرجون السياسيون) الذين يحكمون باسم أغلبية غاضبة أو على الأقل باسم أقلية كبيرة يُقَالُ لها أنها هي«الشعب الحقيقي.» ينتهي المطاف بالليبرالية اللاديمقراطية إلى حكم النخبة. أما الديمقراطية اللاليبرالية فتقود إلى الحكم المستبد.» إلى جانب ذلك، يرى «مونك» أن الليبرالية اللاديمقراطية وخصوصا الليبرالية الاقتصادية تفسر إلى حد كبير ظهور الديمقراطية اللاليبرالية. يقول: إن «قطاعات واسعة من السياسات تم استبعادها من ميدان التنازع الديمقراطي.» ويشير إلى دور البنوك المركزية المستقلة والطريقة التي يتم بها ضبط التجارة عبر اتفاقيات دولية تبرم في مفاوضات سرية داخل مؤسسات بعيدة (عن الشعب). وفي الولايات المتحدة ينوه «مونك» أيضا بأن المحاكم غير المنتخبة فصلت في العديد من القضايا الاجتماعية الإشكالية. وفي مجالات مثل الضرائب يحتفظ الممثلون المنتخبون باستقلال ذاتي شكلي . لكن الحركة الدولية لرأس المال تقيد حرية الساسة مما يقلل من الاختلافات الفعالة (ذات الأثر) بين الأحزاب الراسخة ليسار الوسط ويمين الوسط. (حركة رأس المال الدولية تعني قدرة الأموال الخاصة على الانتقال عبر الحدود الوطنية سعيا وراء عائدات أعلى وتعتمد على غياب القيود المفروضة على خروج ودخول العملات المحلية- المترجم). والسؤال: إلى أي مدى تفسر مثل هذه الليبرالية اللاديمقراطية ظاهرة الديمقراطية اللاليبرالية؟ الجواب: إلى حد ما. من المؤكد أن الاقتصاد الليبرالي لم يحقق ما كان مأمولا منه. فالأزمة المالية كانت صدمة شديدة القسوة. وكما يرى الكاتب البريطاني ديفيد جودهارت في كتابه «الطريق إلى مكان ما: الثورة الشعبوية ومستقبل السياسة» أقنعت ظاهرة الهجرة، وهي أحد جوانب هذه الليبرالية، أناسا عديدين (مرتبطين بمكان محدد) بأنهم يفقدون بلدانهم لصالح غرباء غير مرغوب فيهم. إلى ذلك، أنتهي وجود المؤسسات التي كانت تمثل الكتلة الأكبر من الناس العاديين (النقابات وأحزاب يسار الوسط) أو لم تعد تقوم بوظيفتها. وأخيرا لقد استولى على السياسة أناس غير مرتبطين بمكان محدد لديهم القدرة على الحراك الاجتماعي وحاصلين على تعليم راق. (يقصد الكاتب بهؤلاء الفئة التي ترتبط هوية أفرادها بإنجازهم الشخصي من تعليم متقدم ودخول عالية وليس بانتسابهم المكاني أو رقعة جغرافية بعينها- المترجم). ومن جانبه يشير (الكاتب المعروف) «توماس بيكيتي» إلى أن ما أسماه « يسار البراهمة» و«يمين التجار» يسيطران الآن على السياسة في الغرب. قد تختلف هاتان المجموعتان بشدة عن بعضهما البعض لكنهما كلتيهما مرتبطتان بالليبرالية اجتماعيا في حالة البراهمة واقتصاديا في حالة التجار. (يستعير بيكيتي هنا مصطلحات نظام الطبقات الهندي ويعتقد أن اليسار واليمين كليهما صارا يمثلان نخبتين متميزتين تبتعد مصالحهما عن مصالح بقية الناخبين وهما النخبة المثقفة أو اليسار البراهمي ونخبة رجال الأعمال أو اليمين التاجر وأطلق على هذا النظام اسم النظام الحزبي المتعدد النخب- المترجم). ثمة شيء بالغ الأهمية. فإذا اشتطت الليبرالية اللاديمقراطية في إثارة ضيق قسم كبير من الناخبين لن تكون في هذه الحال ليبرالية اقتصادية فقط أو ليبرالية جديدة فقط. كما لن يتعلق منها شيء يذكر بالمؤسسات الدولية الفائقة القوة ربما باستثناء الاتحاد الأوروبي. وفي الواقع يرتبط الازدهار الذي ترغب فيه البلدان المرتفعة الدخل ارتباطا قويا بالتجارة الدولية التي ترتبط لزوما بأكثر من ولاية دولة واحدة. لذلك لن يتحقق الازدهار المرغوب في في المستقبل عند غياب التعاون الدولي حول التنظيم القانوني أو الضرائب عبر الحدود. يجب الإقرار بهذا أيضا. وثمة مبالغة في وجهة النظر التي ترى أن البعد الاقتصادي لليبرالية اللاديمقراطية ساق الناس باتجاه الديمقراطية اللاليبرالية. الصحيح هو أن الليبرالية الاقتصادية التي تدار بطريقة سيئة ساهمت في تقويض السياسة. هذا يعين على تفسير رد الفعل القومي (الساخط) في بلدان الدخول المرتفعة. رغما عن ذلك فإن ذلك النوع من الديمقراطية اللاليبرالية في بلغاريا أو بولندا والذي تمتد جذوره في التاريخ الخاص لكل منهما ليس محصلة حتمية في الأنظمة الديمقراطية الراسخة. وسيكون من الصعب على دونالد ترامب أن يتحول إلى نسخة أمريكية لرئيس المجر فيكتور أوربان. رغما عن ذلك لا يمكن تجاهل الضغوط. ومن المستحيل للديمقراطيات تجاهل الانتشار الواسع النطاق للغضب والقلق الشعبيين. على النخب الترويج لقدر أقل بعض الشيء من الليبرالية وإبداء احترام أكثر قليلا للروابط الاجتماعية بين المواطنين كما عليها دفع ضريبة أكبر. أما البديل الذي يترتب عن دفع قسم كبير من السكان إلى الشعور بالحرمان فخطر جدا. هل إعادة التوازن هذه مفهومة؟ هذا هو السؤال الكبير.