الملف السياسي

التضامن العربي .. لنضع الأصبع على الجرح!!

15 أكتوبر 2018
15 أكتوبر 2018

د. عبدالحميد الموافي -

إن التضامن بين الأشقاء قد ظهر واشتد عندما شعرت الدول الشقيقة، جميعها، بالأمان والثقة في احترام الأشقاء الآخرين لمصالحها، والتزامهم بعدم التدخل في الشؤون الداخلية لها، وبعدم التهديد من جانب الأشقاء، بأي صورة من الصور، وبمعنى آخر، فإن ذلك لن يتحقق إلا من خلال النجاح في بناء إطار أو مجتمع الأمن الواحد أو المشترك الذي يضم كل الأشقاء.

ليس من المبالغة في شيء القول بأن حرب السادس من أكتوبر 1973، والتي تمر الذكرى الخامسة والأربعون لها هذه الأيام، وبقدر ما تثيره من شعور بالاعتزاز والثقة في القدرة العربية على التأثير والدفاع عن المصالح العربية، وإجبار الخصم - أيا كان - على الجلوس للتفاوض لاستخلاص الحقوق العربية ، فإن ذكراها الحالية تثير في الواقع الكثير من الألم والأسى لما وصلت إليه الآن أوضاعنا وعلاقاتنا العربية، ولعل ذلك تحديدا هو ما طرح ويطرح أهمية وضرورة التفكير الجاد والمخلص من أجل العمل على استعادة التضامن العربي مرة أخرى، خاصة أن قضايا عربية حيوية، بما فيها القضية الفلسطينية، والعلاقات العربية مع دول الجوار - تركيا وإيران وإسرائيل وإثيوبيا - ومستقبل الدولة الوطنية في عدد من الدول العربية ذات الأهمية الاستراتيجية للأمن القومي العربي، تقف جميعها في مفترق طرق، وعلى نحو يدفع بها بعض الأطراف إلى منحدرات تؤثر بالسلب على الحاضر والمستقبل العربي، وتحاول بعض الأطراف الأخرى الاستفادة من حالة الضعف والتفكك العربي لإعادة صياغة العلاقات مع العرب - فرادى وبشكل جماعي - بشكل يخدم مصالحها هي، ويتجاوز ما استقرت عليه العلاقات العربية على مدى العقود الماضية، خاصة بالنسبة لتركيا وإيران، وإثيوبيا، أما إسرائيل فإنها تحاول، الاستفادة من كل ما يجري متجاهلة حقيقة أنها لا يمكنها أن تتجاهل المصالح واعتبارات الأمن القومي العربي والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني الشقيق، وأن البطش وممارسة البلطجة السياسية في الضفة الغربية وغزة، والتوسع الشره للاستيطان لن يضفي شرعية على احتلالها للأراضي الفلسطينية والعربية التي احتلتها في عدوان عام 1967، ولعل الذكرى الخامسة والأربعين لحرب أكتوبر المجيدة تبعث برسالة تذكير لقادة إسرائيل ولمجتمعها الغارق في يمينيته بحكم سيطرة المتطرفين عليه، بأن ما حدث (يوم كيبور) لم يكن صدفة، وأن الأداء المصري الرائع، والدعم العربي قابل للتكرار عند الضرورة، ليس رغبة في حرب، ولكن صيانة للسلام الحقيقي، وللحقوق العربية التي لا يمكن التفريط فيها، مهما اعترى الموقف العربي من ضعف مرحلي، لا مناص من أن ينتهي، وبأسرع وقت ممكن.

وإذا عدنا بالذاكرة قليلا إلى الوراء، لوجدنا أن التضامن والتقارب بين الأشقاء العرب ظهر بوضوح في فترات محددة من أبرزها منتصف أربعينيات القرن الماضي، عند إنشاء جامعة الدول العربية، وفي أواخر الأربعينيات بسبب حرب فلسطين، وفي أوائل ومنتصف الخمسينيات حول حرب السويس عام 1956، وبعد عدوان عام 1967، في مؤتمر قمة الخرطوم في أغسطس عام 1967، وحول حرب أكتوبر 1973، وظهرت ملامح قوية له في الوقوف إلى جانب الكويت الشقيقة لمواجهة الخطيئة الصدامية بغزوها في أغسطس 1990، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أن التضامن العربي لا يعني الاتفاق التام بين الأشقاء على كل القضايا، بقدر ما يعني التوافق والالتقاء العربي الواسع والملموس بشأن قضايا محددة في وقت محدد، وبما يصون المصالح الجماعية العربية، التي تتجاوز بالضرورة مصلحة أي دولة عربية منفردة، بصرف النظر عن مدى تطابق أو عدم التطابق مع موقف دولة عربية أو أخرى.

ولعل أهمية وقيمة ما حدث عام 1973، قبله بقليل وأثناءه وبعده بقليل أيضا، إن التضامن بين الأشقاء، ودعمهم لمصر وسوريا، لم يكن سياسيا فقط، بل كان ماليا وعسكريا وإعلاميا واقتصاديا، بدرجات متفاوتة، وصولا إلى استخدام النفط كسلاح عربي ضد الأطراف الغربية الداعمة لإسرائيل.

والأهم أنه كان صادقا وملموسا ومتجاوزا للكثير من الخلافات والحساسيات بين الأشقاء، فهل يمكن تكرار هذه الدرجة من التضامن بين الأشقاء، ليس بالضرورة بنفس قوة واتساع ما حدث عام 1973، ولكن على الأقل بما يستجمع عناصر القوة العربية بشكل كبير ومؤثر، وبما يحفظ الحد الأدنى من التوافق بين الأشقاء، ويمنحهم القدرة على حماية مصالحهم الوطنية والجماعية العربية، دون تجاوز أو ادعاء أو مناورة، لأن ذلك كله سرعان ما يفضح نفسه، وأحيانا بأشكال ساذجة وممجوجة، والأمثلة في هذا المجال كثيرة للأسف الشديد، وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:

* أولا: إن استعادة التضامن العربي، بمعنى إعادة ترميم العلاقات العربية، وتجاوز أكبر قدر ممكن من الخلافات، ومشكلات تآكل الثقة المتبادلة، والشكوك الدفينة بين الأشقاء، والتعامل بمصداقية وجدية وشفافية لتحقيق المصالح المشتركة والمتبادلة، ثنائيا وجماعيا، وبما يخدم مصالح أكبر عدد ممكن من الأشقاء، وبقدر ما يشكله ذلك من مصلحة عربية ملحة، فإنه أمر غير مرحب به من جانب أي من الأطراف والقوى الإقليمية والدولية، التي ترى أن مصالحها تتحقق بشكل أسهل عندما تزيد وتتسع الخلافات بين الدول العربية، لأن ذلك هو ما يسمح لها، ويتيح لها الفرص واسعة، للتمدد وممارسة النفوذ وتحقيق مواطئ قدم في قلب العالم العربي ومواطن اهتمامه، وعلى نحو يتناسب طرديا مع درجة الخلافات بين الأشفاء، ويستوي في ذلك الأطراف الإقليمية والدولية، وإن كان كل طرف يعمل بأساليبه ووسائله الأكثر ملاءمة له.

ومن هنا فإن جميع الأطراف الإقليمية والدولية، ودون استثناء لا ترحب، ولن ترحب أبدا، بأن يستعيد العرب تضامنهم الحقيقي، بغض النظر عن أي تصريحات إعلامية موجهة، فكلها - أي تلك الأطراف جميعها - تريد مصالحها التي تتحقق في طل إضعاف العرب والحفاظ على أسباب ذلك الضعف بكل السبل الممكنة، بما في ذلك الوقيعة بين الأشقاء حينا، وتوظيف الكثير من العوامل والمخاوف والادعاءات لتوسيع الفجوات بين الدول العربية أحيانا أخرى، لذا فإنه من المهم والضروري أن تضع الدول العربية ذلك في حسبانها، خاصة أن الدول العربية، أو بعضها على الأقل، تظل مسؤولة إلى حد غير قليل، عن الإسهام في إتاحة الفرصة لتمدد، أو زيادة نفوذ وتأثير تلك الأطراف، بطرق ووسائل مختلفة، والأمثلة في هذا المجال عديدة وتصدم العيون والعقول.

وهنا تحديدا فإن هناك حاجة حقيقية للنظر بموضوعية، وبقدرة على التفهم لمواقف وعلاقات وسياسات الدول العربية المختلفة ومصالحها، وإدراك أن التنوع والتعدد والقنوات الصحيحة والمتنوعة قادرة على أن تخدم المصالح العربية الجماعية، خاصة أنه من غير الممكن التعامل مع الدول العربية بمنطق جورج بوش الابن (من ليس معي فهو ضدي)، ولعل ذلك يدعونا إلى النظر في مقولة (السرب العربي ومن يخرج عنه)، خاصة أن السرب لن يكون سربا إذا كان يقوم على رؤية أحادية ضيقة. وقد دفعنا كعرب ثمن ذلك في ظروف وعلى مدى سنوات عديدة، خاصة في حالات التوظيف الإعلامي القوي لهذه المقولة، والتي تم ويتم توظيفها سياسيا وإعلاميا في مناسبات تخدم طرفا أو آخر، بغض النظر عن المصلحة العربية الجماعية بشكل حقيقي.

وإذا كانت الأطراف الإقليمية والدولية تعمل لتحقيق مصالحها المباشرة وغير المباشرة، فإن من حق العرب البحث عن مصالحهم والعمل على صيانتها في مواجهة كل الأطراف، وبأقل قدر من التصادم والخسائر أيضا.

* ثانيا: إن التضامن العربي، وإن كان أملا وهدفا ومصلحة عربية حقيقية، خاصة أنه ثبت دوما أنه لا يمكن لدولة عربية منفردة أن تحقق مصالحها، أو أن تصون تلك المصالح بشكل كبير ومناسب، بدون دعم ومساندة الأشقاء بشكل أو بآخر، وذلك بحكم وتداخل المصالح بين الأشقاء، لاعتبارات عديدة ومعروفة، فإنه من المؤكد أن التضامن العربي ليس هدفا طوباويا أو مثاليا أو غير واقعي، لأنه في الحقيقة سلوك وممارسة عملية وواعية، من جانب القيادات العربية في الظروف المختلفة.

ومن هنا فإنه في الوقت الذي يحتاج فيه التضامن العربي إلى إرادة سياسية على مستوى القيادات المسؤولة بالطبع، فإنه يحتاج أيضا وفي الوقت ذاته، إلى إدراك حقيقي لأهمية وضرورة التضامن العربي كسبيل لتحقيق المصالح الفردية للدولة العربية، وللمصالح الجماعية أيضا، وبدون هذا الإدراك وترسخه سياسيا وإعلاميا وفكريا وثقافيا، وعلى أوسع نطاق في المجتمعات العربية، فإنه سيظل مجرد شعار مناسبي، أو ظرفي يظهر وقت الأزمات الكبيرة التي تتعرض لها دولة، أو بعض الدول العربية، ثم لا يتحول، أو لا يصبح ممارسة ونهج عمل بين الأشقاء، وهذه النقلة النوعية، هي ما نحتاجه اليوم قبل الغد على الصعيد العربي، وبشكل مخلص، ولكن السؤال هو كيف يمكن ذلك؟ وما هي العوامل، أو الشروط الضرورية لتحقيق ذلك؟ وهل يقتصر الأمر على مجرد الأماني والتطلعات، وما أكثرها؟ أم أنه يحتاج إلى ما هو أكثر من ذلك، وما هو المسكوت عنه في هذا المجال؟

* ثالثا: إنه مع إدراك أن كل دولة عربية لها مصالحها الوطنية، المرتبطة بتاريخها وجغرافيتها وطبيعة التهديدات التي تعرضت، أو تتعرض، أو قد تتعرض لها، والأهداف التي تسعى إلى تحقيقها على المستويات المختلفة، والسبل الأكثر ملاءمة للحفاظ على تلك المصالح وطبيعة العلاقات الإقليمية والدولية لها، فإنه من المهم والضروري إدراك حقيقة أنه من غير الممكن جمع الكل في واحد، كما يقال.

نعم هناك أحاديث كثيرة عن الوحدة والاتحاد والتعاون والتضامن بين الأشقاء على امتداد العقود الماضية، ولكن الصحيح بالتأكيد أيضا أنه من غير الممكن تذويب الدول العربية في بوتقة واحدة تحددها دولة عربية بمفردها تحت أي ظرف من الظروف، والأكثر أهمية وقيمة وفعالية أن تتمكن الدول العربية الشقيقة جميعها من بناء الثقة المتبادلة وتعميقها فيما بينها، على المستويات الثنائية والمتعددة الأطراف والجماعية العربية أيضا، وهذا لن يتحقق إلا إذا شعرت كل دولة عربية بأن مصالحها الوطنية تتحقق من خلال المصلحة الجماعية، ومن خلال خطوات التعاون والتنسيق والعمل المشترك مع الأشقاء، سواء كان ثنائيا أو متعدد الأطراف أو جماعيا، فليست هناك دولة تضحي بمصالحها الوطنية من أجل الآخرين حتى ولو كانوا أشقاء.

وهنا تحديدا فإن الدعم المالي أو غيره الذي تقدمه بعض الدول الشقيقة لدول شقيقة أخرى في ظرف أو آخر، يصب في الحقيقة في المصالح المباشرة الوطنية للدول الداعمة والتي تتلقى الدعم، وفي المصالح العربية الجماعية، ولعلنا نتذكر وقفة الاتحاد الأوروبي مع اليونان وقبلها إسبانيا وغيرها، وهي مواقف لا تقارن مع ما يجري بين الأشقاء وترتكز في النهاية على فهم وإدراك مقتضيات المصالح الجماعية والمتبادلة، أما استخدام الدعم المالي أو غيره كأداة لممارسة الضغوط، بأي شكل، فإنه يعد أقصر الطرق لنسف التضامن والثقة بين الأشقاء، فالتضامن لا يشترى ولكنه ينبع من يقين بوحدة المصالح والمصير وأنه لا نجاة لدولة عربية منفردة بدون الأشقاء.

من جانب آخر فإن التضامن بين الأشقاء يظهر ويشتد عندما تشعر الدول الشقيقة، جميعها، بالأمان والثقة في احترام الأشقاء الآخرين لمصالحها، والتزامهم بعدم التدخل في الشؤون الداخلية لها، وبعدم التهديد من جانب الأشقاء، بأي صورة من الصور، وبمعنى آخر، فإن ذلك لن يتحقق إلا من خلال النجاح في بناء إطار أو مجتمع الأمن الواحد أو المشترك الذي يضم كل الأشقاء، بدون نزوع أو ميل أو رغبة للسيطرة أو الهيمنة أو الوقوع في وهم الدور الأكبر بشكل أو بآخر، وهو ما حدث في الاتحاد الأوروبي، نعم هناك تفاوت بين الدول العربية، وكذلك في الاتحاد الأوروبي، في الحجم والإمكانيات والقدرات وغيرها، ولكن هناك في الوقت ذاته مساواة فيما بينها أمام القانون الدولي وفي إطار المنظمات الإقليمية والدولية، تختلف القدرة على التأثير في قضية أو أخرى، نعم، ولكن الرغبة في الهيمنة، أو في دفع الآخرين في مسارات محددة لا تتناسب، أو لا تحقق مصالحها الوطنية، ومحاولة فرض ذلك بشكل أو بآخر، كان مسؤولا عن الكثير من الخلافات بين الأشقاء في العقود الماضية.

وإذا كانت مصر قد آمنت بسياسة وحدة الصف بين الأشقاء منذ أواخر ستينيات القرن الماضي، بعد حرب اليمن من 1962 إلى 1967، والتزمت بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للأشقاء، منذ ما قبل حرب أكتوبر 1973، وإذا كانت محاولات وراثة الدور المصري قد فشلت لأسباب عديدة ومعروفة، فإنه من المهم والضروري أن تشعر كل الدول الشقيقة بالثقة المتبادلة، وبالرغبة الصادقة في تحقيق المصالح المشتركة والمتبادلة، وأن المصالح الجماعية العربية وإن كانت تحقق مصالح كل الأشقاء، إلا أنها ليست مرادفة لمصلحة دولة واحدة، وأنه من غير الممكن النظر إلى المصلحة الجماعية عبر منظور المصلحة الوطنية الأضيق، وبيقين وثقة كبيرة لا يزال ميثاق جامعة الدول العربية، بمبادئه وقواعد عمله صالحا لبناء التضامن بين الأشفاء، برغم كل ما تلقته جامعة الدول العربية من انتقادات، فمجتمع الأمن الواحد والمصالح المتبادلة والتعاون بحسن نية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية تظل بالغة الأهمية لبناء واستعادة التضامن العربي بشكل حقيقي، فهل نقدر، بل هل نعي وهل نريد؟!