الملف السياسي

التضامن في سياق النظام الإقليمي العربي

15 أكتوبر 2018
15 أكتوبر 2018

د. صلاح أبونار -

تشكل حرب أكتوبر 1973 أمجد لحظات الصراع العربي - الإسرائيلي. لحظة استثنائية تشكلت مكانتها التاريخية عبر نجاحها في تجسيد ثلاثة إنجازات: إرادة المواجهة، والقدرة على المواجهة، وجماعية المواجهة.

وكانت «القدرة على المواجهة» تعني وضع إرادة المواجهة موضع التطبيق العملي في مواجهة عسكرية حتمية، عبر سياقات اجتماعية واقتصادية داعمة. وهو ما كان يقتضي تعبئة وتنمية للموارد، وإعادة بناء للمؤسسات العسكرية والسياسية، ورسم خطط متطورة للمواجهة العسكرية، عبر رؤية شاملة للمواجهة علي المستويات الوطنية الإقليمية والعالمية.

بينما تشكلت «جماعية المواجهة» من مستويين. أول يتجه لبناء إجماع وطني على قرار المواجهة ومساراته، يحمل معه إجماعا موازيا على الانضواء في المسارات الاجتماعية والمؤسسية المعبئة والمنظمة للمواجهة، والالتزام الطوعي بالتضحيات المطلوبة. وثان يتجه لتعبئة وتنظيم الدعم العربي الرسمي من خلال سلسلة من السياسات، بهدف توليد موارد إضافية في مرحلة الاستعداد، والدعم المباشر والمتنوع في مرحلة المواجهة العسكرية ذاتها. ويشكل المستوى الثاني ما اصطلحنا على دعوته بالتضامن العربي خلال حرب أكتوبر.

جرى العرف علي تناول التضامن العربي خلال حرب أكتوبر، من منظور السياسات المباشرة المنتهجة خلال الحرب والفترة الممهدة لها. وهو منظور شديد الأهمية، إذ يضعنا مباشرة أمام تجليات التضامن . ولكن الاقتصار عليه ينطوي على مشكلة كبيرة، فهو يبعد أنظارنا عن العمليات والآليات البنيوية التي جعلت السياسات المعبرة عن هذا التضامن ممكنة وقابلة للنجاح. ولا يمكن اعتبار تلك العمليات والآليات جميعها مخططة وليدة الإرادة السياسية، فبعضها مخطط، ولكنها في مساحة كبيرة منها جزء من التطورات البنيوية الطبيعية للواقع السياسي في كليته، بما تنطوي عليه من صراعات وهزائم وانتصارات، وما يرافقها من تحولات في موازين القوي والإمكانيات ووجهة التناقضات والتحالفات. وهو ما يعني ان الفهم الكامل للحظة التضامن العربي في حرب أكتوبر، لمعرفة الطريق لإمكانية استعادتها وتجذيرها ومأسستها داخل المسار العربي الراهن، يجب إلا يقف عند حدود السياسات ويتجه للتعمق في فهم العمليات والآليات البنيوية التي أولدتها.

تجلت سياسات التضامن خلال الحرب عبر ثلاث مسارات أساسية. نجد الأول في الدعم الاقتصادي لدول المواجهة العسكرية، الذي تحمل الجزء الأكبر منه الدول العربية المنتجة للنفط. انطلق هذا المسار من قمة الخرطوم أغسطس 1967، التي انتهت الى اتفاق الدول العربية علي منح دول المواجهة 135 مليون جنية استرليني سنويا، في إطار صندوق جديد للدعم العربي. غير أن حصر الدعم في حدود مقررات الخرطوم سيبحثه قدره. فكل من طالع دراسات المرحلة يعرف ان كثيرا من الدول الداعمة تخطت تلك الحدود كثيرا. والأرقام تشهد ومن مصادر وثيقة. كشفت وثيقة للمخابرات الأمريكية أن مصر وسوريا تلقتا فيما بين 6 أكتوبر و23 نوفمبر 1973 حوالي 2.4 مليار دولار من الدول العربية. وذكر محمد حسنين هيكل في «الطريق إلى رمضان» انه خلال الأيام الأولى من الحرب دعمت ليبيا مصر بأربعين مليون دولار، ودعمتها السعودية بمائتي مليون والإمارات بمائة مليون.

ونجد الثاني في التعاقد غير المباشر على صفقات تسلح لصالح دول المواجهة، والمشاركة العسكرية العربية المباشرة في العمليات القتالية. ومن المؤكد وجود جانب التعاقد، وبكميات غالبا ليست هامشية وفي أسلحة استراتيجية، ولكن يصعب بحكم طبيعته غير المعلنة رسميا تقديم معلومات دقيقة عنه. ولكن لدينا معلومات دقيقة ومؤكدة بشأن جانب المشاركة القتالية، اكثرها مصداقية التي أوردها الفريق سعد الدين الشاذلي في مذكراته. على الجبهة المصرية قاتل من الجزائر لواء مدرع وثلاثة أسراب جوية جزائرية توزعت بين ميج21 وميج 17 وسوخوي. ومن العراق سرب هوكر هنتر، ومن ليبيا لواء مدرع وسرب ميراج، ومن السودان لواء مشاة، ومن تونس كتيبة مشاة. وعلى الجبهة السورية قاتل من العراق فرقه مشاة وأخرى مدرعة، وسربي ميج 21 وميج 17. ومن الأردن لواء مدرع، ومن المغرب لواء مدرع. وعلى الجبهة الأردنية قاتل من السعودية لواء مشاة. وهنا ينبغي ان نذكر أن حجم المشاركة القتالية المباشرة التي عرضتها الدول العربية، كانت أكبر من حجم المشاركة التي قبلتها دول المواجهة، التي تعذر عليها قبول عروض كثيرة لأسباب تتعلق بدرجة التجانس العسكري بين قوات الجانبين. ونجد الثالث في استخدام النفط العربي كأداة للضغط السياسي خلال مسيرة الحرب. يذكر محمود رياض أن فريقا من الدول العربية طرح في مؤتمر الخرطوم إيقاف ضخ النفط في سياق استراتيجية مواجهة عربية، ولكن فريقا آخر على رأسه جمال عبد الناصر رفض هذا، لأنه يضر اقتصاديا وسياسيا بالدول المنتجة ويحد قدرتها على دعم دول المواجهة، وتمكن من تحويل رفضة لموقف جماعي . ولكن حسابات استخدام النفط تغيرت خلال حرب أكتوبر، في سياق مسعى جماعي لتعديل أسعار النفط. وهكذا اتخذت الأوبك فيما بين 15 سبتمبر و19 أكتوبر سلسلة من القرارات، أسفرت عن رفع أسعار النفط وبدء حظره عن الدول المؤيدة لإسرائيل. وتميزت سياسات الحظر بسمة التدرج في نطاق الحظر ونسبته، الأمر الذي اكسبها واقعية وقدرة على التأثير. وهكذا بدأ الحظر بالولايات المتحدة واتسع تدريجيا ليشمل دولا أخرى، وبدأ بتخفيض الإنتاج بنسبة 25%، ثم اصبح 30% . وتواصلت السياسات حتى تقرر البدء في إنهاء الحظر من 17 مارس 1974.

ومن المؤكد ان تلك السياسات كانت وليدة الإرادة السياسية، ولكن الإرادة كانت في حاجة لتحولات عميقة في بنية النظام الإقليمي العربي، لكي تتشكل وتتحول الى سياسات فعالة وقادرة على التواصل. ويمكننا رصد تلك التحولات على امتداد الستينات والسبعينات على ثلاثة مستويات. سنجد المستوى الأول في توازن القوى الجديد داخل النظام العربي. بعد ان كان يميل بقوة لترجيح كفة القوى العربية الراديكالية، أخذت كفة القوى العربية المعتدلة في الصعود لتصبح مكافئة للكفة الأخرى. سنجد علة هذا التحول في عدة عوامل. التراجع في وزن القوى الراديكالية، تحت تأثير انهيار الوحدة المصرية السورية وهزيمة 1967، والمأزق المصري في اليمن، ثم الضغوط الاقتصادية الحادة التي أعقبت هزيمة يونيو وما نتج عنها من تصاعد الاحتياج للدعم العربي. ولكن ذات القوى في سوريا والعراق عانت في الستينات من أزمات إضافية، ناتجة عن ضعف استقرارهما السياسي وصراع الأدوار الحاد الذي دخلاه مع الدور المصري، وضعف خبرات نخبها السياسية. وبالتوازي مع هذا أخذ وزن القوى المعتدلة في الصعود. جرى العرف على نسبه هذا الصعود الى تأثير تراكم الثروة النفطية وطفرة الأسعار في 1973، ولكن واقع الأمر ان هناك أسبابا أخرى لا تقل أهمية. فلقد شهدت فئاتها الاجتماعية الوسطى ذات الدور المحوري في إدارة الدولة تطورات كمية وكيفية واسعة وعميقة، وأضحت نخبها الحاكمة اكثر استقرارا وتمرسا، وقطعت عمليات بناء مؤسسات الدولة أشواطا ضخمة.

وسنجد الثاني في التحول في أنماط الأدوار السياسية الأساسية داخل النظام الإقليمي . منذ منتصف الستينات وفي سياق تراجع قوة الدول الراديكالية، بدأت نزعة واقعية جديدة تتغلغل تدريجيا في سياساتها الإقليمية، وتجسد هذا بوضوح في انعقاد مؤتمري القمة العربية في 1964. ثم جاءت هزيمة1967 ومقررات قمة الخرطوم لكي ترسخ هذا الاتجاه. وسيشهد في السنوات التالية مزيدا من القوة والشرعية، تحت تأثير العوائق التي واجهتها عملية تحرير الأرض من جهة، وتصاعد الوفاق الدولي وضيق هامش الدعم والمناورة الذي كانت توفره الحرب الباردة من جهة أخرى. وستتجلى تلك النزعة الواقعية على عدة محاور. الانتقال من سياسات القومية والوحدة العربية الى سياسات التضامن العربي، والتحرير الكامل لإدارة السياسات الإقليمية من مفاهيم صراع الستينات الإيديولوجي مثل الاشتراكية والرأسمالية والتقدمية والرجعية، وسياسات جديدة تجاه القضية الفلسطينية تتبنى مفاهيم التفاوض السياسي والمصالحة التاريخية وشرعية الوجود الإسرائيلي.

وسنجد الثالث في تطور النزعات الاندماجية علي مستوي قاعدة النظام الإقليمي العربي. وسنرصد من تلك النزعات اتجاهين. يتمثل الأول في النمو المطرد للعلاقات العضوية المباشرة بين الشعوب العربية. نمو تبدو مؤشراته في انتشار التعليم وفقا لمناهج متقاربة، ومعه تماثل منظومة القيم السياسية بين النخب العربية المتعلمة. والثورة الاتصالية التي بدأت بثورة الترانزستور في الستينات، وأولدت تقاربا في رؤى القضايا القومية الكبرى بين القطاعات الجماهيرية الواسعة. وظهور سوق عمل عربي مشترك، ومعه انتقال مكثف للعمالة من قطر لآخر خالقا معه شبكة واسعة من العلاقات المباشرة. ويتمثل الثاني في اتساع قاعدة المنظمات والاتحادات العربية المشتركة، بما تحمله معها من توحيد في انساق القيم الاجتماعية والمهنية، وأطر تنظيم مهني عامة قادرة على توليد مواقف وتوجهات حركية مشتركة. فيما بين 1950 – 1970 كان عدد المنظمات والاتحادات العربية المشتركة44 فقط، ولكن خلال أعوام 1970 -1978 الثمانية، تأسست 63 منظمة واتحاد عربي جديد. ظهر 65% منها خلال الأعوام من 1974 الى 1976، كاستجابة للتغيرات العربية المصاحبة لظهور الفوائض النفطية وتدفقاتها.