أفكار وآراء

الإنسان.. قضية وجودية يعيد إنتاجها في كل مرة

07 أكتوبر 2018
07 أكتوبر 2018

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

ننظر، بكثير من الموضوعية؛ إلى المقولة الشائعة التي تشير إلى أن الحياة عبارة عن مشهد مسرحي، يتناوب الناس فيها على تمثيل الأدوار المختلفة، وفق مقتضيات الموقف، أو الحالة، أو الصورة، وعلى الرغم من اختلاف الأدوار في كل مرة، إلا أن الصورة تكرر مشهدها ذاته في كل مرة.

وإن كان هذا التكرار يوضع عليه بعض الرتوش المعبرة عن الواقع الجغرافي، أو الزمن الذي يعيشه هؤلاء الأفراد، وذلك لسبب بسيط جدا، وهو تغير الأداة أو الوسيلة، أو ارتقاء فكر الأفراد، وانتقالهم من حالة بدائية صرفة تتصرف وفق ما يتوفر لها من مادة ملموسة آنية «قوة العضل» إلى حالة أكثر تطورا تستخدم فيها الأداة بمستوى عال من الدقة، وبمستوى عال من الحرفية، وبمستوى عال من تصويب الأهداف «قوة الذهن» وأما الصورة العامة لمجريات الأحداث فظلت كما هي، والذي يحدث فقط، هو إعادة إنتاج لما هو موجود أصلا، ربما أحداث الطبيعة هي الوحيدة التي بقيت كما هي تتدفق بتلقائيتها المعهودة، بلا رتوش، تأتي هكذا دفعات متلاحقة الواحدة تلو الأخرى، وبلا استئذان، فتقضي على الأخضر واليابس، من غير حول منا ولا قوة، ولحكمة لا نعرفها نحن البشر، فالخالق مدبر الكون هو من بيده كل شيء، ولا راد لقضائه والحمد لله.

تواردت إلينا أحداث التاريخ البشري عبر ما نقرأ وما نسمع، وما يروى: حروب، احتلال، ثورات، تقتيل، تهجير، اغتصاب: (أرض أو عرض) وما نتائج كل ذلك إلا مآسي وأحزان، وحرق أعصاب، وتشتت، وتأخر في اكتمال البنى الأساسية التي تخدم الناس، وتنقلهم من حالة العسر إلى حالة اليسر، وعلى امتداد عمر البشرية كلها، ومع حلول المعرفة التي تنير الفكر، وتجلي الدرائن، ظلت البشرية كما هي تلعن بعضها بعضا، ولم تصغ إلى نداء العقل، والى التوجيهات الربانية التي أطلقها رب العزة والجلال من فوق سبع سموات؛ عبر رسله الكرام؛ حيث ظل الإنسان المتسلسل نسبه من الأنسنة، والإنسانية، يمارس غواياته الشيطانية بكل ما أوتي له من قوة في الفكر، وتطور في المادة، وامتداد في العمر، وعندما تخضع كل هذه الانفلاتات البشرية عن عقال العقل للدارسة والتمحيص والروية لا تجد لكل هذا العناء من مبرر مقنع، سوى حاجة في نفس هذا الإنسان غير منتهية الصلاحية.

يقينا؛ كلما قطعنا شوطا في هذه الحياة؛ أن الإنسان صاحب قضية، وهذه القضية تتكرر في كل عصر، حيث يعيد الإنسان إنتاجها في كل مرة بصور مختلفة، فقضيته مع أخيه الإنسان مزاحمته على رزقه، على مصالحه الخاصة والعامة، على مكانته عبر جغرافيته التي يراها مملكته، على مكونات قوته واستحكاماته لتعزيز هذه القوة، على مجموعة مكتسباته الشخصية والجماعية، على ارتقائه في سلمه الاجتماعي، مشاريع أرزاقه المختلفة، ألم يقل: «عدو المرء من يعمل كعمله» ومن هنا تأتي مجموعة المصادمات بين البشر أنفسهم، ولا يشاركهم فيها أي من الكائنات التي تملأ الجغرافيا من المحيط إلى المحيط، إلا إذا تعمد الإنسان نفسه مواجهتها فقط، مع أن الإنسان هو الذي ذهب إلى كثير من هذه الكائنات وروضها ترويضا لخدمة مشروعه الذي يناكف فيه أخيه الإنسان، فاستخدمها في الحروب، وفي الهجوم، وطوعها إلى جلب الرزق، وسخرها لخدمته لأغراض خاصة جدا، ومع ذلك لا يزال يتقلد سيفه باليد الأخرى ليضرب بها عنق من شاركه الإقامة في بطن أمه حواء.

قد تقول فطرة، وأوافقك على ذلك، وقد تقول إن الشيطان تعهد أمام رب العزة والجلال لإغوائه، وأسلم لهذه الحقيقة أيضا، وقد تقول تجاذبات نفسية تنتصر للذات الشخصية، وأقول لك نعم؛ وقد تقول: «إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب» وأسلم لك بكلتا يدي، كل هذه الأدوات هي مبررات مقنعة لهذا الصلف الذي يمارسه الإنسان ويتبادله مع من حوله، ولذلك هو يطور أدواته، لا لينتقل من طور أدنى متواضع إلى طور أسمى أكثر تأثيرا وفاعلية ليشيع أمانا أكثر، ويوجد في الحياة استقرار أكثر رحابة واتساعا، أو ليلغي الصورة العدائية التي ترزح من وطأتها الذاكرة البشرية طوال هذه السنين والدهور كلها، لا أبدا، بل ليعيد إنتاج صور الهجوم والاستحواذ على مقدرات البشرية أكثر وأكثر، ليعيش تموضعه الخاص جدا، ليرى نفسه أكثر، ليعلي من ذاته المطلقة أكثر، ومن المضحك المبكي؛ في هذا الاتجاه، أن هذا الإنسان ذاته، يسهر الليل، ويواصل جهد النهار للبحث عن حلول لمشاكله، ينشئ مؤسسات ومنظمات، ويعتقد الندوات والمؤتمرات، ويسن القوانين والأنظمة، ويوقع على المعاهدات والعهود، ويرسم الحدود ويقيم الحواجز، وبعد أن يخرج من غرفة الاجتماعات يصدر أوامره باقتلاع الحواجز، وإلغاء الحدود، ومسح مواثيق الشرف التي لا يزال حبرها طريا، ويعيد سيرته الأولى، وكأنه يمارس هواية إعادة الإنتاج في ثوب جديد، وهكذا يواصل العناد.

تساءلت مرة: ما الذي يدفع الإنسان إلى إعادة إنتاج قضاياه؛ هل هي القوة المتجددة التي لا يجد لها منفذا آخر؟ أم هو الضعف الذي يعتريه بين فترة وأخرى فيزلزل فيه خوف النهايات؟ لماذا يمارس الإنسان هواية التلوين كلما وجد إلى ذلك سبيلا، وفق المواقف والحالات، كما هو حال بعض الكائنات الأخرى التي تتلون وفق لون البيئة التي تكون فيها؟ أيعقل أنه استلهم مفهوم التدوير للمواد المستهلكة، مع أن مفهوم التدوير مفهوم جديد قياسا بعمر المعرفة؟ أليست عنده قضية أخرى غير قضيته مع نفسه، أو قضيته مع غيره من الكائنات؟ أم أنه يستمد محفزات هذا الإنتاج من المفهوم السائد لحياة الغابة التي لا يعيش فيها إلا من كان حاله من حال الضواري؟

كل هذه الصورة مقبولة للتعليل والتفسير، فحالة الواقع تشي إلى ذلك، وهي حالة معايشة منذ زمن بعيد، ولا تزال تراوح نفسها كمفاهيم ذاتية: القوة، الظلم، الحسد، نكران الجميل، البخل، النزعة الفردية الخالصة، وكمفاهيم سلوكية، حروب، اقتتال، احتلال، تهجير، إساءات مباشرة كالاغتصاب، السرقة، المماحكات الخبيثة، وقس على ذلك كثيرا من الممارسات التي تنكرها الفطرة السليمة: فـ «كل مولود يولد على الفطرة ....».

هناك من راهن على تأصل المعرفة للخروج من هذا المأزق، على الرغم من أن المعرفة حالة متدرجة ومتنامية، بمعنى أن المعرفة لم تنفصل يوما عن علاقتها العضوية بالإنسان، ومع ذلك لم تبد هذه المعرفة أي تحسن في تنظيم علاقة الإنسان بما حوله، حيث ظل؛ في وجود هذه المعرفة؛ يمارس غواياته المختلفة، وبقت المعرفة وسيلة لتطوير الأداة، وليست لترويض النفوس للحد من غلوائها وصلفها، وهياجها، إذن لم تفلح المعرفة في ترجيح كفة الرهان للذين راهنوا عليها، ولذلك أرى أن المراهنة على قوة القانون الذي وضعه الإنسان نفسه لكبح جماحه أكثر تأثيرا في تغيير تجاه البوصلة، وذلك للحد فقظ من ممارسات الإنسان وليس لوقف هذا النزيف المستمر منذ المعركة الأولى بين قابيل وهابيل؛ حيث بداية النشأة؛ مرورا بكل أحداث التاريخ، وامتدادا إلى نهايات التاريخ؛ حيث ذلك العمر البعيد المتخيل.

أختم هنا بالقول: إنه على الرغم من هذا الإحساس العميق الذي يجتاح النفس البشرية من هذا الصلف الإنساني الشديد القسوة، إلا أن الإنسان- على الرغم من هذا العمر الممتد والمخضب بالتجربة الإنسانية العميقة- إلا إنه لا يزال يقف عاجزا عن وقف هذه النزيف المؤلم، وكل ما يستطيع فعله هو إعادة إنتاج نفس القضايا الأزلية في صور أخرى معبرة عن شيء من مظاهر العصر الذي يعيشه، بأدواته التي طورها استمرار لمشروعه المستمر، ظنا منه أن ذلك سوف يوصله إلى مراتب السعادة، ولكن دائما تأتي النتائج عكس ذلك تماما، حيث يعود الإنسان في كل مرة إلى مربعه الأول.