أفكار وآراء

أين المفر من الفوضى العالمية؟!

06 أكتوبر 2018
06 أكتوبر 2018

د. عبدالعاطي محمد -

تحولت أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها 73 إلى ما يشبه المحاكمة العلنية للمنظمة الدولية باعتراف صريح وقوي من أمينها العام انطونيو جوتيرس بأنها فشلت في القيام بمهامها التي لخصها المؤسسون عام 1945 في تحقيق السلام والأمن الدوليين والتنمية لكل شعوب العالم.

ولم يكن هو الوحيد الذي ارتدى ثوب القاضي بل شاركه في ذلك قادة عالميون كثيرون كان من أبرزهم الرئيس الفرنسي ماكرون، بما شكل رسالة عالمية بأن العالم يتجه سريعا من التعاون إلى الصراع وسط وتيرة متزايدة من الانحراف نحو الفوضى العالمية أو انهيار النظام العالمي برمته.

المحاكمة في واقع الأمر لم تكن للمنظمة الدولية، وإنما للدول الأعضاء وعلى وجه الخصوص للدول الكبرى المتحكمة في مجلس الأمن أعلى سلطة في المنظمة الدولية، لأن المنظمة بالأصل مجرد سكرتارية للتجمع الدولي الضخم الذي وصل عدد أعضائه إلى 193 دولة، وهى تنجح أو تفشل وفق إرادتهم الجماعية وليس وفق وجودها في حد ذاته. وما الكلمات الحادة التي تحدث بها جوتيرش وغيره من القادة والتي شكلت مجمل ملامح المحاكمة المثيرة التي تابعها العالم على الهواء مباشرة، إلا اتهامات صريحة وقاسية للدول الكبرى التي تراجعت عن التزاماتها بما احتواه ميثاق الأمم المتحدة من مبادئ وقواعد وإجراءات تم وضعها لإيجاد نظام عالمي يتسم بالتعاون واحترام السيادة ورفاهية البشرية جمعاء.

وربما قد لا تثير هذه المحاكمة دهشة أو استغرابا عند الرأي العام العالمي، بالنظر إلى أن التحذير من أوجه التقصير التي شابت أداء المنظمة الدولية على مدى السنوات الأخيرة، كان سمة معتادة في كثير من كلمات القادة في الدورات السابقة القريبة زمنيا، بل ومن جانب كثير من قادة العالم هذه الدورة أيضا. ولكن هذه المرة وفي الدورة 73 اشتدت حدة التحذير وخلت من الدبلوماسية والحرج تعبيرا عن الشعور القوى بأن تدهور الأوضاع العالمية سواء على المستوى الدولي أو الإقليمي قد وصل حدا ينذر بالهاوية، وليس من المبالغة القول إن القلق والخوف على مصير البشرية فاق اليوم ما كان عليه الحال في أشد فترات الحرب الباردة سخونة، لأن الالتزام بقواعد وقوانين المنظمة الدولية يتلاشى تدريجيا، بل ربما لم يعد قائما على وجه العموم.

جوتيرش وأمام العشرات من زعماء الدول، ممن حضروا هذه الدورة وكان من بينهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بينما لم يحضر زعيما روسيا والصين، قال بوضوح وبكلمات يملأها الأسى: «إن الثقة في النظام العالمي الذي يستند إلى القوانين وبين الدول أصبح عند حافة الهاوية، وأن التعاون الدولي أصبح أكثر صعوبة.. النظام العالمي يزداد اليوم فوضى، وأصبحت علاقات القوة أقل وضوحا، وتتعرض القيم العالمية للاندثار، والمبادئ الديمقراطية محاصرة». وقال أيضا: «اليوم ومع تغير ميزان القوى فإن خطر المواجهة قد يتزايد وأجندة حقوق الإنسان تتراجع، والسلطوية تتزايد». وأقر جوتيرش بأن جهود السلام تفشل واحترام الأعراف الدولية يتلاشى مشيرا إلى أن هناك غضبا من عدم قدرة المجتمع الدولي على إنهاء الحروب في سوريا واليمن ومناطق أخرى، وأن الروهينجا ما زالوا منفيين ويعانون من الصدمة والبؤس ولا يزالون يتطلعون إلى السلامة والعدالة.

والرئيس الفرنسي ماكرون كان أكثر صراحة وتحديدا في وضع النقاط على الحروف فيما يتعلق بالحالة الفوضوية التي يعيشها النظام الدولي العالمي اليوم، فإلى جانب إسهابه في إعادة التأكيد على القيم الإنسانية التي قامت عليها الأمم المتحدة وإشاراته القوية إلى تراجع إن لم يكن اختفاء هذه القيم، وكذلك ما كرره كثيرا بالنسبة لأهمية احترام القوانين الدولية دفاعا عن البقية الباقية من النظام الدولي، أشار إلى أن مصدر الخلل هو سعي بعض الدول الكبرى إلى أن تفرض كلمتها هي على الآخرين ولجوئها إلى منطق القوة لا منطق الحوار. قال: إن قانون الأقوى هو السائد، ولكن هذا القانون يقود العالم مباشرة إلى طريق الأحادية، ذلك الطريق الذي يقود بدوره إلى الانكفاء والنزاعات والمواجهة العامة للجميع ضد كل شيء حتى على من يظن نفسه الأقوى على حد تعبيره. وأشار إلى أن قانون الأقوى أثبت فشله في تحقيق الاستقرار. والملفت أن ماكرون كان يوجه حديثه بشكل غير مباشر إلى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي كان قد وجه انتقادات حادة كعادته للمنظمة الدولية بالنظر إلى أنه لم يخف منذ انتخابه رأيه بأنها منظمة فاشلة وليس من المفيد للولايات المتحدة أن تنفق عليها ولا أن تتبع قواعدها! كما عبرت كلمة ترامب عن السمة العامة في سياسة بلاده في عهده باعتماد المواجهة والصراع مع كل من يخالفها أو ضد كل من تعتبره خطيرا على مصالحها الاقتصادية والأمنية، وحفلت كلمته كما كان متوقعا بتصعيد حاد في الخلاف القائم بينه وبين دول مثل روسيا والصين وإيران. ولكن ماكرون أراد بكلمته أن يعبر عن رفض بلاده لمواقف وسياسات إدارة ترامب عاكسا بذلك تيارا عاما داخل الاتحاد الأوروبي يعبر عن اتساع الفجوة في المواقف والمصالح بين أوروبا والولايات المتحدة في عهد ترامب. وتوقف ماكرون مليا عند الحالة الإيرانية المتعلقة بملفها النووي، حيث الخلاف الصريح بين أوروبا والولايات المتحدة بخصوص هذا الملف. واهتم ماكرون بهذا الموضوع كمثال من جانبه على الخطر الذي بات محدقا ببنية النظام الدولي وما سماه بالسعي إلى فرض الأحادية وقانون القوة. ودافع ماكرون عن وجهة النظر الأوروبية التي تريد الإبقاء على الاتفاق النووي الإيراني وترفض انسحاب الإدارة الأمريكية الحالية منه.

لسنا في حاجة إلى توضيح إلى أي حد تضرر عالمنا العربي من هذا الوضع الدولي المضطرب أو من الانحراف إلى الفوضى بوتيرة متزايدة بلغة جوتيرس نفسه، فنظرة بسيطة إلى الساحة العربية كفيلة بالتأكيد على أن عالمنا العربي هو أول وأكبر الأطراف الإقليمية التي تضررت بشدة من هذه الفوضى العالمية أو أنه هو الذي يدفع الثمن أكثر من غيره لاستمرار هذه الفوضى. يتحدث عن الضرر ما جرى ويجري في بلدان عربية شقيقة عزيزة على أمتها العربية، في سوريا واليمن وليبيا وأيضا العراق، وعن تسخين الأوضاع الإقليمية الناتج عن المواجهة من جانب كل من الولايات المتحدة وإسرائيل مع إيران، ناهيك عن الوضع المأساوي المعتاد في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وكذلك وقوع المنطقة في فخ سباق التسلح الذي يستنزف ثرواتها الوطنية التي كان من الممكن توجيهها للتنمية حتى تزداد شعوب المنطقة استقرارا ورفاهية، هذا فضلا عن المحاولات المستمرة لجذبها نحو تحالفات أو أحلاف تخدم غرض الدول الكبرى بالدرجة الأولى. وما كل ذلك إلى غيض من فيض للفوضى التي ضربت النظام الدولي المعاصر.

من الطبيعي في هذا السياق أن يثور التساؤل: أين المفر؟ أو كيف الخروج من الانحراف إلى الهاوية كما عبرت عنه كلمات جوتيرس وغيره من قادة العالم في الدورة 73 للجمعية العامة؟ والإجابة معني بها الجميع سواء المجتمع الدولي أو المنظمة الدولية، وبالطبع منطقتنا العربية بوصفها المنطقة الأكثر تضررا من الفوضى العالمية.

لدينا هنا ثلاثة خيارات أو حلول مفترضة ولا نقول إنها تتسم بالإجرائية أو التفعيل في خطوات محددة، فقط هي تمثل توجهات تحكم في مرحلة تالية صدور السياسات والتحركات الدبلوماسية. الحل أو التوجه الأول طرحه جوتيرش نفسه في كلمته أمام الجمعية العامة ويقضي- وفقا لعباراته- بأنه يتعين على قادة العالم تجديد التزاماتهم بالنظام العالمي المستند إلى القوانين بحيث تكون الأمم المتحدة في صلبه لمواجهة التهديدات الوجودية الهائلة على الناس والكوكب. وقال: «لا يوجد سبيل مستقبلي سوى العمل الجماعي المنطقي من أجل المصلحة الجماعية». هذا التصور يتسم بكونه تحفيزيا أو تشجيعيا، ولا يخرج في الحقيقة عن لغة كل من تولوا منصب الأمين العام للأمم المتحدة، حيث لا يمكنهم إلا التحفيز والحث والتشجيع على الالتزام بروح وقواعد الميثاق. وبوجه عام هو تصور أخلاقي ومعنوي لأن الأمين العام لا يملك سلطة التوجيه بالطبع، والجمعية العامة ذاتها ليست لها من دور أكثر من كونها منبر للرأي وقراراتها مجرد توصيات في نهاية المطاف، بينما السلطة الحقيقية هي لمجلس الأمن.

وأما التصور أو الخيار الثاني فقد عبر عنه ماكرون عندما طالب بالحوار والتعددية بديلا لقانون القوة على حد تعبيره، وركز على أن الأمر في البدء والنهاية موقعه مجلس الأمن عندما يجرى استخدام الفيتو لإجهاض حل ما يرتضيه غالبية الأعضاء بمن فيهم بعض الأعضاء في المجلس. وإشارته الواضحة إلى المجلس كانت علامة على أن الدول الكبرى هي التي يتحتم عليها أن تعمل بمبدأ الحوار وتقبل بالتعددية. ومع أن هذا التصور لا يبتعد كثيرا عن منطق التحفيز الذي تحدث به جوتيرش، إلا أنه يدخل أكثر في نطاق الضغط السياسي الفعال لاستعادة قوة النظام الدولي لأنه يأتي من دولة كبرى وعضو مؤثر في مجلس الأمن وتتحدث باسم الاتحاد الأوروبي إن جاز التعبير، ولها علاقات طيبة مع كل من روسيا والصين، بما يعني محاولة جادة لتشكيل تكتل دولي مضاد لسياسات الإدارة الأمريكية الحالية المتهمة بإحداث الخلل في النظام الدولي.

وأما التصور الثالث فهو التحصين من الأمراض التي انتابت النظام الدولي المعاصر، ويستند إلى بناء القدرات الذاتية التي تحفظ الوحدة الداخلية للدول وتدرأ عنها سبل التهديد الخارجي وتجنب الانزلاق لصراعات الدول الكبرى مع بعضها البعض، مع تأييد ودعم التوجهات الدولية المطالبة بالحوار والتعددية، وهذا هو التصور الممكن لمنطقتنا العربية في ظل الوضع المتأزم الذي يمر به النظام الدولي.