صحافة

القدس - اعتقال الأطفال الفلسطينيين: وظيفة مركزية في مشروع إسرائيل الاستعماري الاستيطاني

04 أكتوبر 2018
04 أكتوبر 2018

في زاوية أقلام وآراء كتب محمد الرزي مقالا بعنوان: اعتقال الأطفال الفلسطينيين: وظيفة مركزية في مشروع إسرائيل الاستعماري الاستيطاني، جاء فيه: يمثل اعتقال الأطفال الفلسطينيين من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي حالة خاصة، كونه لا يتم من قبل دولة ذات سيادة ضد مواطنيها، ولكن من قبل دولة احتلال ضد أفراد ينتمون لإثنية وقومية أخرى، لا تمثلهم دولة ذات سيادة. وتندرج هذه الخصوصية في سياق النظر إلى إسرائيل كدولة احتلال، ولممارساتها على الأرض بأنها ذات طبيعة استعمارية استيطانية. هذه النظرة التي تنطوي على شكل معقد من أشكال الاستعمار، توفر إجابات لفهم الاعتقال المُمنهج للأطفال الفلسطينيين.

يسعى الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي منذ نكبة عام 1948 إلى اتباع سلسلة من الممارسات تحمل في جوهرها «منطق القضاء» على الأصلي، أي القضاء على السكان الأصليين والسيطرة على الأرض. ويندرج تحت القضاء على السكان الأصليين عدة أشكال من الممارسات الاستعمارية أبرزها عمليات التطهير والمذابح، النقل والتهجير، وكذلك استيعاب القلة المتبقية من السكان الأصليين ضمن القومية والهوية الجديدة للمستعمِر. تمثل سلسلة الأحداث التي سبقت وأعقبت إنشاء دولة إسرائيل عام 1948 بداية من الهجرة اليهودية، ووصولا حتى احتلال الضفة الغربية وغزة والقدس، نموذجا «ناجحا» للاستعمار الاستيطاني.

ويشير الكاتب والأكاديمي المعروف «لورينزو فيراتشيني» إلى أن احتلال الضفة الغربية وغزة والقدس عام 1967 لم يحظ بذات النجاح الذي حققته العصابات الصهيونية، ثم دولة إسرائيل في السيطرة على الأراضي الفلسطينية وترسيخ نموذج استعماري استيطاني ناجح قبل عام 1967. لم تنجح إسرائيل في تكرار هذه التجربة لعدة أسباب منها أن أحداث حرب 1967 واحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس لم ينتج عنه «تفريغا» لأغلبية الفلسطينيين، مما شكل تحديا لمنطق القضاء والتخلص من السكان الأصليين الضروري لتحقيق نموذج استعماري استيطاني ناجح. ولكن عدم اكتمال أو نجاح المشروع الاستعماري الاستيطاني في الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967، لا ينفي سعي إسرائيل الدؤوب لتنفيذ ذلك البتة، وذلك عبر تجنيد كافة مؤسساتها التشريعية والأمنية والعسكرية في ممارسات تقمع حقوق الفلسطينيين، وتنتهك قواعد القانون الدولي وحقوق الإنسان.

وتتبنى إسرائيل إجراءات تعسفية بحق الشعب الفلسطيني، ويندرج اعتقال الأطفال كأحد الإجراءات التعسفية الممنهجة التي تتبعها السلطات الإسرائيلية منذ عقود من الاحتلال، حيث يواجه أكثر من 700 طفل فلسطيني المحاكم العسكرية الإسرائيلية كل عام بعد اعتقالهم والتحقيق معهم، بحسب دراسة أجرتها مؤسسة «الضمير» في العام 2017. ويتعرض الأطفال الفلسطينيون وعائلاتهم لشتى أنواع الإساءة التي تبدأ بالاقتحامات الليلية لمنازلهم، وهي التي عادة ما ينفذها جنود مدججون بالسلاح في منتصف الليل، وتترافق مع تفتيش وإتلاف لممتلكات الأطفال، بشكل ينتهك خصوصيتهم. ويترافق هذا الاعتداء أيضا مع عنف جسدي ولفظي، وتهديد يستمر خلال الحجز والتحقيق قبل مثولهم أمام المحاكم العسكرية، وأثناء إجراءات المحاكمة.

وتتعمد إسرائيل إرهاب الأطفال من خلال إصدار الأحكام القضائية الصارمة التي تصل أحيانا إلى السجن عشرين عاما، أو الإقامة الجبرية داخل مسكن الأسرة أو الإبعاد عن مكان الإقامة، وهذه العقوبة الأخيرة تنفذ بشكل خاص على الأطفال المقدسيين، ولا تراعي العقوبات الإسرائيلية أي اعتبار لطفولتهم أو حتى المواثيق الدولية التي تحمي الأطفال، وهي التي وقعت إسرائيل على عدد كبير منها.

تجهد إسرائيل في توظيف نهجها في إرهاب واعتقال الأطفال لخدمة مساعيها في تحقيق مشروعها الاستعماري الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967. وتستخدم أساليب إذابة، استيعاب وهضم، و/‏‏أو القضاء على السكان الأصليين، في إنفاذ سياسات وممارسات السجن والتجريم، وأساليب المداهمة التي تمارسها قوات الجيش الإسرائيلي إبان عمليات القبض واعتقال الأطفال. وتعمل هذه الأساليب على تجريم وشيطنة الطفل وعائلته، والمحيط الاجتماعي المحيط به، وتستمر خلال مراحل الحجز والاستجواب والتحقيق، وصولا إلى المثول أمام المحاكم العسكرية والقضاة العسكريين. وتعزز هذه الممارسات المشبعة بالصرامة أفكار مغلوطة على المستوى المحلى والدولي، بحيث تنظر إلى الأطفال في فلسطين كأفراد بالغين، لا تنطبق عليهم الحماية الإضافية المضمونة لفئة الأطفال بالقانون الدولي. ويوطد هذا التشدد في التعامل مع الأطفال، فكرة أن هؤلاء الأطفال يستحقون المعاملة القاسية التي تنافي الصورة المعولمة للطفل، كما تتعزز هذه الأفكار أكثر عبر إنفاذ أحكام سجن عالية ضد الأطفال، تصل حسب الأوامر العسكرية الإسرائيلية النافذة إلى عشرين عاما من الاعتقال. وتنفذ هذه الأحكام نفسها أيضا على البالغين الفلسطينيين، في مسار متعمد، تعمل من خلاله إسرائيل على إزالة الفروق المفاهيمية والتطبيقية بين فئة الأطفال والبالغين.

وترى إسرائيل في الأطفال الفلسطينيين تهديدا مستقبليا لمشروعها، وتضعهم والبالغين في فئة واحدة، ولا تتردد في إطلاق العنان لممارساتها ضدهم، لدواع أمنية خالصة، ترمي لحماية مشروعها الاستعماري الاستيطاني، فهي تنظر إلى الأطفال كتهديد ينطلق من انخراط الأطفال بالساحة السياسية منذ سن مبكرة ترى فيه بذرة لانخراط سياسي متنام، وأشد تأثيرا في المستقبل. وبالتالي تحاول إسرائيل وأد ذلك الانخراط في مهده، لتجنب مخاطر مواجهة التعامل مع جيل جديد من الفلسطينيين المسيسين، فالانخراط السياسي المبكر للفلسطينيين اليافعين بالنسبة لإسرائيل هو مؤشر لبقاء وصمود هوية سياسية فلسطينية، وهو ما يعقّد مساعيها لإحلال مشروع استعماري استيطاني يقوم على إذابة السكان الأصليين. وتأخذ إسرائيل قضية انخراط الأطفال في المجال السياسي على محمل الجد، لأسباب أخرى، منها أن إسرائيل كانت تراهن على أن أجيال الفلسطينيين الشابة التي ولدت وعاشت في وهم «عملية السلام»، بخلاف الأجيال السابقة التي عاشت النكبة والنكسة والانتفاضة الأولى، ستكون مسيسة بشكل أقل، ولكن لم يتحقق الرهان الإسرائيلي، خصوصا مع تعثر هذه «العملية». وتحاول إسرائيل عبر استهداف الأطفال بالاعتقال وأد أي تطلّع لهوية سياسية تتعلق بالأطفال كحاملين للهوية السياسية العابرة للأجيال التي يقف عائقا أمام تنفيذ مشروعها الاستعماري، ومنع هذا الانتقال للرواية السياسية من الآباء للأبناء، ومن الأجيال التي عاصرت المخاض السياسي الفلسطيني للأجيال الشابة.

قد لا يُعبر اعتقال الأطفال وإهانتهم وتعذيبهم وإساءة معاملتهم فقط عن سادية دولة استعمار، ولكنه يشكل حجر أساس مركزي ضمن عمليات الإذابة والقضاء على السكان الأصليين، ولكن ما لا تدركه إسرائيل أن الهالة السياسية التي تحيط بالأطفال المعتقلين بُعَيد إطلاق سراحهم، المتمثلة بالاحتفالات والمراسم التي ترافق ذلك، والأدوار الاجتماعية البطولية المرتبطة بالأسير التي تمتد للأطفال الأسرى، والمتجذرة في التراث السياسي الفلسطيني، تناهض الوظيفة التي تسعى إسرائيل لتحقيقها عبر الاعتقال (وأد أي تطلعات سياسية)، وهذا يبدو جليا بتنامي وتجذر الوعي السياسي للأطفال وذويهم، الأمر المهم لمقاومة أي ممارسات ذات طبيعة استعمارية استيطانية.