إشراقات

إلزام ومسؤولية وجزاء

27 سبتمبر 2018
27 سبتمبر 2018

د. سعيد بن سليمان الوائلي /كلية العلوم الشرعية - مسقط -

«وليس بعيدا عن أذهاننا أن نرى أن الفضائل من أهم الأشياء للأفراد والمجتمع البشري، وغاية من أسمى الغايات الإنسانية، ومن أعظم المقومات للحضارة الإنسانية، لا يمكن الاستغناء عنها لأي نوع من الأنواع البشرية ولا لأي مجتمع من المجتمعات الإنسانية، من أجل ذلك منذ أول وجود المجتمع الإنساني كانت مهمة الفضيلة من أحسن المهمات لسائر الاتجاهات والمذاهب»

«لقد أتى الإسلام محافظا على ذات الإنسان، مع مراعاة ما يصلح له وجودا وعدما، فشرع من أجل ذلك، بل وغطى في تشريعاته كل ما يتعامل معه الإنسان، في أوامره ونواهيه وحدوده .. وجعل تعاملاته محاطة في إطارها العام بالإحسان في كل شيء، ليقيه من الدناءة والرذيلة.

هذا ما نجده في حفظ الفضيلة والمحافظة عليها بوجودها في حياة الإنسان، وفي تعامل كل فرد مع غيره من قريب وبعيد.

فأهمية فضائل الأعمال والأخلاق في المجتمع الإنساني لا تخفى على أحد؛ كيف؟ والإسلام دين شامل للحياة البشرية، قد اعتنى بالفضيلة فاعتبرها في نظره من الضرورات، وحارب الرذيلة في القول والعمل والخلق، وعدها من المذمومات.

لذلك نرى أن الأخلاق الفاضلة هي من أهم الدعائم والأسس التي يقوم عليها نظام الحياة البشرية، ومما لا شك فيه أن المستوى الأخلاقي للأمة مقياس حضارتها وأساس بناء مجتمعها، حتى قيل نظما:

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

ولو نظرنا في ذلك إلى ما قاله بعض العلماء في حقيقة الفضيلة في الخلق، حيث قيل: هو أن يكون الرجل كثير الحياء، قليل الأذى، كثير الصلاح، صدوق اللسان، قليل الكلام، كثير العمل، قليل الزلل، قليل الفضول، برا وصولا، وقورا صبورا، رضيا حليما، رفيقا عفيفا شفيقا، لا لعانا ولا سبابا، ولا نماما ولا مغتابا ولا عجولا ولا حقودا ولا بخيلا ولا حسودا، بشاشا هشاشا، يحب في الله ويبغض في الله ويرضى في الله، ويغضب في الله.

نرى في هذا القول أن الفضيلة في الأعمال وفي الأخلاق قد أخذت حيزا متسعا في أحكام والتعاليم، ويظهر ذلك في الحث والتشديد على الاستمساك بها والتأكيد على التحلي بها، والدعوة إلى التخلي عن أضدادها من الرذائل والمسترذلات.

وليس بعيدا عن أذهاننا أن نرى أن الفضائل من أهم الأشياء للأفراد والمجتمع البشري، وغاية من أسمى الغايات الإنسانية، ومن أعظم المقومات للحضارة الإنسانية، لا يمكن الاستغناء عنها لأي نوع من الأنواع البشرية ولا لأي مجتمع من المجتمعات الإنسانية، من أجل ذلك منذ أول وجود المجتمع الإنساني كانت مهمة الفضيلة من أحسن المهمات لسائر الاتجاهات والمذاهب.

قال القاضي الفضيل بن عياض: «إذا خالطت فخالط حسن الخلق؛ فإنه لا يدعو إلا إلى خير، وصاحبه منه في راحة، ولا تخالط سيئ الخلق؛ فإنه لا يدعو إلا إلى شر، وصاحبه منه في عناء، ولأن يصحبني فاجر حسن الخلق أحب إليَّ من أن يصحبني قارئ سيئ الخلق، إن الفاسق إذا كان حسن الخلق عاش بعقله، وخف على الناس وأحبوه، وإن العابد إذا كان سيئ الخلق ثقل على الناس ومقتوه».

فهذه المبادئ للفضيلة ضرورة في بناء المجتمعات وترسي دعائم قيام المجتمع الإنساني، كما يريد خالق البشر، ويشعر الإنسان من خلالها أنه خليفة الله في الأرض بما ناله من تكريم إلهي يحيا من خلاله حياة طيبة كما ينبغي أن تكون.

وبصورة عامة وسريعة، ننظر إلى وسائل تساعد على تربية الإنسان على الفضائل، حيث تتربى النفس الإنسانية ويتم تزكية الفضيلة في الكيان البشري.. فلا بد من أجل ذلك من عوامل مساعدة، قد تتعدد وتختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والظروف، ولكن من أبرزها: مجاهدة النفس: فمن السهولة أن يكون الإنسان سيئ الخلق، خاصة في المواقف التي تتأجج فيها الأنانية، وتوضع فيها المصالح الشخصية فوق كل اعتبار، ومن هنا فإن مجاهدة النفس على تمثل القيم الفاضلة والأخلاق الحميدة، خاصة مع أسوأ الناس أخلاقا هو الأمر الصعب.

ثم محاسبة النفس على ما قدمت وأخرت: فإن المحاسبة الدائمة للنفس، تعرف الإنسان على مواطن الخلل لديه، وتساعده على تجاوز أخطائه وعثراته، والارتقاء بأخلاقه نحو الأفضل، والأهم من هذا أنها قادرة على منع الإنسان من الاعتياد على الخطأ، والركون إلى الرذيلة والمفاسد.

والتربية والتنشئة: حيث إن تنشئة الأبناء على الفضائل تعتبر من الأمور التي ترتقي بالآباء والمربين والمعلمين والمؤدبين، من قبل من تمارس معهم العملية التربوية، كما أنها من الأمور التي تحتاج إلى صبرٍ حتى يرى المربون نتاج غرسهم، فيحافظ على الفضيلة بعد التخلي عن الرذيلة.

كذلك التأمل في آثار الفضائل وسوء عاقبة الرذائل: فلا يوجد ما هو أوضح من الآثار الحسنة، والآثار السيئة على حياة الإنسان، خاصة على الصعيد النفسي، فعاقبة الرذيلة تورث تعبا، وهما، وغما، ونفسا لوامة، على عكس الفضيلة في أثرها الحسن الذي يورث نفسا مطمئنة، هادئة، مرتاحة، حتى لو كانت ظروفها صعبة.

ومن العوامل المساعدة في تربية الفضيلة: البيئة الصالحة والجليس الصالح؛ وذلك بمشاهدة أرباب الفعال الجميلة ومصاحبتهم، وهم قرناء الخير وإخوان الصلاح، جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل الجليس الصالح والسوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحا خبيثة). رواه البخاري ومسلم. قال النووي: «في الحديث تمثيله صلى الله عليه وسلم الجليس الصالح بحامل المسك، والجليس السوء بنافخ الكير، وفيه فضيلة مجالسة الصالحين وأهل الخير والمروءة ومكارم الأخلاق والورع والعلم والأدب، والنهي عن مجالسة أهل الشر وأهل البدع ومن يغتاب الناس أو يكثر فجره وبطالته ونحو ذلك من الأنواع المذمومة». ولندرك أثر الصاحب ينبغي أن نتدبر في قوله تعالى: (ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا) [الفرقان: 27-29]

كذلك القدوة الحسنة: فتكون الفضائل موجودة في الحياة بحسب رؤية الإنسان فيمن يتخذه قدوة حسنة وأسوة طيبة، حيث الإنسان بطبعه يميل إلى التقليد، قال تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا) [الأحزاب:2]. فهو خير قدوة يقتدي بها الأفراد في تحقيق الفضائل، وهو عليه الصلاة والسلام المثل الأعلى في محاربة الرذائل والقضاء على المفاسد. فإذا برزت القدوة الطيبة، والنموذج الراقي، والمثل العالي أمام العين.. تكون المسارعة إلى التقليد والتأسي بها إلى ما يطمع الإنسان من تحقيق للأهداف. قال الله تعالى: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) [الأنعام:90]،

ومما ينبغي الإشارة إليه أن الدين الإسلامي في محافظة على الفضائل ومحاربته للرذائل قد أثبت ركائز أساسية، ووضع دعائم لتحقيق ذلك بصورة عامة، أضعها بصورة مختصرة في ثلاث نقاط متتالية، وهي: إلزام، ومسؤولية، وجزاء.

فإلزام بتحقيق الفضيلة، وتحريم للرذيلة حتى لا يتوجه إليها.. يتبع ذلك مسؤولية فكل إنسان مكلف في حياة بالعمل وفق التعاليم الشريعة بما يحقق الفضيلة ويكون فيه مبتعدا عن الرذائل كلها.. ثم يكون الجزاء من جنس العمل، فيجازي المحسن على إحسانه بالثواب، ويحاسب المقصر على تقصيره ويجازى بالعقاب، وكل واحد يتحمل مسؤولية اختياره.

وفي الختام، ينبغي أن ندرك أن الفضائل في العمل والأخلاق والتصرفات لها مكانة في الدين الإسلامي، ويتبع ذلك مكانة في واقع الحياة الاجتماعية، وهذا يظهر من وجوه كثيرة، منها ما يأتي:

أولا: تعليل الرسالة بتقويم الأخلاق وإشاعة مكارمها، والعمل على إصلاح ما أفسدته الجاهلية منها.. وذلك منتهى الفضيلة. فقد جاء في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».

ثانيا: تعريف البر بأنه حسن الخلق، وهذا يدل على أن الفضيلة في حسن الخلق جامع لكل أقسام الخير وخصال البر. فعن النواس بن سمعان الأنصاري قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن البر والإثم، فقال: «البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس».

ثالثا: إن المؤمنين يتفاوتون في إيمانهم، ولكن أفضل المؤمنين في إيمانهم هم أحسنهم أخلاقا. فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائهم خلقا» بل إن من أهم عناصر الخيرية المطلقة بين المؤمنين هو تحليهم بالأخلاق الفاضلة، والخصال الحميدة. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أخيركم أحسنكم خلقا».

رابعا: كثرة الآيات القرآنية المتعلقة بموضوع الأخلاق، أمرا بالحسن منها، ومدحا للمتصفين به، ومع المدح الثواب، ونهيا عن القبيح منها وذم المتصفين به، ومع الذم العقاب. ولا شك أن كثرة الآيات في هذا الموضوع يدل على أهمية الفضائل العملية والخلقية.

كذلك كثرة الأحاديث في موضوع الأخلاق التي تمدح حسن الخلق إجمالا وتفصيلا، وتذم سيئ الأخلاق إجمالا وتفصيلا، وهذا يقطع بأهمية الأخلاق ومكانتها في الإسلام.

وعلى جهة التفصيل لم يترك الإسلام خلقا صالحا إلا ودعا إليه وأمر به، ونهى عن ضده من الأخلاق، فمثلا أمر بالصدق والأمانة والكرم، ونهى عن الكذب والخيانة والشح والبخل. فعن عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا». وعن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك».

وهذا الاهتمام التفصيلي، ومن قبله الإجمالي، بالحث على حسن الخلق والمعاملة بالحسنى، يظهر مكانة الفضائل في شريعة الإسلام بما يدعو إلى المحافظة عليها، ومحاربة ضدها.