Randa-New
Randa-New
أعمدة

عطر: «بابور الكاز» منقذي

26 سبتمبر 2018
26 سبتمبر 2018

رندة صادق -

[email protected] -

في البال دائما ذاكرة لا ينطفئ وهجها، ولا تخبو نارها، تحضر في ذكرياتنا لتعيد لنا كل تفاصيلها،لا يمكن تحديد لما تعلقنا بها ؟ أو كيف تشكّلت تلك المشاعر التي تسكننا على مدى سنوات العمر؟.

هناك صورة وعطر وتفاصيل، هناك نبض لا يستكين، ومساحات لنا وحدنا، وقصة نحن أبطالها وسادتها ونحن براءتها .

عالم الواقع عالم شرنقي، يمحو مع كل ضوء شيئا من تلك الذاكرة، ويبني جدارا من الانشغالات التي تسطو على كل الأوقات الجميلة محاولة استبدالها بأحداث أخرى، تتهيأ لتصبح ذاكرة زمنية جديدة، حلقات وتقاطعات وجوه وأشياء صور تتدفق دون استئذان أنها طفولة في حرب لا تحترم لا طفلا ولا شابا ولا شيبا .

أعوام تراكمت لتثقل الجسد، وتمحي الكثير من الذكريات، وتحول البعض منها إلى صور ضبابية لم تتمكن من غربلتها الأيام، إنها ذاكرة “بابور الكاز “ في مرحلة الرعب التي رافقت طفولة الكثير من أبناء مرحلة الحرب اللبنانية، هذه الآلة التي تعتبر بدائية نسبة لتطور ورفاهية المواقد والأفران وتنوع أساليبها العصرية وأشكالها الانسيابية، ولمن لا يعرفها، هي عبارة عن آلة اخترعت بعد مواقد الحطب، في إحدى مناطق السويد دخلت بلادنا العربية تقريبا في الأربعينات من القرن الماضي وذلك بعد اختراعها بخمسين عاما.

كان يعتبر المنزل الذي يمتلك البابور، منزلا متطورا ومتقدما، وكان ملك المطبخ دون منازع، ولقد تم استخدامه لأمور كثيرة منها الطهي ومنها التدفئة، وكان يرفع من قيمة العروس التي يضم جهازها بابورا أنيق المظهر مصنوعا من النحاس، له طربوش يتحول لونه إلى أرجواني، يدفع اللهب إلى أن يعانق الهواء ليتمايل بغنج ودلال، ما يميز هذا “البابور” أو “الجونة” أو” الوابور” كما كان يطلق عليه في أماكن كثيرة من وطننا العربي، “الحكاشة” أو كما كانت تعرف في لبنان “إبرة البابور” التي إن لم يتم استخدامها لا يحترق الكاز بطريقة جيدة .

اليوم قد تدخل بعض المنازل، لتجد البابور قطعة معروضة كتحفة قديمة تراثية في غرف الجلوس، يتباهى بها أصحاب الدار.

في الحقيقة انقرض البابور، ولكن أبناء غزة في الحصار ومن معاناتهم مع ندرة، الغاز أعادوا استخدامه فالحاجة تحيي ما مات، وتبث في أوصاله من جديد كاز الحياة .

للبابور في ذاكرتي حكاية أخرى، انبثقت من خفايا غير مفهومة لي، حين كنا صغارا، سمعنا عن ملائكة في حكايا الأطفال أو عن مخلوقات شفافة ترافق الطفولة، لتمنحها الأمان وتغذي براءتها، قرأنا كثيرا عن أليس وعجائب عالمها وسندريلا ومخلوقات ساندتها، وأميرات وفقيرات، دائما هناك من أنقذهن من وحدة أو ألم أو فارس يغير معادلات الحياة .

اعترف اليوم أن منقذي كان “بابور الكاز” صوته كان ملجئي ورائحته النفاذة تعني أن النوم اقترب وأن الحلم ما زال متاحا في زمن الحروب القذرة، كنت أتقوقع قربه لأصغي إلى هديره هاربة من أصوات القنابل والموت الحاقد على الطفولة، كنت أتمدد كسحلية تتماهى مع غرابة الألوان، وأغلق على صوته أذناي، كنت أدخل عالمه لأجد الأمان، لم تكن تهدأ جفوني إلا وأنا أتأمل ذاك اللهب، كان اللحن الذي لا يسمعه غيري، كان منقذي ومخلوقي الشفاف، تمازجت معه حتى بت لا أتقن النوم إلا على صوته .

إنها الحرب يا سادة، ولأبطالكم وجوه وأرجل وعقول وامتدادات ولبطلي هدير ورائحة وسلام .

إنها الحرب يا سادة، مقصلة الموت بيد الجهل والأجساد الطرية تتناثر بلا رحمة، والعالم من حولي غضب وطائفية وأنا هادئة أعانق بعينيّ نار البابور وأتنفس عطره لأنجو وللمفارقة نجوت ..