الملف السياسي

أداة فعالة للتنويع الاقتصادي والتشغيل !!

17 سبتمبر 2018
17 سبتمبر 2018

د. عبد الحميد الموافي -

إن حكومة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم - حفظه الله ورعاه - اتخذت خطوات عديدة ، مدروسة وعملية وفعالة ، لتشجيع المشروعات الصغيرة والمتوسطة ، بدءا من المسابقات لتشجيع البحوث ومشروعات التخرج التي يقترحها الطلبة والقابلة للتحول الى شركات ومشروعات قادرة على إنتاج منتجات محددة ومطلوبة.

على امتداد الأعوام الثمانية والأربعين الماضية من عمر مسيرة النهضة العمانية الحديثة حقق الاقتصاد العماني نقلة نوعية كبيرة ، ومر المجتمع العماني بمراحل متتابعة من التنمية المخططة ، والتي استطاعت عبر خطط خمسية متتابعة ، ورؤية مستقبلية للاقتصاد العماني هي « عمان 2020 »، تحقيق تقدم وازدهار كبيرين وملموسين أيضا في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والخدمية وغيرها ، وهو ما ينعم بثماره المواطن العماني أينما كان، ويستفيد به المستثمر والزائر والسائح والمقيم بأشكال ودرجات مختلفة. ولكن برغم الكثير مما تحقق في مختلف القطاعات ، إلا ان التطور لا يتوقف ، ومتطلبات التنمية والتقدم تتجدد وتتزايد ، ليس فقط بفعل الزيادة المستمرة في عدد السكان ، سواء على مستوى المواطنين - وهو من أعلى المعدلات - أوعلى مستوى المقيمين الذين تجاوز عددهم النسبة التي تحدث عنها حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم – حفظه الله ورعاه - قبل سنوات وهي نسبة 30 في المائة تقريبا من عدد المواطنين ، والذين يصل مجموعهم - مواطنين ومقيمين - الى نحو أربعة ملايين ونصف المليون نسمة ، ولكن أيضا بفعل التطور الاقتصادي والاجتماعي والتقدم التقني ، وتطور متطلبات المراحل الأعلى من مستويات المعيشة التي ينتقل إليها المجتمع مرحلة بعد أخرى . وما كان كافيا وجيدا بالنسبة لجيل ، يصبح غير كاف وغير مقنع بالنسبة لأجيال تالية ، وتقدم الهواتف الذكية -على سبيل المثال - نموذج شديد الوضوح في هذا المجال ، وفي تفاوت الاحتياجات والمتطلبات بين الأجيال ، وحتى بين الآباء والأبناء في كثير من الأحيان .

وإذا كان الاقتصاد العماني قد اعتمد بحكم الإمكانيات المتاحة على إنتاج النفط في توفير النسبة الأكبر من العائدات الحكومية، وهو الحال نفسه في كل الدول النفطية في المنطقة وخارجها ، باستثناءات قليلة ، في دول مختلفة الظروف والمستوى الاقتصادي ، فإنه من حسن الحظ ان المجتمع العماني ، بطبعه وتاريخه ، هو مجتمع حضاري عامل ومنتج ، وان المواطن العماني يقدر العمل، ويقبل به وعليه طالما هو متاح ويوفر له احتياجاته ، ومما له دلالة في هذا المجال ان مهن الزراعة والصيد ظلت لسنوات طويلة وحتى وقت قريب ، من المهن التي تجتذب الأعداد الأكبر من المواطنين ، وإن كان ذلك يتغير الآن بفعل بروز واتساع قطاعات اقتصادية أخرى تجتذب أعدادا كبيرة ومتزايدة من المواطنين والمقيمين كقطاعات الخدمات والتقنية والإنشاءات ، وهي القطاعات التي ازدهرت وتواصل ازدهارها ، نظرا للتطور الاقتصادي والمراحل الأعلى للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع. فالمواطن العماني يقدر أهمية وضرورة العمل ، ويبحث عنه ، وان كان كثيرون من الشباب يفضلون العمل في القطاع الحكومي لتفاوت المزايا بين القطاعين الحكومي والخاص ، وقد تنبهت الحكومة لهذا الجانب ، وعملت بشكل فعال من اجل تقليل فجوة الامتيازات بين القطاعين الى حد كبير ، وهو ما جعل القطاع الخاص اكثر جاذبية بالنسبة للشباب النشط والمتطلع الى تحقيق تقدم كبير في حياته الوظيفية والمهنية والاجتماعية أيضا ، وهو ما لا توفره الوظائف الحكومية المحكومة بالعلاوات الدورية والترقيات المحسوبة بالسنين والروتين المعروف ، هذا فضلا عن ان القطاع الحكومي قد تشبع بالعاملين ، على الأقل في المرحلة الراهنة ، وهو ما يعني عدم قدرته على استيعاب أعداد جديدة من العاملين ، ولذا فإن القطاع الخاص والتشغيل الذاتي والمشروعات الخاصة هي السبيل لاستيعاب الأعداد المتزايدة من الخريجين والباحثين عن عمل ، وطاقاتهم وتطلعاتهم الكبيرة نحو حياة افضل ومستقبل تتزايد متطلباته لاعتبارات كثيرة . في هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد الى عدد من الجوانب ، لعل من أهمها ما يلي :

*أولا: ان الاقتصاد العماني ، الذي يشهد تنفيذ خطة التنمية الخمسية التاسعة ( 2016 - 2020 ) وهي الخطة الأخيرة في الرؤية المستقبلي للاقتصاد العماني ( عمان 2020) التي استمرت من 1996 حتى الآن وتستمر حتى نهاية الخطة الحالية ، لم يعد فقط في حاجة الى تنويع مصادر الدخل ، والحد من الاعتماد على العائدات النفطية ، خاصة في ظل التذبذب المستمر في أسعار النفط في الأسواق العالمية ، والتأثر الشديد للعائدات التي تتوقف على أسعار برميل النفط في الأسواق العالمية ، ولعلنا نتذكر ما حدث في منتصف الثمانينات ، وفي أواخر التسعينات ، وفي منتصف عام 2014 من انهيار أسعار النفط ، واستمرار هذا الانهيار على مدى الأعوام الثلاثة الأخيرة ولم تتحسن الأسعار إلا مع بداية هذا العام وبشكل نسبي ، ولكن الاقتصاد العماني اصبح يمتلك القدرة العملية على تحقيق درجة أعلى واكبر من التنويع الاقتصادي ، ليس بشكل نظري أو مأمول ، ولكن بشكل عملي وحقيقي ، وذلك بالنظر الى ان ما تحقق خلال السنوات الماضية يوفر له أرضية مناسبة وقادرة على السير في خطط وبرامج التنويع الاقتصادي بشكل حقيقي ، فهناك الآن البنية الأساسية المتكاملة ، وهناك التوسع في الاستعانة بالتقنيات الحديثة ، في إطار الحكومة الإلكترونية والتحول الى الاقتصاد الرقمي ، وهناك أيضا الكوادر الوطنية المؤهلة والمدربة جيدا كذلك والقادرة على التعامل مع متطلبات التحول الرقمي ، كما ان هناك السوق المتسع القادر على استيعاب هذه النقلة التي تسعى الى الحد من الاعتماد على العائدات النفطية ، وتعظيم مساهمة القطاعات الأخرى بشكل متزايد ومدروس أيضا . جدير بالذكر انه إذا كانت الدعوة لتنويع الاقتصاد والحد من الاعتماد على النفط تعود الى سنوات عديدة ، إلا ان تحقيق هذه الدعوة عمليا يحتاج الى أرضية اقتصادية يوفرها الاقتصاد العماني بقطاعاته المختلفة وتحتاج الى كوادر مؤهلة ومدربة والى انتشار الوعي بأهمية المشروعات الخاصة ، وهذه كلها متوفرة الآن ، وعلى نحو لم يكن متوفرا من قبل لأسباب موضوعية ، خاصة إذا أدركنا ان التطور الاقتصادي العماني بدأ من الصفر في عام 1970 ، وان اول خطة تنمية خمسية بدأت عام 1976 ، واستمرت الخطط الخمسية متتابعة ، وهذا العام 2018 هو العام الثالث في خطة التنمية التاسعة ( 2016 - 2020 ) وعلى ذلك فإنه يمكن القول بأن البيئة الاقتصادية والاجتماعية الآن باتت مؤهلة وقادرة على تحقيق هذا الهدف ، الذي تمنحه حكومة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم - اعزه الله - الأولوية ، عبر البرنامج الوطني لتعزيز التنويع الاقتصادي ( تنفيذ ) .

*ثانيا : ان الخبرة الاقتصادية والاجتماعية للمجتمعات الصناعية تشير بوضوح الى الأهمية الكبيرة للمشروعات الصغيرة والمتوسطة كركيزة أساسية للنهضة الصناعية ، والنمو الاقتصادي وللتغير الاجتماعي ايضا . وإذا كانت المجتمعات الأوروبية والآسيوية التي تسبقنا قد مرت بهذه المرحلة، وحتى الاقتصاد الصيني يعتمد عليها في انطلاقته الكبيرة والمخيفة بالنسبة لقوى اقتصادية أخرى في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية ، فان المشروعات الصغيرة والمتوسطة تشكل بالنسبة للاقتصاد العماني أداة شديدة الأهمية ، لبناء وتوسيع قاعدة صناعية واقتصادية شديدة الأهمية لتطور المجتمع خلال السنوات القادمة، ليس فقط فيما يتصل بالقدرة على بناء قطاع من المهنيين المهرة، ومن الصناعات المغذية لقطاعات مهمة ، ومنها قطاع التنقيب عن النفط ومستلزماته على سبيل المثال وقطاع صناعة السيارات والتي بدأت بشائرها في الظهور وفي الصناعات التقنية وغيرها من الصناعات التي يمكنها إحلال الكثير من الواردات بتوفير منتج عماني يتمتع بمواصفات قياسية ومستوى جيد لا يقل عن مستوى المنتجات الأخرى ، وفي الوقت نفسه يعتمد على خامات محلية متاحة ومتوفرة ، ولكن أيضا فيما يتصل بالقدرة على استيعاب أعداد متزايدة من الخريجين والباحثين عن عمل ، سواء في مشروعات القطاع الخاص ، وهي تتزايد بشكل كبير ومستمر ، عبر تشجيع الحكومة للاستثمار المحلي والأجنبي، أو من خلال رواد الأعمال والتشغيل الذاتي واجتذاب مزيد من الشباب الطموح لشق طريقه في مجال إنشاء المشروعات الفردية وإنشاء صناعات صغيرة يمكن ان تكبر وتتطور في المستقبل ، وهو أمر له مردوده الاقتصادي والاجتماعي أيضا ، لأن اتساع هذا القطاع؛ الصناعات الصغيرة والمتوسطة في المجتمع يؤثر في ديناميكية المجتمع الاقتصادية والاجتماعية بكل ما يترتب على ذلك من نتائج . وهو أمر يستحق متابعة العمل لتحقيقه والتوسع المستمر فيه على أسس مدروسة ، خاصة في ظل الانحسار التدريجي والمتزايد لدور الدولة لاعتبارات كثيرة .

*ثالثا: ان إدراك أهمية وضرورة الدور الذي يضطلع به القطاع الخاص في التنمية الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع ، تم ترجمته في الواقع الى تشجيع مستمر وعملي أيضا ، من جانب الحكومة للقطاع الخاص العماني وغير العماني للعمل والاستثمار في كل قطاعات الاقتصاد العماني ، بل وتوفير مختلف الأطر القانونية والإدارية والتنظيمية المساعدة في هذا المجال بالتعاون مع غرفة تجارة وصناعة عمان .

وفي الوقت الذي تعاونت فيه الحكومة مع القطاع الخاص من اجل استيعاب نحو 35 ألفا من الباحثين عن عمل منذ أوائل شهر ديسمبر الماضي ، وبما يزيد على العدد المستهدف في البداية وكان 25 ألفا فقط ، وهى تجربة ناجحة تحتاج الى دراستها بعناية للاستفادة الأكبر بدروسها وجوانبها الإيجابية في الفترة القادمة ، فان برنامج ( تنفيذ) حرص من خلال لجانه التابعة له ومن خلال مختبراته المتعددة على تحقيق درجة تفاعل كبيرة وواسعة مع الشباب وفعاليات المجتمع في المحافظات المختلفة من اجل البحث فيما يتصل بسبل تنويع الاقتصاد العماني والمشروعات الممكنة في هذا المجال ، وبينما اسفر ذلك عن عدد متزايد من المشروعات ذات الأهمية للمجتمع المحلي في محافظات وولايات السلطنة المختلفة ، فإنه ألقى مزيدا من الضوء على أهمية وضرورية تنشيط وزيادة الوعي بأهمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة، كأداة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية ، وللتشغيل أيضا ، وبما يتكامل مع برامج وخطة التنمية التي تتبعها الحكومة ، الآن وفي إطار الرؤية المستقبلية ( عمان 2040) التي يتم إعدادها الآن ، وهو ما يحقق درجة أعلى ومطلوبة من التكامل بين الجهود المختلفة ، وفي الوقت ذاته توفير فرص عمل يمكنها استيعاب مزيد من الباحثين عن عمل .

من جانب آخر فإن حكومة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم - حفظه الله ورعاه - اتخذت خطوات عديدة ، مدروسة وعملية وفعالة ، لتشجيع المشروعات الصغيرة والمتوسطة ، بدءا من المسابقات لتشجيع البحوث ومشروعات التخرج التي يقترحها الطلبة والقابلة للتحول الى شركات ومشروعات قادرة على إنتاج منتجات محددة ومطلوبة ، وحتى تقديم المشورة والدعم للمشروعات الصغيرة والمتوسطة ، سواء نصائح تتعلق بدراسة الجدوى والإسهام في حل المشكلات التي قد تتعرض لها بعض المشروعات الصغيرة والمتوسطة ، وهو ما يقدمه صندوق تنمية مشروعات الشباب ( شراكة ) والهيئة العامة لتنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ( ريادة ) ووزارة التجارة والصناعة وغرفة تجارة وصناعة عمان ، أو من خلال توفير سبل التمويل المناسبة والميسرة للمشروعات الصغيرة والمتوسطة من خلال صندوق الرفد ، ومن خلال زيادة الحد الأعلى للقروض التي يمنحها ، ومن خلال قروض بنك التنمية العماني ، ومن خلال حث البنوك التجارية على تمويل المشروعات المختلفة ، ومن خلال تخصيص نسبة 10 % من مناقصات الشركات والمشروعات التي تنفذها الدولة لصالح المشروعات الصغيرة والمتوسطة ، وتوفير مشروعات متنوعة ومدروسة أيضا في قطاع السياحة وقطاعات أخرى ، وهو ما يجتذب مزيدا من الشباب . ومع ذلك فإنه تظل هناك حاجة لمزيد من الجهد الإعلامي والثقافي للعمل على زيادة الوعي والإقناع بأهمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة ، ليس فقط للشباب المقبل على العمل ولكن أيضا إقناع الأسر بالعمل والتعاون لتشجيع أبنائها لإنشاء مشروعاتهم الخاصة والتحول الى رجال أعمال ، وترك الوظائف للكسالى أو غير الطامحين ، فالمشروعات الخاصة تعطي أصحابها بقدر ما يعطونها من جهد واهتمام ومتابعة، لأن النجاح لا يتحقق صدفة بالتأكيد.